

لم ينطق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهذه الكلمات مؤخراً إلا من خلفيّة “طاقوية” يستثمرها في السياسة باتقان ويهرب بها إلى الأمام. هو لطالما أولى في كلماته هذه المسألة الأهمية البالغة، بل أنها كانت جزءاً من برنامجه الانتخابي الذي وظّفه في الدعاية كدليل على قدرته على تحقيق نمو واقتصاد مستقرّين للكيان، ولا سيما في ما يتعلق بتصدير الغاز، لا بوصفه قضية ثانوية، وإنما كرؤية استراتيجية سياسةً واقتصاداً.
وكان نتنياهو قد صرّح قبل شهر واحد من اندلاع أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر أن التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي سعودي أمر قد يؤدي إلى فتح ممر جديد للكهرباء وربط أوروبا بالهند عبر الشرق الأوسط (مشروع الممر الهندي).
وتسعى إسرائيل في أكثر من مشروع في مجال الطاقة يحيلها كمصدّر أساسي لأوروبا خصوصاً، وذلك من قبيل مشروع EastMesd وهو خط أنابيب بحري يخطط لربط حقول الغاز الإسرائيلية بطاقة تشغيلية، ومشروع كابل بحري EuroAsia يصدّر الكهرباء المتجددة إلى اليونان ثم أوروبا. كما تعمل على توسيع الإنتاج المحلي لتأمين فائض تصديري.
وقد زادت من تصديرها للغاز ما يقارب ١٣.٤٪ في العام ٢٠٢٤ إلى مصر والأردن، في الوقت الذي تتطلع فيه إلى أوروبا عبر محطات تسييل الغاز في مصر، أو عبر صفقات جديدة. فهل بالإمكان أن يتحقّق كل ذلك في مناخ من الصراع وعدم الاستقرار في المنطقة، وفي ظلّ وجود تهديدات تحيط بإسرائيل؟
ليس السؤال وليد اللحظة. كان للمراقب أن يطرحه قبل عامٍ واحدٍ بالتمام على أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، حين وقّع الطرفان اللبناني والإسرائيلي اتفاق ترسيم بحريّ، مُكّن لبنان على إثره من استثمار حقل قانا، فيما ضمنت إسرائيل بعده تطوير حقل كاريش، في إطار مشروع طاقوي استراتيجي يربطها بأوروبا.
تعتبر ورقة الطاقة حتى الآن ورقة رابحة نسبياً في الضغط على إسرائيل إذا ما قرّر أطراف “المحور” اعتماد لعبة الضغط المضاد، نظراً للتبعات السلبية على مسألة الطاقة، إذ أن “قيمة” اسرائيل الجيوسياسية تضاعفت أضعافاً بعد اكتشاف مقدراتها الطاقوية، وبعد القرار الأوروبي بإيجاد بدائل أبدية عن روسيا
حرب كان لا بد منها
تُحيلنا الذاكرة القريبة إلى بعض الأحداث والمواقف التي جرت قبيل إبرام الاتفاق اللبناني الإسرائيلي.. جوٌّ مشحون ترقّب معه اللبنانيون والمتابعون إمكانية اندلاع تصعيد أمني بين الجانبين: أطلق حزب الله يومها ثلاث طائرات مسيرة نحو منصة كاريش كجزء من الضغط لأجل أن تحقق الدولة المكاسب المرجوّة.. فيما كان لافتاً للانتباه تصريح وزير الدّفاع الإسرائيلي في ذاك الوقت: “أي مسّ بمنشآت الغاز سيقابل برد شامل، وستكون البنى التحتية في لبنان من بين الأهداف”، بالإضافة إلى بعض التصريحات العلنية من مسؤولين أمنيين من قبيل أن الغاز عنصر استراتيجي، وأن أمنه لا يقل عن أمن حدود تل أبيب.. وقد عمدت اسرائيل إثر ما أقدم عليه حزب الله على تعزيز وجود السفن البحرية قرب الحقول.. والطائرات الاستطلاعية فوقها.
هل كان يُمكن لإسرائيل أن تنخرط في مثل هذا المشروع الطاقوي الاستراتيجي الكبير من دون أن تضمن قدرة الردع للتهديدات المحيطة بها وصولاً إلى إنهائها؟ ألم تكن الحرب على لبنان حتمية خصوصاً وأن أي مناخ غير مستقرّ، كبديهة، من شأنه أن يُضرّ بمصلحة إسرائيل، بل يُضرّ بأمن أوروبا الراغبة في استخدام غاز شرق المتوسط بدلاً عن الغاز الروسي؟ والجدير ذكره في هذا السياق أنه بعد “طوفان الأقصى” في تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، أوقفت إسرائيل إنتاج الغاز من حقلي تمار ولفياتان إلى أوروبا، وأدى ذلك إلى ارتفاع فوري في أسعار الغاز. وبرغم استئناف الانتاج في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، إلا أن التدفقات انخفضت حتى نيسان/أبريل، ما أدى إلى توقف مؤقت للإمدادات وتذبذب للأسعار في الأسواق الأوروبية. لقد دفعت التهديدات الأمنية بمشروع EastMed إلى تأجيله أو تأخير تنفيذه بشكل كبير.
وفي السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيو ٢٠٢٤، أعطى وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين الضوء الأخضر لمشروع توسعة مقترح لحقل ليفياتان يمتد على عدة سنوات، تبلغ قيمته ٥٠٠ مليون دولار. كان حزب الله قد نشر قبل أربعة أيام من قرار كوهين هذا شريط فيديو يُهدّد فيه أهدافاً محتملة في إسرائيل، العديد منها مرتبط بشكل مباشر بالطاقة.
ثلاثة أشهر بعد هذا التاريخ، واندلعت “حرب لبنان الثالثة”. خطّطت اسرائيل في مدى زمني طويل؛ رسّمت الحدود البحرية لتقليل الاحتكاك مع حزب الله (بموجب الاتفاق مُنحت شركة توتال الفرنسية حق التنقيب في البلوك ٩ اللبناني، ما اعتبرته اسرائيل سبباً لضمان التهدئة على اعتبار أن وجود شركات غربية كبيرة قد يؤدي إلى ضغوط دولية تدفع نحو عدم تعريض المنصات لأي خطر)؛ عززت الردع إن جاز التعبير عبر التهديدات العسكرية (والإجراءات العملية)، واستعدت عسكرياً بشكل مسبق لضرب التهديد اللبناني.. ثم نفذت في الوقت الذي يلائم مصالحها. وبالتالي قياساً، هل تشي تصريحات نتنياهو المستجدّة أعلاه بأن مهمّة تأمين خطوط الطاقة شارفت على الانتهاء، وأن مناخ التسوية سيفرض نفسه في الأيام المقبلة، أم أنها على العكس تمهّد وتعبّد له الطريق لمزيد من الضربات المؤذية، سواء لحزب الله أو لإيران أو لليمن الذي بتهديده أمن الملاحة البحرية يؤثر بشكل مباشر على تكاليف الشحن والتأمين على ناقلات النفط والغاز، وكذلك على موثوقية سلاسل التوريد؟ وهل يعني أن النتائج التي حققتها إسرائيل طمأنت الفاعل الأوروبي أيضاً في هذا الإطار؟
خلصت دراسة نشرت في “policy center of the new south” في شباط/فبراير من العام الجاري، إلى أن الصراع الدائر حالياً يشكل تهديدا مباشرا للطموحات الأوروبية في استخدام غاز الشرق الأوسط، وأن شركات كبرى اختارت إعادة تقييم وجودها مع إبداء شكوك في استمرارية نشاطها بسبب المخاطر الأمنية، وأن استمرار هذا الصراع من شأنه أن يُديم حالة عدم الاستقرار ويعطل خطط تصدير الغاز.. وقد يؤدي توسيع رقعته إلى خطر إغلاق مضيق هرمز (يمر عبره ٢٠٪ من النفط العالمي و٣٠٪ من الغاز المسال)، كما إلى ارتفاع أسعار النفط وانقطاع أو تباطؤ واردات الغاز من الخليج إلى أوروبا وآسيا.
هذه المرحلة حاسمة ومهمة بالنسبة للجانب الإسرائيلي من الزاوية الطاقوية نفسها. ففي حال كان يلتمس أن الخطر ما زال يتهدده من جواره، فإنه لن يطوي هذه الصفحة من دون الانقضاض السريع لتأمين الوضع.. أما في حالة اطمئنانه إلى محدودية قدرة أعدائه على إلحاق الضرر، فإنه سيدخل في هدنات لا يوقف خلالها خطة إضعاف خصومه
إسرائيل الإقتصادية.. والكولونيالية
عود على بدء، فمن خلال تصريحاته الأخيرة، يبدو نتنياهو وكأنه قد دشّن مساراً جديداً يُلمحُ إليه تصريحه الطاقوي هذا. هو يُوجّه الرأي العام الداخلي نحو الاقتصاد والطاقة هذه المرة لا الحرب، ويبعث إلى الخارج لطمأنة المستثمرين، بعد أن أشبع الأيام الأخيرة بالتصريحات التي توحي بأنه أنهى الخطر الحقيقي للمحور سواء تعلّق الأمر بالرأس أو بالأذرع. وكأنه بات الآن على استعدادٍ للانتقال إلى الخطوة التالية. يمكن ربط ذلك بتصريحاته في آب/أغسطس من العام المنصرم عن خطة غزة ٢٠٣٥، بحيث يرمي بعد إنهاء الحرب في قطاع غزة والتخلص من حكم حماس إلى إنشاء منطقة تجارة حرة على كامل القطاع، بالإضافة إلى مدينة سديروت، كما في جزء من مدينة العريش المصرية، ليصار بعدها إلى بناء مشاريع ضخمة للطاقة الشمسية، كما غيرها من المشاريع. ويحتاج ذلك طبعاً إلى مناخ مهيأ من التطبيع في المنطقة، يستعجله دونالد ترامب مؤخراً، وهو القادم إلى الرئاسة الأميركية بوعود إحلال السلام.
وإن صحّت المقايضة الحاصلة بين ترامب ونتنياهو، بأن يدفع الرئيس الأميركي نحو تخليص “بيبي” من المحاكمة في إسرائيل بتهم عديدة، في مقابل انخراط الأخير في مسار التسوية، التي لا تمنع إسرائيل من استكمال خططها في تطويق المحور من دون الانزلاق إلى خطر الحرب، فهذا له دلالاته أيضاً.
يعني كل هذا أن هذه المرحلة حاسمة ومهمة بالنسبة للجانب الإسرائيلي من الزاوية الطاقوية نفسها. ففي حال كان يلتمس أن الخطر ما زال يتهدده من جواره، فإنه لن يطوي هذه الصفحة من دون الانقضاض السريع لتأمين الوضع.. أما في حالة اطمئنانه إلى محدودية قدرة أعدائه على إلحاق الضرر، فإنه سيدخل في هدنات لا يوقف خلالها خطة إضعاف خصومه.
في المقابل، تعتبر ورقة الطاقة حتى الآن ورقة رابحة نسبياً في الضغط على إسرائيل إذا ما قرّر أطراف “المحور” اعتماد لعبة الضغط المضاد، نظراً للتبعات السلبية على مسألة الطاقة كما هو آنف للذكر في المقالة أعلاه، إذ أن “قيمة” اسرائيل الجيوسياسية تضاعفت أضعافاً بعد اكتشاف مقدراتها الطاقوية، وبعد القرار الأوروبي بإيجاد بدائل أبدية عن روسيا. اسرائيل الاقتصادية اليوم أهم من اسرائيل الكولونيالية بالنسبة للغرب، وهذا ربما ما يُفسّر هذا الاستشراس الألماني في الدفاع عنها، علماً أن ألمانيا هي الدولة الأوروبية الأكثر حاجة إلى البديل الغازي. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن تفسير الإبادة الحاصلة في غزة، ذلك أن الغرب الامبريالي لا تهمه العقائد والأخلاقيات ولا اسرائيل الصهيونية بحد ذاتها، بل إنه يندفع دائما بتوحش تام عندما يتلمس خطراً اقتصادياً مقبلاً. وبالتالي فإن إسرائيل (ومن يشبهها في المنطقة من حيث امتلاك الموارد والانصياع السياسي) باتت بكل ما تعنيه الكلمة من معنى مستعمرة غربية تدار بأبعاد إقتصادية.
وعليه، فإن كل مسارات الأمور تقول أننا أمام أسابيع حاسمة في تحديد وجهة الأحداث في المنطقة من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية ما بعد “الطوفان”، والتي يبدو أنها باتت قريبة جداً، وبتكاليف غير باهظة كسواها على ما يبدو.