

شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية ومعها حلف “وارسو”، في العام 1991، فرصة كبيرة للولايات المتحدة لكي تتسيّد العالم وتتولى إدارة الكوكب كقطب واحد لا شريك له ولا منافس. لم تضع أميركا ثانية واحدة لأجل تثبيت انتصارها التاريخي، وكنا شهوداً على إطلاق ثورات متعددة الألوان في دول كانت في قلب “المعسكر الإشتراكي” قبل أن تنضم إلى حلف شمالي الأطلسي (الناتو) أو إلى الاتحاد الأوروبي الذي يشكل في عددٍ كبيرٍ من دوله جزءاً من “الناتو”.
كانت إيران قد خرجت لتوها في العام 1988 من ثماني سنوات طاحنة من الحرب مع العراق؛ حربٌ ذهب ضحيتها ملايين العسكريين والمدنيين، لتنتقل بعدها إيران إلى صياغة استراتيجية نقل المعركة من أرضها من خلال تثبيت نفوذها الإقليمي عبر دعم حركات المقاومة في عدد من دول المنطقة. واستفادت إيران من لحظتين سانحتين أولاهما الاحتلال الأميركي لأفغانستان (2001) وثانيتهما احتلال العراق (2003) لتعزيز نفوذها الإقليمي. فدعمت – بصورة غير مباشرة – المقاومة في أفغانستان، وبصورة مباشرة المقاومة في كل من فلسطين والعراق ولبنان. كما أنها ثبتت تحالفها مع النظام البعثي في سوريا، وتمكنت من تثبيت نفوذها في اليمن مع احكام أنصار الله (الحوثيون) سيطرتهم على العاصمة، صنعاء.
مع الوقت، نامت إيران على حرير الانتصارات التي حقّقها حلفاءها في تلك الدول، وأخذ بعض قادتها يطلقون تصريحات فيها الكثير من التبجح بأنهم باتوا “يسيطرون على أربع عواصم في الشرق الأوسط”، وأن بإمكانهم “محو الكيان الصهيوني من الوجود خلال سبع دقائق”، وإن دلَّت هذه التصريحات على شيء فهي تدلُّ عن جهلٍ لطبيعة العدو الذي تواجهه إيران. فالعين الأميركية لم تكن نائمة أبداً، ولا لاهية عمَّا يحصل. بالعكس، وبعد أن استكان الأمر إلى حدّ ما بالنسبة لواشنطن في وسط أوروبا وفي أطرافها وتحقق أقصى ما يمكن تحقيقه نسبياً، قرّرت تثبيت نفوذها في الشرق الأوسط عبر القول في العديد من الساحات: “الأمر لي”.
إن فهم إيران الواقعي لطبيعة العدو الذي تواجهه يُحتّم عليها أن ترى أن “إسرائيل” ليست سوى قاعدة عسكرية متقدمة لأميركا وحلفائها الغربيين في الشرق الأوسط، وأن الحرب معها ليست سوى واجهة للحرب مع التحالف الأميركي الغربي.. وبالتالي لا تستطيع وحدها محاربة هذا التحالف، وإذا قرّرت الاستمرار في الحرب من دون تعديل استراتيجي دفاعي وعسكري في تحالفها مع الصين وروسيا، فإن ذلك سيقودها إلى النتيجة نفسها التي حصل عليها الإمام الحسين في واقعة كربلاء
من هنا جاءت نظرية “الفوضى الخلّاقة” للمحافظين الجُدُّد في واشنطن للتعامل مع دول الشرق الأوسط في ظلّ الانشغال الأميركي في أوروبا، وذلك إما عبر ثورات محقة في الهدف لكنها تفتقر إلى قيادات منظمة وصاحبة برنامج بديل. وإما عبر خلق تنظيمات أصولية سلفية تُزعزع البنى الاجتماعية في دول المنطقة، وابتداع صراع مذهبي (سني – شيعي) يشتّت الأنظار عن الصراع الأساسي في فلسطين المحتلة من جهة ويوجهها صوب العدو الأساسي لواشنطن وليس للعرب: إيران من جهة أخرى. وكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأخواته العماد الأساس لهذه النظرية، وفتحت الأبواب لهذه التنظيمات على مصراعيها تدريباً وتمويلاً من أميركا وحلفائها بحسب اعترافات القادة الأميركيين أنفسهم، ما ساعد هذه التنظيمات في أن تؤمن مسرح العمليات لواشنطن للعودة بعسكرها تحت عنوان محاربة “داعش”، الوحش الذي كانت هي من خلقه.
وفي خضم الحرب على “داعش”، التي دخلت فيها كل دول المنطقة تقريباً، إما دعماً للتنظيم حيث تقتضي حاجتها أو محاربته، استفادت إيران لتعزز أيضاً نفوذها عبر محاربة هذا التنظيم. وكان رأس الحربة الإيرانية الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري، الذي كان حاضراً في كل ميادين القتال في العراق واليمن ولبنان وسوريا فيما كانت “ملائكته” حاضرة في قطاع غزة والضفة الغربية. كما كان العقل المحرك للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. من هنا، شكّل اغتياله، بأمر من دونالد ترامب شخصياً، في العام 2020، منعطفاً استراتيجياً في الصراع في الشرق الأوسط، ومؤشراً على انطلاق الهجوم الأميركي المضاد.
ترافق كل ذلك مع صعود صاروخي للصين على المسرح الدولي لتصبح القوة العالمية الأكثر منافسة لأميركا على صدارة القيادة العالمية. وهي بذلك اتبعت سياسة النفس الطويل، واعتمدت، بصورة أساسية، على تطورها العلمي والاقتصادي، فنجحت في توسيع نفوذها بصورة أساسية في دول العالم الثالث، وفي القارة الأفريقية على وجه الخصوص، من دون الدخول في أي صراع مسلح في أي مكان في العالم. كما نجحت في إنشاء تكتلات دولية كبيرة مثل “البريكس” و”شنغهاي”.
كل هذا جعل واشنطن تقرع ناقوس الخطر وتشعر أن دورها كقطب أحادي في قيادة العالم نحو مزيد من الإهتزاز. فسارعت أولاً إلى الإنسحاب من أفغانستان بعد عشرين عاماً من احتلالها حيث كانت تُستنزف عسكرياً واقتصادياً من دون أن تحقق أي إنجاز لجهة تعزيز هيمنتها على هذا البلد الملقب بـ”قاهر الامبراطوريات”. كما أقامت واشنطن حلفاً عسكرياً اقتصادياً في منطقة المحيط الهادىء، على أبواب الصين، ضمَّ إلى جانبها، اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا، وحوَّلت أنظارها إلى الشرق الأوسط الذي يشكل الخطوط الخلفية لأميركا في صراعها مع الصين.
وفي الشرق الأوسط هناك أدوات أميركية لا يُستهان بها.. وبأكلاف بسيطة. فالأداة الأولى هي الكيان الصهيوني الذي استثمرت فيه الكثير من الأموال، منذ منتصف القرن الماضي. وهناك الأداة التركية التي وبمعزل عن بعض التناقضات الجانبية تبقى حليفاً موثوقاً وجزءاً لا يتجزأ من “الناتو”. وهناك الأداة العربية المتمثلة بأنظمة لا همَّ لديها سوى بقاءها، وهذا البقاء بات مرهوناً بالحماية الأميركية حيث في كل دولة قاعدة عسكرية أميركية.
في خضم هذه المشهدية، أطل “طوفان الأقصى” لكي يُزعزع الكيان الصهيوني من جهة ويُشكَّل فرصة لإطلاق هجوم عسكري أميركي مُضاد في المنطقة من جهة ثانية. ومن مؤشرات ذلك زحف كل قادة الغرب وعلى رأسهم الرئيس الأميركي السابق جو بايدن إلى تل أبيب بعد أيام قليلة من العملية، لرفع معنويات القادة الصهاينة من جهة ولوضع أسس الهجوم الأميركي المُضاد من جهة ثانية. وهنا لا بد من التنويه بأن عملية “طوفان الاقصى” ليست ذريعة كما يحاول البعض تصويرها. فلو لم تحصل لكان الهجوم الأميركي سيحصل بكل الأحوال بسبب الأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط بالنسبة لواشنطن في مواجهتها مع بكين من جهة، وللأهمية الاقتصادية الكبيرة لهذه المنطقة في إمدادات العالم بالنفط والغاز من جهة أخرى.
في المقلب الآخر، هناك إيران المنتشية بالانجازات العسكرية التي حقّقها حلفاؤها في المنطقة، لجهة إجبار “اسرائيل” على الإنسحاب من لبنان في العام 2000، وسيطرة حركة حماس والجهاد الإسلامي على قطاع غزة في العام 2007، وإجبار أميركا على الإنسحاب من العراق في العام 2008، وسيطرة الحوثيين على صنعاء في العام 2014، وإجبار أميركا على الإنسحاب من أفغانستان في العام 2020. لم يغب عن بال طهران أنها بحاجة لنسج تحالفات دولية تحمي من خلالها كل تلك الانجازات، فتوجهت شرقاً، خلافاً لمقولة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني “لا شرقية ولا غربية”، وعملت على نسج تحالف استراتيجي مع كل من الصين وروسيا. لكن هذا التحالف كان قاصراً إلى حدٍ كبيرٍ في شقه العسكري والتكنولوجي بحسب ما أظهرت تطورات الحرب الأخيرة، خصوصاً أن واشنطن وحلفاءها نجحوا في تحييد الحليف الروسي عبر تكبيل يديه وإغراقه في الحرب في أوكرانيا منذ أكثر من ثلاث سنوات. وهذه الحرب جعلت الصين أيضاَ مترددة في التورط في الشرق الأوسط، لأن لا قواعد عسكرية لها، ولأن الحليف الروسي مكبل اليدين في أوكرانيا.
مع الهجوم الأميركي بأداة “إسرائيلية” على كل من قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان، وبأداة تركية على النظام الحليف لإيران في سوريا والهجوم الأميركي المباشر على الحوثيين في اليمن، لمس القادة الايرانيون قصور تحالفهم في تثبيت نفوذهم في المنطقة. وقد كانت الغارة “الإسرائيلية” على القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/أبريل، مؤشراً واضحاً على هذا القصور، ناهيك عن غض النظر الذي مارسه الحليف الروسي على مدى سنوات عن الغارات “الإسرائيلية” على مناطق سيطرة إيران في سوريا. لذلك فقد حاولت إيران حينها العمل لوقف الحرب عبر إعلانها أنها لن ترد على قصف قنصليتها إذا وافقت “إسرائيل” ومن خلفها أميركا على وقف لإطلاق النار في غزة.
إن فهم إيران الواقعي لطبيعة العدو الذي تواجهه يُحتّم عليها أن ترى أن “إسرائيل” ليست سوى قاعدة عسكرية متقدمة لأميركا وحلفائها الغربيين في الشرق الأوسط، وأن الحرب معها ليست سوى واجهة للحرب مع التحالف الأميركي الغربي.. وبالتالي لا تستطيع وحدها محاربة هذا التحالف، وإذا قرّرت الاستمرار في الحرب من دون تعديل استراتيجي دفاعي وعسكري في تحالفها مع الصين وروسيا، فإن ذلك سيقودها إلى النتيجة نفسها التي حصل عليها الإمام الحسين في واقعة كربلاء قبل أكثر من 1400 سنة.