آلاسكا… كادت أن تكون “يالطا” أخرى!
U.S. President Donald Trump meets Russian President Vladimir Putin in Anchorage, Alaska, U.S., August 15, 2025. REUTERS/Kevin Lamarque

منى فرحمنى فرح17/08/2025
خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من قمة آلاسكا "فائزاً"، بينما خرج منها نظيره الأميركي دونالد ترامب "حزيناً ومتعباً إلى حدّ الملل".. وأفضل ما يُمكن قوله إن نتائج القمة كان يُمكن أن تكون أسوأ. وبرغم أن طرفاً واحداً فقط نال ما أراده في البداية، فإن ما سيحدث في الأيام المقبلة سيكون أكثر أهمية، بحسب أكثر من تعليق في الصحافة الأميركية.

خلال أكثر من ثمانية عقود إلتقى قادة الولايات المتحدة ونظرائهم السوفيات أو الروس مرات عديدة: منذ زيارة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت إلى طهران، عام 1943 لحضور قمة مع نظيره السوفياتي جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، إلى اجتماع ليل الجمعة السبت الماضي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير، في آلاسكا.

لم يكن لقاء القمة بين ترامب وبوتين شبيهاً بقمة يالطا (1945)، عندما سلّم روزفلت وتشرشل أوروبا الشرقية للهيمنة السوفياتية (وإن كان مع وجود خيار ضئيل في هذا الأمر). ولم يكن فيينا (1961)، حيث لم يكن نيكيتا خروتشوف معجباً بالرئيس الأميركي الشاب، جون كينيدي، لدرجة أنه تجرأ على بناء جدار برلين ووضع صواريخ نووية في كوبا. لم يكن الأمر حتى في هلسنكي (2018)، حيث قبل ترامب تأكيدات بوتين بأن روسيا لم تتدخل في انتخابات 2016 على الرغم من تحقيقات الاستخبارات الأميركية التي أفادت بذلك. ولكن، إذا لم تكن آلاسكا كارثة، فقد كانت انتصاراً واضحاً لبوتين على نظيره الأميركي.

تراجع دراماتيكي لترامب

وصل ترامب، الجمعة، إلى قاعدة “إلمندورف ريتشاردسون” المشتركة، حيث عُقدت القمة، بهدف واضح: انتزاع اتفاق وقف إطلاق النار في أوكرانيا. في هذه الأثناء، لم يأتِ بوتين إلى آلاسكا لإنهاء حرب أوكرانيا، بل لتجنب توسيع العقوبات الاقتصادية. وهكذا اختُتمت القمة بين الزعيمين قبل الموعد الذي كان متوقعاً ومن دون التوصل إلى اتفاق سلام لأوكرانيا، وهو هدف طويل الأمد لترامب.

في حديثهما للصحافيين بعد لقائهما، قال ترامب وبوتين إنهما أحرزا تقدماً، ولم يقدما سوى تفاصيل قليلة حول ما تمت مناقشته أو القضايا التي لا تزال عالقة. لكن ترامب- الذي لم يتحدث إلّا لبضع دقائق قبل مغادرته المنصة، وقد بدا “حزيناً، ومُتعباً، ويشعر بالملل”- أصرَّ على وصف اللقاء بأنه كان “مثمراً للغاية”، لكن “لا اتفاق قبل التوصل إلى اتفاق”.

بعد ساعات قليلة من الاجتماع، وفي إعلان مفاجئ، تخلى ترامب عن موقفه السابق – وموقف أوكرانيا وأوروبا – القاضي بضرورة وقف إطلاق نار شامل في أوكرانيا لإتاحة الفرصة للتوصل إلى تفاصيل اتفاق سلام، قائلاً إنه ينبغي على موسكو وكييف البدء في الاتفاق على اتفاق سلام نهائي. وكتب على منصة (Truth Social) أن “اليوم كان عظيماً وناجحاً للغاية في آلاسكا”، وأنه تحدث إلى الزعيم الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعددٍ من القادة الأوروبيين والأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأن “الجميع متفقون على أن أفضل طريقة لإنهاء الحرب المروعة بين روسيا وأوكرانيا هي الذهاب مباشرة إلى اتفاق سلام، وليس مجرد اتفاق وقف إطلاق النار، والذي غالباً ما لا يصمد”.

ويُمثل تصريح ترامب تحولاً جذرياً؛ فخلال رحلته إلى آلاسكا، قال لشبكة “فوكس نيوز” الإخبارية إنه لن يكون سعيداً “إذا خرج من القمة من دون التوصل إلى شكل من أشكال وقف إطلاق النار”. كما يُعتبر تراجعاً دراماتيكياً، وفيه تبنٍ واضح لنهج بوتين لإنهاء حرب أوكرانيا، الأمر الذي سيمكّن روسيا من مواصلة القتال من دون التعرض لخطر العقوبات الأميركية، وفي الوقت نفسه يضغط على زيلينسكي للموافقة على الشروط الروسية أو مواجهة هجمات مفتوحة.

فلطالما أصرَّ زيلينسكي والقادة الأوروبيون على أن اتفاق وقف إطلاق النار، أو خفض الأعمال العدائية، يجب أن يكون شرطاً مُسبقاً لإجراء محادثات لإنهاء الحرب. ولطالما رفض بوتين- مراراً وتكراراً- دعوات وقف إطلاق النار، ودعا إلى إجراء مفاوضات للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي، وهو موقف وصفته كييف وحلفاؤها بأنه تكتيكٌ للمماطلة من أجل تمكين موسكو من تحقيق المزيد من المكاسب في ساحة المعركة.

بوتين بطل العلاقات العامّة

شهد يوم الجمعة أول زيارة يقوم بها بوتين إلى الولايات المتحدة لإجراء محادثات مع رئيس منذ عام 2007، وأول اجتماع شخصي له مع ترامب منذ غزو الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت في مطلع العام 2022.

في لقاءٍ على مُدرج قاعدة “إلمندورف ريتشاردسون” المشتركة في آلاسكا، سار بوتين على سجادة حمراء نحو ترامب، الذي صفق له بحرارة، وصافحه، وربَّت على ذراعه. شاهد الزعيمان تحليق قاذفة شبح من طراز “بي-2″، ووقفا جنباً إلى جنب، بينما نظرا إلى عدسات كاميرات الصحافيين من دون الإجابة على أسئلتهم. ثم ركبا معاً في سيارة ترامب المُدرعة (الليموزين)، وتحدثا على انفراد من دون مُترجم – في خرق للأمن والبروتوكول الدبلوماسي (فقد درجت العادة أن لا يركب بوتين إلا سيارته الرئاسية المصفحة في كل القمم التي يعقدها خارج روسيا).

تراجع ترامب عن مطلب وقف إطلاق النار هو تبنٍ واضحٍ لنهج بوتين لإنهاء حرب أوكرانيا، ما سيمكّن روسيا من مواصلة القتال دون التعرض لخطر العقوبات الأميركية، وفي الوقت نفسه يضغط على زيلينسكي للموافقة على الشروط الروسية أو مواجهة هجمات مفتوحة

لقد شكَّل الاجتماع الذي تمَّ التخطيط له بعناية تناقضاً حاداً مع تفاعل ترامب مع زيلينسكي، عندما إلتقاه في المكتب البيضاوي، في شهر شباط/فبراير الماضي. يومها وجه الرئيس الأميركي ونائبه جيه دي فانس إنتقادات لاذعة للرئيس الأوكراني، ودارت بينهم مشادة قاسية جداً وعلنية أمام كاميرات وسائل الإعلام- في سابقة لم يكن لها مثيل في العصر الحديث.

إقرأ على موقع 180  لبنان يشتري 2021 بـ"الزور".. وبعدها "يفرجها الله"!

وبينما بدا بوتين مُنزعجاً من صراخ الصحافيين بأسئلتهم خلال القمة، عابساً ومُعبّراً عن استيائه، صوّر الإعلام الروسي الاجتماع برمته على أنه انتصار ساحق لزعيم الكرملين. وصرَّح مُعلق تلفزيوني روسي رسمي، قائلاً: “جميع محاولات تصوير روسيا كدولة منبوذة دُولياً دُمّرت في اللحظة التي صافح فيها ترامب بوتين”.

كما أعطى الظهور الصحفي المشترك؛ الذي لم يُطرح خلاله أي أسئلة؛ بوتين الفرصة لتكرار نقاط حديثه القديمة حول أهمية معالجة “الأسباب الجذرية” لحرب أوكرانيا – وهو المصطلح الذي تستخدمه روسيا عند وصف رغبتها في نزع السلاح عن أوكرانيا ومنع انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي. وكما أوضح بوتين في المؤتمر الصحفي، فإنه لم يتزحزح عن مطلبه بأن يتناول أي اتفاق سلام “الأسباب الرئيسية لهذا الصراع”.

لا عقوبات على روسيا

في تموز/يوليو الماضي، هدَّد ترامب بفرض رسوم جمركية على روسيا إذا لم تتوقف الحرب في أوكرانيا خلال 50 يوماً. ثم عاد وحذَّر، الأربعاء الماضي، من أنه ستكون هناك “عواقب وخيمة للغاية” إذا لم يوافق بوتين على وقف الحرب بعد لقائهما في آلاسكا، دون تحديد ماهية تلك العواقب.

لا يوجد ما يشير إلى أن ترامب أيد مطلب بوتين بأن تُسلم أوكرانيا المزيد من الأراضي لروسيا.. ولم يخفف العقوبات. ولو قدم تنازلات بهذا الحجم، لكانت قمة آلاسكا ستُذكر على أنها “يالطا” أخرى

مع ذلك، كان المسؤولون الروس متفائلين قبيل قمة آلاسكا، حيث صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للصحافيين بأنه كان يتوقع أن ترفع واشنطن بعض العقوبات بعد الاجتماع. كما اصطحب بوتين معه عدداً من قادة الأعمال إلى الاجتماع، وهو ما أشار إليه ترامب، قائلاً: “لن يجروا أي أعمال تجارية حتى نُنهي الحرب”.

وفي نهاية المطاف، وبرغم أن واشنطن لم ترفع أي عقوبات سابقة عقب الاجتماع، فإنها لم تُعلن على عن أي عقوبات جديدة، على الرغم من عدم وجود اتفاق من جانب روسيا على وقف الحرب في أوكرانيا.

المرة المقبلة في موسكو!

وكان ترامب قد قال قبيل القمة إنه يتوقع أن يكون هناك حاجة لعقد اجتماع آخر، يضم زيلينسكي أيضاً، للتوصل إلى اتفاق. وأشار كلٌّ من ترامب وبوتين في آلاسكا إلى استعدادهما للقاءٍ آخر، حيث اختتم ترامب مؤتمره الصحفي بالقول إنهما سيلتقيان قريباً، بينما قال بوتين مازحاً: “المرة المقبلة في موسكو“. وعلَّق ترامب قائلاً “ربما ذلك يحدث.. ولما لا.. رغم توقعي بأنني سأتعرض لانتقادات لاذعة بسبب ذلك”.

ويريد البيت الأبيض أن تعقب قمة آلاسكا “قمة سلام ثُلاثية” بمشاركة الرئيس الأوكراني، لكن يبدو أن بوتين متردد إزاء هذه الفكرة.

وأكد الزعماء الأوروبيون، الذين كانوا يعتقدون في السابق أن ترامب يتفق معهم بشأن الحاجة إلى وقف إطلاق النار أولاً، دعمهم لأوكرانيا يوم السبت، قائلين إنهم مستعدون لدعم قمة ثُلاثية..

يالطا أخرى؟

لا يوجد ما يشير إلى أن ترامب أيد مطلب بوتين بأن تُسلم أوكرانيا المزيد من الأراضي لروسيا مقابل وقف إطلاق النار (مع أنه أخبر القادة الأوروبيين على ما يبدو أن هذا سيكون أسرع طريق للسلام). كما لم يكن هناك أي اتفاق لتخفيف العقوبات الأميركية على روسيا. لو قدم ترامب تنازلات بهذا الحجم، لكانت قمة آلاسكا ستُذكر على أنها يالطا أخرى.

لم يُعلن عن أي اتفاق، لكن الزعيمين تبادلا الثناء. أثنى بوتين على نظيره بإصراره على أنه ما كان ليغزو أوكرانيا لو كان ترامب رئيساً. (…) بدا ترامب هادئاً، لكنه مع ذلك أثنى على بوتين: “شكراً جزيلاً لك، سيدي الرئيس، كان ذلك عميقاً للغاية، وأعتقد أننا عقدنا اجتماعاً مثمراً للغاية”. وأضاف ترامب، في غموض: “هناك العديد من النقاط التي اتفقنا عليها… بعض النقاط المهمة لم نتوصل إليها بعد”.

وترى الصحافة الأميركية، أنه بالنظر إلى نهج ترامب المتذبذب تجاه الحرب في أوكرانيا، فمن السابق لأوانه الشعور بـ”اليأس”. فقد ألمح ترامب للقادة الأوروبيين بعد القمة إلى استعداده لتقديم ضمانات أمنية أميركية لأوكرانيا كجزء من تسوية سلمية. وإذا صحّ ذلك، فسيكون انتصاراً كبيراً لكييف.

وأيضاً بحسب الصحافة الأميركية، فإن ترامب غالباً ما يتأثر بآخر شخص تحدث إليه. وسيزور الرئيس الأوكراني واشنطن الاثنين (غداً).. على أمل أن يكون اجتماعه في البيت الأبيض هذه المرة أقل صخباً من سابقه، الذي انتهى بشجار. لكن من غير المرجح أن يكون بنفس ودّ لقاءات ترامب وبوتين.

(*) المصادر: “الواشنطن بوست“، “النيويورك تايمز“، “أكسيوس“، “الواشنطن بوست“.

 

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إبتسم.. أنتَ الضحية، والجلاد أنتَ!