كيف نواجه مهندسي الفوضى في المشرق العربي؟

"لم تعُد السياسة اليوم مجرّد مسألة أفكار، بل أصبحت حرباً عاطفيّة مشفّرة بلغة الخوارزميّات". هكذا عبّر الكاتب جيوليانو دا إمبولي عن تلاعب "مهندسو الفوضى" (عنوان كتابه) بوسائل التواصل الاجتماعي الرقميّة وبالمعطيات الشخصيّة لتغيير معنى السياسة سعياً إلى دفع الشعبويّة إلى الصدارة وإثارة المشاعر حول العالم.

هؤلاء “المهندسون” يعملون من وراء الستارة لإثارة المخاوف وتحويل الإحباطات الشعبيّة إلى انتصارات كاذبة، حتّى في ظلّ النظم الانتخابيّة. من ستيف بانون الذي كان وراء انتخاب دونالد ترامب في الولاية الأولى (2017 – 2021)، إلى جيانبارتو كازاليجيو الذي كان وراء انتصار المهرّج بيبي غريلّو وحركة النجوم الخمس التي أنشأها في إيطاليا.

بعد أن فضح آليّات استخدام الانترنت، ذهب دا إمبولي أبعد في كتاب “زمن الحيوانات المفترسة”، ويقصد بذلك القادة السياسيين الجدد، الذين لا يسعون إلى الإقناع، بل إلى الإبهار بالحركات الدراميّة المثيرة والكذب الفاقع والتقنيات المبتكرة. هؤلاء يستخدمون المنصّات الرقميّة وخوارزمياتها والذكاء الاصطناعي، عبر “مهندسي الفوضى” وشركاتهم التقنيّة، لتشكيل المشاعر والسلوكيات الجماعية بغية فرض سلطة لا تهدف للحصول على الإجماع بل بالأحرى على دفع التطرّف. وبحيث تبقى المجتمعات والدول، كمؤسّسات، عاجزة عن مواجهة “ذكاء” السلطة “الاصطناعي” التي يقيمها هؤلاء. قد تأخذ قوّة آليّات “هندسة الفوضى” وفعاليّتها المجتمعية إلى الإحباط، إلاّ أن دا إمبولي يدعو إلى اليقظة والوعي ورفض الانبهار والحفاظ على التفكير النقدي والسياسي العمليّ في مواجهة تسارع الوسائل التكنولوجيّة واستخداماتها السلطويّة.

لم يُترجَم هذان الكتابان إلى العربيّة حتى الآن، برغم أنّهمّا يُلقيان إضاءات مهمّة على تصرّفات بنيامين نتنياهو وكيفيّة إدارة حرب إبادته ضدّ الفلسطينيين ومشروعه لتغيير المنطقة وتشييد “إسرائيل الكبرى”، سواءً تجاه الرأي العام الإسرائيلي أو العربي على السواء، وكذلك تجاه الدول الفاعلة التي لا تتحرّك لإيقاف جنونه. فهو يثير المخاوف بين الإسرائيليين أنّه وحده قادر على إنقاذهم. ويثير المخاوف والانقسامات والإحباطات ضمن المجتمعات العربيّة. مخاوفٌ ليس فقط من جبروته وقدرات جيشه على سحق من يريد بدعمٍ غير محدود من الولايات المتحدة، بل أيضاً مخاوفٌ داخل هذه المجتمعات بين الهويّات المتعدّدة، الواحدة في مواجهة الأخرى. كما يستخدم الانبهار بالتقنيّات في حروبه وبوقاحة في خطابه المفضوح.

ما يحدث في المشرق العربيّ استثنائيّ بكلّ المعايير. إذ ليست الحدود هي أصلاً التي يتمّ العمل على تغييرها، بل بالتحديد هويّة المجتمعات ومؤسّسات الدول التي أقامتها هذه المجتمعات منذ أكثر من مئة سنة. وليس سهلاً بروز الطرح الوطنيّ العقلانيّ، للحفاظ على وحدة هذه المجتمعات ومؤسسات دولها، لا أمام فائض القوّة الإسرائيليّة، ولا في مواجهة “مهندسي الفوضى” ومن ورائهم

عند قراءة هذين الكتابين، يُمكِن لأيّ متابعٍ لمدى “فوضى” الشرذمة وإلغاء السياسة عربيّاً على وسائل التواصل الاجتماعي، أن يتساءل عمّن وراء هذا التطرّف في التفرقة، وبخاصّةً أنّه يذهب أبعد بكثير في المهاترات من الفضائيّات العربية التي تبقى تابعة لدولٍ بعينها ولسياساتها وتتحمّل مسؤوليّة عمّا تبثّه؟ فهل وظّف نتنياهو وحده “مهندسي شرذمة” أم أنّ السلطات القائمة في بعض البلدان العربيّة توظّف أيضاً بدورها “مهندسي فوضى”؟

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً رئيسيّاً في حشد انتفاضات ما يسمّى “الربيع العربي”. ولكن تمّ أيضاً استخدام هذه الوسائل بكثافة لتحويل هذه الانتفاضات إلى حروبٍ أهليّة وطائفيّة. أُطلِقَت جيوشٌ الكترونيّة من قبل كافّة الأطراف الداخليّة والخارجيّة كي تبتعد حركة المجتمع عن أهداف الحرية والمواطنة والكرامة نحو التطرّف العبثيّ الذي استطال ولا أفق له. واللافت للانتباه أنّ كلّ محاولةٍ سياسيّة لإيقاف الاقتتال الداخليّ والصراع الإقليميّ بالوكالة كانت تواجه بحملاتٍ ممنهجة لشيطنة القائمين على هذه المحاولة بغية الانتقال إلى مستوى أعلى من التطرّف العبثي.

حدث هذا مثلاً عند محاولة فرض “مراقبين عرب” ثمّ “مراقبين دوليين” في بداية الصراع السوري عام 2012. وكذلك عندما دُعيَ إلى “مؤتمر وطنيّ” ضمن مبادرة المبعوث الأمميّ كوفي عنان ووضع وثيقة “العهد الوطنيّ”. تمّت شيطنة كلّ القائمين على هذه المحاولات لدفع الصراع إلى السلاح والتطرّف.. ولسنين طوال.

وحدث هذا أيضاً عندما تمّت شيطنة مقاومة غزّة والفلسطينيين وتبرير الإبادة الجماعيّة التي تقوم بها إسرائيل وإيقاف أيّة محاولة لتضامن اجتماعي عربي واسع في مواجهة التطرّف الصهيوني الذي يبدو أنّ لا حدود لإجرامه. كما يحدُث هذا منذ زمنٍ طويل في لبنان، حيث تحيي الجيوش الالكترونية لأمراء الحرب الأهليّة الاصطفافات الطائفيّة دوماً لإبقاء مؤسّسة الدولة ضعيفة مقابلهم. وترمي الدول المتلاعبة بمصير لبنان، وبخاصّةً إسرائيل، مزيداً من “الزيت على هذه النار” كي يبقى لبنان دوماً.. دون سيادة واستقلاليّة، بل حتّى دون أدنى حدٍّ من الرعاية لمواطنيه.

أمّا في سوريا، فحتّى بعد أن فرح الجميع بسقوط بشار الأسد ومع الأمل بانتهاء العقوبات الدولية ولا سيما الأميركية وبدء التعافي والإعمار، لعب “مهندسو الفوضى” دوراً أساسيّاً لتوجيه الأمور بعيداً عن مصالحة وطنيّة شاملة تعيد توحيد البلاد وبناء دولة للجميع والعمل على تضميد جراحات المجتمع، من دون أي استبداد. ويستغلّ “مهندسو فوضى” جراحات الصراع الطويل، ليُسعِّروا تطرّفاً عبثيّاً يأخذ إلى صراعات تقوّض الآمال. هذا “كافرٌ”، وهذا “فلولٌ”، وهذا “عميلٌ”، وهذا “انفصاليٌّ” إلخ.. وتنفلت جيوشهم كلّما ظهر امتعاضٌ أو نقدٌ لسياسات السلطات الحاليّة أو لانتهاكاتها بحقّ فئات من المجتمع. كي يتحوّل الانتباه عن الدور المفترض لأيّة سلطة مسؤولة أنّها تسعى لحماية المجتمع والدولة وأنّها يجب أن تبقى دوماً، وبخاصّةً في مرحلة حساسة مثل التي تمرّ فيها البلاد اليوم، وهي مرحلة قابلة للنقد والمحاسبة.

إقرأ على موقع 180  لافروف عبر "يديعوت": لا بديل لحل الدولتين

واللافتٌ للانتباه أنّ الشعارات التي يتلاعب بها “مهندسو الفوضى” ومن ورائهم تذهب دوماً لإحياء ماضٍ مجيد افتراضيّ، بدل وضع حلمٍ “تقدّميّ” للمجتمع وأسسٍ وآليّات تحقيقه، مهما كانت الصعوبات والعقبات أمام ذلك. أيضاً من اللافت للنظر أنّ “مهندسي الفوضى” يذهبون إلى حد تشكيك المجتمع بهويّته الجامعة، كي لا تبقى سوى طوائف وإثنيّات وعشائر. ولافتٌ للانتباه أيضاً أنّ الفوضى التي يتمّ هندستها تتمّ معالجتها بمشهديّات مبالغة لاحتواء تفجّرها. مشهديات لا تأخذ بعد فتور بهرجتها سوى إلى إحباطات جديدة لأنّها كما الفوضى لا توصِل إلى أيّ برّ. ولا بدّ من تصعيدٍ جديدٍ في “هندسة الفوضى” لاحتواء هذه الإحباطات.

ما يحدث في المشرق العربيّ استثنائيّ بكلّ المعايير. إذ ليست الحدود هي أصلاً التي يتمّ العمل على تغييرها، بل بالتحديد هويّة المجتمعات ومؤسّسات الدول التي أقامتها هذه المجتمعات منذ أكثر من مئة سنة. وليس سهلاً بروز الطرح الوطنيّ العقلانيّ، للحفاظ على وحدة هذه المجتمعات ومؤسسات دولها، لا أمام فائض القوّة الإسرائيليّة، ولا في مواجهة “مهندسي الفوضى” ومن ورائهم.

لكنّ المجتمعات ما زالت حيّة. ففي مصر، كان برنامجٌ ساخرٌ لباسم يوسف كافياً لحشد المجتمع المصريّ حول “استمارة” غيّرت مصير البلاد. وفي فلسطين، أسّست بطولة صمود الفلسطينيين لتغييرٍ في نظرة العالم كلّه لفلسطين، ولا بدّ لهذا أن يأخذ مداه. ويعرف المجتمع اللبنانيّ منذ زمنٍ طويل كيف يصون حريّاته ويقاوم أيّة هيمنة كي يعيش يوماً في دولةٍ تحمي كلّ مجتمعه. والسوريّون يعرفون جيّداً كيف تضامنوا سويّةً في زمن الاستبداد والعقوبات، وإلى أيّ صراعٍ عبثيّ أخذتهم “الذئاب المفترسة”.

من أنجع الوسائل لمواجهة ألاعيب “مهندسي الفوضى”.. السُخرية. السخرية من محاولات شرذمة المجتمع. والسخرية من فائض قوّة “الذئاب”. والسخرية من استجرار الماضي المفترض. والسخرية من المشهدية المبالغة. وبالمناسبة لدى حمص في سوريا باعٌ طويل في هذا المجال. سخرية لإبقاء اليقظة والوعي والحفاظ على التفكير النقدي والسياسي العمليّ.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "أزعر الحي" و"المعلم" في لبنان.. والشرق الأوسط!