في مثل هذه الحروب التي تجري في مناطق مأهولة وضيقة، يُصاب العديد من المقاتلين.. ومن فريقي القتال بـ”نيران صديقة”، وكانت إسرائيل أعلنت عن مقتل عشرين جندياً بـ”نيران صديقة” في غزة، لكن الإعلان الرسمي الإسرائيلي عن مقتل ثلاثة أسرى بهذه الطريقة، طرح تساؤلات عن سبب هذا التشهير بأخطاء الجيش الإسرائيلي من بيت أبيه وماذا يهدف الناطق العسكري من خلال هذا “الإعتراف”؟.
ثمة احتمالات حول سبب قتل الجنود الإسرائيليين لزملائهم الأسرى، هل هو ناتج عن توتر وانهيار القيادة والتحكم والسيطرة حتى على مستوى الوحدات العسكرية الصغرى؟ أم هو تنفيذ لتعليمات أن اقتلوا كل من يقع نظركم عليه؟ أم هو انتقام من الأسرى الذين استسلموا لحركة “حماس” وتسببوا لإسرائيل بهذه الإهانة المستمرة، أم أنهم لو قاوموا وماتوا ـ قبل الأسر ـ لكان ذلك أشرف وأفضل لهم وللقيادة والشعب في إسرائيل من الوقوع في حبائل أزمة الأسرى؟
هذا الإعلان سبقته تسريبات صحافية غير معهودة في إسرائيل تتعرض لهيبة الجيش ومكانته وتكشف عن خلافات بين المستوى السياسي ممثلاً برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والمستوى العسكري ممثلاً بوزير الأمن يؤاف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي بالإضافة إلى عضوي مجلس الحرب غادي أيزنكوت وبني غانتس (المرشح الأبرز لخلافة نتنياهو).
تفتيش الجنرالات
غداة عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، انفرد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله للقول إن قسماً من الضحايا المدنيين الإسرائيليين في “غلاف غزة” قد قتلوا “بنيران إسرائيلية”. ولم تمر سوى أيام معدودة حتى نشرت الصحافة الإسرائيلية خبراً عن تدخل مروحيتي “أباتشي” في “غلاف غزة” في ٧ تشرين الأول/أكتوبر وقصفهما المدنيين الإسرائيليين والأجانب ظناً منهم أن مقاتلي “حماس” بينهم، وهو الأمر الذي تسبب بإصابات عديدة بين المدنيين. لم تكتفِ الصحافة بذلك بل نشرت بعد أيام أن دبابتين إسرائيليتين شاركتا في إطلاق نيران المدافع على المدنيين في مستوطنات “الغلاف” والتسبب بهذا العدد الكبير من الضحايا، ولم تمر ساعات حتى كانت الصحافة العبرية تنشر خبراً عن اقدام جهاز أمن نتنياهو على تفتيش الجنرالات أعضاء مجلس الحرب قبل اجتماعهم بنتنياهو!
وفي إطار السعي لإظهار صورة انتصار يرفع معنويات الجيش والجمهور في إسرائيل، أعلن عن اكتشاف نفق بعمق ٥٠ متراً وبطول ٤ كيلومترات في شمال قطاع غزة. سرعان ما تحول هذا الاعلان من “إنجاز” إلى فضيحة؛ فقد لامت الصحافة الإسرائيلية المؤسسة العسكرية والأمنية لعدم كشفها هذا النفق منذ زمن طويل لا سيما أن بدايته تبعد ٤٠٠ م فقط عن معبر أريتز، أي حدود قطاع غزة شمالاً مع إسرائيل. كما أن بناء النفق لا بد وأنه استغرق وقتاً طويلاً ولم تلحظ أجهزة الأمن عملية نقل الأتربة الناتجة عن الحفر والتي احتاجت بدروها إلى وقت طويل. يُذكّرنا ذلك بفيلم أميركي مشهور في ستينيات القرن الماضي هو “الهروب الكبير” (The great escape) من بطولة الممثل العالمي ستيف ماكوين وهو يُجسد قصة واقعية من قصص الحرب العالمية الثانية تروي أن سجناء معتقل ألماني حفروا نفقاً وعمدوا إلى نقل الأتربة في جيوبهم يومياً ورميها ولمدة طويلة في أماكن متفرقة لتفادي انكشاف أعمال الحفر.
النفق الهوليودي أصغر بكثير من نفق شمال غزة فكيف أخفى من حفر هذا النفق الأتربة؟ وأين كانت أجهزة الأمن الإسرائيلية؟ كما تبين أن هذا النفق بدا مهجورا ولا يتصل بأي نفق آخر، وهذا ما أضعف الخطة الإسرائيلية لغمر الأنفاق بمياه البحر والتي هلّلت لها إسرائيل والإعلام الغربي وأظهر استحالة غمر الأنفاق!
حروب الجنرالات.. والسياسيين!
ومن يُتابع المؤتمرات الصحافية شبه اليومية للناطق العسكري الإسرائيلي يُلاحظ تبنيه المكشوف لموقف نتنياهو وتعمده إبراز أخطاء الجيش الإسرائيلي. يشي هذا المشهد بوجود خلاف جدي وحقيقي بين نتنياهو وكبار الجنرالات أعضاء مجلس الحرب. ويحتمل سباقاً بين فريقين: مَنْ يُطيح بمَنْ ومَنْ يسبق مَنْ. هل يُقدم نتنياهو على الإطاحة بوزير الأمن ورئيس الأركان عند أول انجاز ويُحمّلهما مسؤولية إخفاق ٧ تشرين الأول/أكتوبر (سبق أن أقال نتنياهو غالانت من منصبه بسبب موقفه من التظاهرات المعارضة للتعديلات الدستورية ثم أعاده بعد أسبوع قبل أن تندلع حرب غزة)؟ أم يسعى الجنرالات إلى الإطاحة به في انتخابات تشريعية قريبة بعد أن يتم تحميله مسؤولية الفشل في 7 تشرين الأول/أكتوبر..
والملاحظ ان نتنياهو لا يكتفي بمقارعة معسكر جنرالات الجيش بل يعمل على تحريض اليمين الديني المتشدد ضد الجنرالات، وخير مثال توجيه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير انتقادات إلى رئاسة أركان الجيش لاتخاذها تدابير مسلكية بحق جندي دخل أحد مساجد مخيم جنين وأنشد ترانيم دينية يهودية، ليتم فصله من الخدمة في اليوم التالي.
يُمكن أن تصرف هذه المواجهة بين اليمين الديني المتطرف ورئاسة الأركان في الانتخابات المقبلة وتؤثر سلباً على بني غانتس الذي يتقدم في استطلاعات الرأي وبسببها قد يخسر عدداً من الناخبين لمصلحة نتنياهو وحليفيه إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش.
تهديدات من كل صوب وناحية!
في ظل الإخفاقات المستمرة للجيش الإسرائيلي وعدم تمكنه من تحقيق اي انجاز في غزة، تتبدى كاريكاتورية صورة إسرائيل القوية في العالم في ضوء التدخل الأميركي المستمر وانتشار الأساطيل الغربية لحمايتها من “حماس” أو كما قال الرئيس فلاديمير بوتين ساخراً: “جاء الأميركيون بحاملة طائرات لمواجهة حزب الله”!
كما أن التحرك اليمني فرض حظراً على مرور السفن الإسرائيلية أو المملوكة جزئياً من إسرائيليين أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية في البحر الأحمر وبحر العرب، وأظهر عجز إسرائيل وحاجتها إلى تشكيل تحالفات دولية لحمايتها بعدما كانت تظهر بصورة الدولة القوية المهيمنة في المنطقة والمرشحة لأن تكون دولة حامية لكل أنظمة التطبيع معها..
وقد جاء إعلان المقاومة العراقية عن مهاجمة حقل كاريش لاستخراج الغاز في شمال الساحل الفلسطيني بطائرات مُسيّرة ليكشف عن الخطر الذي يحدق بمنصات الغاز قبالة الساحل الفلسطيني وتهديد قطاع الطاقة في إسرائيل وزبائن الغاز الإسرائيلي في أوروبا.
ومع الوقت واشتداد الضغط السياسي والاقتصادي على إسرائيل يتفاقم النزاع بين نتنياهو والمتشددين من جهة والجنرالات من جهة أخرى وهو صراع مرشح لأن يتطور من حدود المسؤولية عن كارثة ٧ تشرين الأول/أكتوبر إلى مجمل الأخطاء في إدارة العمليات الحربية والتراجع الكبير في الخطاب السياسي الإسرائيلي غير المقنع لقطاعات كبيرة من الرأي العام في العالم لا سيما في أوروبا والولايات المتحدة (حتماً كثيرون لا يعرفون اسم وزير خارجية إسرائيل الحالي إيدي كوهين).
في الخلاصة، كلما تعمق المأزق العسكري الإسرائيلي براً، في قطاع غزة، كلما إزداد واقع التفسخ والانقسامات بين المستويين السياسي والعسكري، وكلما ضغطت واشنطن لإنهاء الحرب، يبدأ العد العكسي لنهاية حقبة نتنياهو، وهذا يعني أننا سنكون على موعد مع سرديات إسرائيلية متعددة لما جرى منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر حتى يومنا هذا.