شيطنة الحكومة اللبنانية ورئيسها.. إشكالية الدولة وتكريس المثالثة

تعرّض وما يزال رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام إلى حملة شيطنة وتخوين غير مسبوقة، وذلك منذ اتخاذ الحكومة قرارها في ٥ آب/أغسطس عند مناقشة الورقة الأميركية المعدّلة بإسقاط شرعية المقاومة للمرة الأولى في تاريخ لبنان منذ توقيع اتفاق الطائف في العام ١٩٨٩.

لم يكن الخطاب الذي اعتمده الثنائي بشكل عام وحزب الله بشكل خاص مجرد ردّ فعل سياسي آني على قرار حكومي، بل هو يطرح علامات استفهام عدة حول العلاقة أو النظرة للدولة اللبنانية، والتناقض بين الخطاب وبين الدور الفاعل والأساسي في الدولة تحديداً منذ ما بعد اتفاق الدوحة في العام ٢٠٠٨، وصولا إلى الموافقة على القرار ١٧٠١ (٢٠٠٦) بنسخته المعدّلة في خريف العام ٢٠٢٤ ولاحقا مشاركة الثنائي في الحكومة مرورا بإعطائها الثقة مرّتين.

بالطبع، ليس من الجديد القول أن هناك في لبنان أزمة هوية وأزمة دولة وذلك لأسباب كثيرة منذ نشوء دولة لبنان الكبير قبل مائة سنة ونيف وصولاً إلى غياب مؤسسات الدولة عن جنوب لبنان منذ العام ١٩٤٨ الأمر الذي شرّع الباب أمام ظهور وتمدّد حركات المقاومة على اختلافها انتهاء بحزب الله الذي استمرّ كحركة مقاومة بغطاء سياسيّ في كل حكومات ما بعد الطائف.

الخطاب السياسي

لم تكن خسارة الحرب الأخيرة مع إسرائيل حدثاً محلياً بل جاءت في سياق مشروع لإعادة تشكيل خريطة المنطقة، حدوداً وجغرافية ونفوذاً، ما يعني عمليّاً إسقاط حدود سايكس-بيكو بعد مائة عام من وضعه من قبل الفرنسيين والبريطانيين لتقسيم المنطقة. كلّ ذلك كان يجري في وقت تشهد فيه الدول العربية أيضاً تغييرات في سياساتها وفي علاقاتها وفي خطابها السياسيّ وتحديداً في نظرتها للأمن القومي العربي، حيث شكّلت اتفاقيات أبراهام أحد أشكال هذا التموضع الجديد.

ولا يمكن فصل لبنان عمّا يجري في المنطقة، لا بل من الخطيئة فصله، وهو بالأساس قبل الحرب وبعدها لا يملك أدنى مقوّمات الصمود الإقتصادي والاجتماعي في ظل وضع سياسيّ واقتصادي وأمنيّ هشّ تتحمّل مسؤوليته كل الأطراف السياسية بما فيها الثنائي الذي كان اللاعب الأكبر والأكثر فاعلية ونفوذاً في الأمن والسياسة والتعيينات والاقتصاد في كل الحكومات التي توالت منذ الطائف حتى يومنا هذا.

وسط كل ذلك، يرفض حزب الله أقلّه إعلاميّا، بالاعتراف بهزيمته وبخسارة لبنان الحرب، والاعتراف هنا لا يعدّ استسلاما كما يُروّج في أدبيّاته، بل هي واقعية ضرورية ومطلوبة انطلاقاً من المسؤولية ليس فقط تجاه بيئة المقاومة، بل أيضاً تجاه الشعب اللبناني الذي طالته وما تزال آثار الحرب على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والأمنية.

من هنا، لاحظنا كيفية استعادة خطاب التخوين ضد كل من يسأل أو يعترض على سياسة الحزب وخطابه وقد طال هذا التخوين من كانوا يدافعون عن حقّ لبنان في المقاومة ضد الاعتداءات الإسرائيلية إنطلاقاً من شرعية المقاومة في الدولة اللبنانية وذلك من خلال البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف. بالطبع، لا يجب هنا إغفال أو تبرئة بعض الأصوات عند خصوم الحزب والثنائي بشكل عام، الذين اعتمدوا خطاباً تحريضياً لا يخلو من الشماتة.. وهم بذلك شركاء في زيادة حدّة الانقسام السياسي والشعبي الحاصل اليوم.

في المقابل، أعادت إسرائيل احتلال أجزاء من الجنوب اللبناني واستمرّت باعتداءاتها بشكل خاص أكان من حيث عمليات الاغتيال التي طالت مسؤولين وعناصر في المقاومة أو في رصد وضرب مخازن الأسلحة، الأمر الذي يطرح علامات إستفهام الحزب معني بالإجابة عليها حول استمرار الخرق الأمني وعدم القدرة على الدفاع عن نفسه وعن بيئته بالحدّ الأدنى، فكيف بلبنان؟

بين التخوين والإهانة!

عند تسميته، أعلن الرئيس نواف سلام بوضوح في بيانه الوزاري عن قرار الحكومة (وهو الأمر الذي يتوافق مع خطاب القسم) بحصر السلاح في يد الدولة اللبنانية، وعمليّاً نتحدث عن مهلة سنة كون حكومة سلام هي أشبه بحكومة انتقالية إلى حين إجراء الانتخابات النيابية في ربيع العام ٢٠٢٦. وافق حزب الله على خطاب القسم، من خلال مشاركته بانتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وأعطى الثقة لحكومة نوّاف سلام مرّتين. وكانت الخطوة الأولى لترجمة هذا البند على أرض الواقع أو دخوله حيّز التنفيذ، هو إقرار الحكومة بالتشاور والتوافق مع رئيس الجمهورية في ٥ آب/أغسطس القرار الذي أقر بحصرية السلاح استناداً إلى خطاب القسم والبيان الوزاري والقرار ١٧٠١ وكل الاتفاقيات التي التزم بها لبنان وآخرها اتفاق وقف النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024..

يفتح هذا الطرح (الوجودي) نقاشاً مشروعاً حول موقف الطوائف الأخرى التي بدأ كثر فيها يطالبون بالفيدرالية أو التقسيم كتعبير عن رفضهم لهذا الخطاب أو النظام. في المقابل، بدأت أصوات تتصاعد من جانب المتحدثين باسم الحزب عن تغيير الصيغة وتكريس المثالثة خلافاً للدستور وللطائف

لم تكن المشكلة الوحيدة في رفض الثنائي للقرار فقط، بل في كلّ ما سبق ورافق هذا الرفض على الرغم من مشاركته، حزباً وحركةً، في الحكومة وموافقتهما على القرار ١٧٠١ والبيان الوزاري. بل إن ما سبق وتلا هذا الرفض يفتح النقاش حول نظرة الثنائي بشكل عام والحزب بشكل خاص لمفهوم الدولة اللبنانية، وهنا يمكن عرض بعض النقاط التي تستوجب النقاش على سبيل المثال لا الحصر.

إقرأ على موقع 180  تفويض باسيل لنصرالله.. هدية مسمومة أم مخرج؟

أولاً، مستندين إلى مبدأ “العرف”، فرض الثنائي منهجاً تكرّس في لبنان منذ ما بعد العام ٢٠٠٨ من خلال بدعة “الثلث المعطّل”، إذ كانا يشاركان في كل الحكومات، وفي حال رفضهما لأي قرار، كانا يستخدمان سلاح الانسحاب من الحكومة وتعليق جلسات مجلس النواب لحين إجبار رؤساء الحكومة السابقين على التراجع عن قرارتهم، ما أدى فعليّا لسنوات عدة إلى شلّ البلد على كافة المستويات. في المقابل، يعتمدان خطاب دعوة خصومهما إلى التحاور وإلى التشاور والاتفاق، ولكن بما يناسبهما.

ثانياً، يُعلّل الحزب الامتناع عن الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية بأنه ملتزم باتفاق وقف إطلاق النار وأنه يريد للدولة اللبنانية أن تتحمل مسؤولياتها، ويستعيض عن رفضه لقرار حصرية السلاح الذي وافق عليه بالتصويب على رئيس السلطة التنفيذية في لبنان، أي رئيس الحكومة نواف سلام. هذا الأمر يساهم بشكل رئيسيّ في زيادة حدة الانقسام الطائفي والمذهبي والتفتيتي. لقد اتهم الثنائي رئيس الحكومة بالتواطؤ مع الأميركيين (وهو الوسيط والمفاوض بين لبنان وإسرائيل بموافقة الثنائي) والأخطر، بالتواطؤ مع العدوّ الإسرائيلي في ما يعتبرونه الاستهداف الوجودي للطائفة الشيعية، انطلاقاً من خطاب المظلومية الذي يعتمده الحزب منذ وقف الحرب وعند كل نقاش حول ضرورة حصرية السلاح.

في هذا الإطار، نحن أمام جزئيّتين لا تقلّ الواحدة خطورة عن الأخرى: أولاً؛ تخوين رئيس الحكومة وما يترتّب عن ذلك من إهانة لموقع رئيس الحكومة على المستوى الوطني وأيضاً في تغذية النعرات الطائفية والمذهبية. ثانياً، تطييف ومذهبة قضية سلاح المقاومة وإدخالها في نطاق طائفيّ بحت، في حين أنها يفترض أن تكون قضية وطنية. فالاعتداءات الإسرائيلية هي ضد كل لبنان وإن كان المستهدف الأول هي البيئة الشيعية كونها الحاضنة الشعبية للحزب، والخطر الإسرائيلي هو على كلّ لبنان وليس فقط على طائفة محددة.

ثالثاً، في سياق دفاعه عن السلاح، اعتبر الحزب من خلال تصريحات مسؤوليه وإعلامييه، بأن السلاح يرتبط بشكل مباشر بموقع وبدور الشيعة في الدولة اللبنانية وفي المنطقة. هذه النقطة قد تفتح النقاش وتطرح السؤال حول فرضيات النظر إلى الدولة كأداة لاستخدامها بما يناسب العقيدة المذهبية والدينية وهو ما يتناقض بشكل صارخ مع فكرة الدولة، وأيضاً عدم الاعتراف بالدستور والقوانين وفي نفس الوقت المشاركة في الحياة السياسية بكافة أركانها مثل التمثيل النيابي والوزاري والقضاء والجيش والقوى الأمنية ووظائف الدولة وغيرها. أيضاً، يفتح هذا الطرح (الوجودي) نقاشاً مشروعاً حول موقف الطوائف الأخرى التي بدأ كثر فيها يطالبون بالفيدرالية أو التقسيم كتعبير عن رفضهم لهذا الخطاب أو النظام. في المقابل، بدأت أصوات تتصاعد من جانب المتحدثين باسم الحزب عن تغيير الصيغة وتكريس المثالثة خلافاً للدستور وللطائف.

رابعاً، إن منهجية التصويب الدائم على عدم قدرة الدولة على الدفاع عن لبنان يُشكّل نوعاً من عدم الاعتراف بالمسؤولية في ما آلت إليه هذه الدولة وهؤلاء لطالما كانوا في صلب هذه الدولة لعقود طويلة كغيرهم من الأحزاب. هذا الخطاب، يساهم في تعميق الشرخ وشيطنة علاقة الدولة بالمواطن الجنوبي تحديداً، وتصويرها أنها الخصم والشريك في الكارثة التي حلّت بلبنان وأفضت إلى عودة الاحتلال واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية واعتقال أسرى لبنانيين ومنع عشرات آلاف المواطنين من العودة إلى قراهم.

في سياق عرض كل هذه النقاط، أعود إلى السؤال الأساسي: هل يقرأ الحزب التغيّرات التي تحدث في المنطقة؟ وهل يستطيع لبنان أن يتحمّل مجدداً كلفة انتظار أي تبدّل إقليميّ قد لا يحدث؟ وهل يدفع الثنائي باتجاه فرض المثالثة مجدداً وهو المشروع القديم الذي سقط بعد محاولات تكريسه في مداولات اتفاق الطائف[1] من المحور نفسه؟

[1] راجع كتاب:

El Hariri Hayat. The Sunni Leadership in Lebanon. Case Study: The Emergence of Rafic Hariri, 1979-1990

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

كاتبة وباحثة سياسية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  بوتين يطلق إشارة البداية لمرحلة تأسيسية جديدة في روسيا