لعنة 1967 المصرية تُصيب حزب الله اللبناني.. أضواء كاشفة على “حرب الإسناد” (5)

"تاريخ الأحداث العظيمة في العالم يتكرر مرتين: المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة". صاحب هذا القول هو المفكر كارل ماركس. هذا ما يمكن استنتاجه من هزيمة حزيران/يونيو عام 1967 في مصر، وخسارة حزب الله لحرب غزة في لبنان في العامين 2023–2024. في الحالتين وقعت مأساة، وفي الحالتين كانت فظيعة.

أعبر من هذا المدخل لتسليط الأضواء على مشاركة حزب الله في هذه الحرب وهي مشاركة شبيهة إلى حد بعيد بتجربة مصر في “حرب الأيام الستة” عام 1967.

دخلت مصر حرب حزيران/يونيو عام 1967 بقيادة جمال عبد الناصر، الزعيم الكاريزمي الذي كانت تدور حول خطبه الحركة السياسية في مصر والعالم العربي. وفي لبنان دخل حزب الله حرب غزة بقيادة السيد حسن نصرالله، الزعيم الكاريزمي الذي قال عنه بنيامين نتنياهو إنه كان هو من يستخدم إيران وليس العكس وأضاف “لقد أذهلني فعلاً هذا الشخص حيث كان بمثابة محور المحور.

منذ تحرير العام 2006، صارت خطابات السيد نصرالله تلهب شوارع بلدان المحور وخصومه على السواء، لا بل إن مصداقيته عند عدوه كانت في صلب نصر تموز/يوليو 2006.

في حرب حزيران/ يونيو 1967 دمّرت إسرائيل، بضربة مفاجئة، قواعد الطيران الحربي المصري، واحتلت شبه جزيرة سيناء خلال ستة أيام. وفي لبنان، تمكنت إسرائيل من تفجير أجهزة “البيجرز” للتواصل اللاسلكي، فقتلت وجرحت وعطّلت آلاف المقاتلين والإداريين والحزبيين، ثم اغتالت قيادة أركان الحزب (فرقة الرضوان) وصولاً إلى أمينه العام السيد نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين، واحتلت مرتفعات استراتيجية تشرف على جنوب لبنان.

في حرب حزيران/يونيو 1967 كانت إسرائيل قد اخترقت أجهزة الأمن المصرية، وصارت على علم بكل قرارات القيادة العسكرية وخططها وقدراتها، بمساعدة أجهزة غربية وربما عربية. وفي لبنان، تمكنت إسرائيل من فكّ كل شيفرات حزب الله، ولاحقت قياداته وعناصره بمعرفة ودقة تثير الحيرة، وطبعاً بمساعدة أجهزة غربية وعربية أيضاً ومستفيدة من التكنولوجيا الحديثة وبينها الذكاء الإصطناعي.

حافة الهاوية

في حرب حزيران/يونيو 1967 لعبت مصر لعبة الحرب على حافة الهاوية، وكأنها تنتظر الضربة الأولى من تل أبيب. فكان أن اتخذت إسرائيل زمام المبادرة، وحسمت الحرب في الوقت الملائم وبكلفة ضئيلة.
وفي لبنان، خاض حزب الله حرب الإسناد على حافة الهاوية، الأمر الذي منح إسرائيل هامشًا واسعًا للمناورة، بحيث انتقلت من غزة المدمّرة إلى لبنان لتدمّره، من دون أن يغيّر الحزب خططه أو تكتيكاته، أو أن تكون لديه القدرة على تعديل استراتيجيته.. سواء بعد اغتيال نائب رئيس حركة حماس صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية أو بعد اغتيال القيادي فؤاد شكر أيضاً في قلب الضاحية الجنوبية.

في حرب حزيران/يونيو 1967 خرجت مصر من الحرب بقرار مهين لوقف النار تحت الحماية السوفيتية، بعد أن فقدت سيناء وقطاع غزة. وفي لبنان خرج حزب الله من الحرب وفق اتفاق أُبرم في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024 ركيزته الأساس قرار مجلس الأمن 1701 الذي لا تحترمه إسرائيل، ويشرف على تنفيذه ضابط أميركي، فضلًا عن احتلال التلال الاستراتيجية المطلة على عمق الأراضي الجنوبية اللبنانية.

في حرب حزيران/يونيو 1967 كان الشارع العربي، المعبّأ بخطب ما قبل الحرب، يتطلع إلى “إرجاع اليهود إلى بلدانهم الأصلية” وتحرير فلسطين، فإذا بالهزيمة الفظيعة تنزل على الرؤوس نزول الصاعقة.
وفي حرب غزة اللبنانية، كان الرأي العام المعبّأ بخطط “اجتياح الجليل” ومعادلة “الضاحية – تل أبيب” يتطلع إلى تصفية الحساب مع “بيت العنكبوت”، فإذا بنتنياهو يقول متغطرسًا: “لن يردد أحدٌ عبارة “بيت العنكبوت” بعد اليوم”.

وقف النار بشروط إسرائيلية

بعد حرب حزيران/يونيو 1967 أعاد جمال عبد الناصر بناء جيشه، وتابع أنور السادات من بعده هذا البناء حتى انتصار تشرين/أكتوبر 1973 “المبتور”، الذي أدى إلى خروج مصر من الحرب مع إسرائيل، مقابل استرجاع سيناء وبقاء غزة تحت الاحتلال، وهي التي كانت قبل الحرب تحت السيادة المصرية.

بعد وقف النار الأخير في لبنان، احتفظت إسرائيل بأراضٍ لبنانية، وبحرية حركة جعلتها تلاحق أعضاء حزب الله ومقاتليه في الجنوب والبقاع، ودمّرت بعض مكاتبه ومراكزه في الضاحية الجنوبية. ويتعرض الحزب لضغوط لبنانية وعربية ودولية لتسليم سلاحه والخروج من حالة الحرب مع الدولة العبرية. بل يجري حديث جدي عن التطبيع والسلام، فيما يؤكد الحزب، عبر خطب أمينه العام الجديد الشيخ نعيم قاسم، على استمرار المقاومة التي “تقاوم أحيانًا من دون سلاح، لأن السلاح أداة وليس هدفًا”، ملوحاً بالقتال الكربلائي الاستشهادي في حال المس بسلاح المقاومة.

ملايين التشييع

بعد ثلاث سنوات من حرب حزيران/يونيو 1967 توفي الزعيم العربي جمال عبد الناصر، فحزن عليه عشرات الملايين من المصريين والعرب. وبعد شهور من اغتيال السيد حسن نصرالله، حضر أكثر من مليون لبناني وعربي ومسلم تشييعه ووداعه في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين نسمة.

في الحالتين المصرية واللبنانية عبّر المشيّعون بخروجهم العفوي والعاطفي إلى الشوارع عن رغبتهم، بل إصرارهم، على مواصلة المجابهة مع الاحتلال، واعتبار ما حصل “نكسة” أو “هزيمة” يمكن أن تتعرض لها الشعوب والقادة والجيوش في الحروب المصيرية، وأن اغتيال الزعيم الشعبي لا يمكن أن يكون نهاية المطاف.

لكن كيف نقرأ ما حصل في لبنان بين 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (فتح جبهة الاسناد)، وإعلان وقف النار في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2024؟

حتى الآن لم يصدر تقييم رسمي من القيادة الجديدة للحزب حول أسباب ونتائج مشاركته في حرب “طوفان الأقصى”، يمكن الاستناد إليه لمعرفة قراءته لهذه الحرب. وبالانتظار، يمكن تسليط الضوء على الخطوط العريضة التالية:

1 ـ حرب الإسناد المحدودة

خاض حزب الله حرب غزة تحت عنوان واحد: إسناد القطاع. وربط توقف مشاركته في الحرب بوقف النار في غزة.
كانت “حماس” تراهن على مشاركة واسعة للحزب، من قبيل “اجتياح الجليل”، ما قد يجبر إسرائيل على القتال على جبهتين كبيرتين، وربما يستدرج جبهة ثالثة في الضفة الغربية، الأمر الذي يجعل استمرار الحرب صعبًا على إسرائيل فتذهب للتفاوض.

لكن هل كان اجتياح الجليل سيؤدي إلى مشاركة الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية في القتال المباشر إلى جانب إسرائيل؟
وهل امتنع الحزب عن تطبيق خططه المعدة مسبقًا لهذا السبب، أم لأن إيران – زعيمة محور الممانعة – رأت أن توسيع الحرب سيجرّها إلى مواجهة دولية لا قدرة لها على تحمل نتائجها؟

إن ردود الفعل الغربية، ومنها نشر الأساطيل وإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه في وقت قياسي، كانت تنطوي على قرار أميركي بالمشاركة الفعلية في القتال إذا توسعت الحرب، وهذا يعني دخول إيران فيها، فتتحول إلى حرب محاور في ميزان قوى مختل لصالح الغرب وإسرائيل.

إقرأ على موقع 180  إنها الحرب.. "غُرم" الجغرافيا و"غُنُم" التاريخ

لقد فرض التهديد الإسرائيلي–الأميركي بضرب إيران مباشرة، إن اجتاح حزب الله الجليل الأعلى، فرض حرب إسناد محدودة لقطاع غزة من لبنان، وبقاء طهران بمنأى عن الاشتراك المباشر، وبالتالي إكمال الحرب بالشروط الإسرائيلية–الأميركية وبزمام مبادرة مطلق للدولة العبرية.

2 ـ تقديرات خاطئة

أخطأ حزب الله في قراءة ردود الفعل الإسرائيلية المحتملة على اشتراكه في الحرب. كانت حكومة نتنياهو مصممة على تغيير قواعد الاشتباك قبل “طوفان الأقصى”، وقد ورثت عن الحكومات السابقة التصميم ذاته. ولعل خطأ الحزب الأكبر ناجم جزئيًا عن تأثره بالإعلام الإسرائيلي الذي ضخّم قدراته، إذ جعله “أخطر حزب في العالم”.

لقد بثّ الإعلام الإسرائيلي أوهامًا عن قدرات الحزب الخارقة وخططه التي يصعب مواجهتها، حتى بدا وكأنه سيهزم إسرائيل خلال أيام. وفي المقابل، ذهب إعلام الحزب بعيدًا في خطاب “بيت العنكبوت” وفي تصوير قدراته، حتى باتت وسائل الإعلام الإسرائيلية مرجعًا لرفع معنويات جمهوره وعناصره.

بلغ الأمر حدّ أن أحد أنصار المقاومة قال: ” الحزب قادر أن يربح الحرب بكبسة زر واحدة”، مؤكّدًا أنه سمع هذا من كبار قادته.
وهكذا، تحوّل الخطاب التعبوي إلى فخّ نفسي، حال دون الانتباه إلى تحذيرات لبنانية مبكرة – منها مقالة الأستاذ جهاد الزين في “النهار” الذي نبّه إلى تكرار سيناريو حرب حزيران المصرية – وهي تحذيرات لم يُصغَ إليها.

الأخطر أن الصورة التي روّجتها إسرائيل عن قدرات الحزب حجبت عنه مؤشرات الخطر، ومنها التسريبات الإسرائيلية التي قالت إن تل أبيب باتت تعرف بدقة تحركات السيد حسن نصرالله، وهو ما تأكد بعد اغتياله.

كما أن اغتيال صالح العاروري نائب رئيس حماس بدقة، في مكتبه في ضاحية بيروت الجنوبية، كان بمثابه إنذار خطير الى ما سيأتي من بعد، لكن ذلك لم يدفع قيادة الحزب ولا أنصاره ولا محطاته الفضائية ولا مراكز أبحاثه وصحفه إلى الحذر من الخطر القادم وإلى وجوب تغيير الخطط المرسومة قبل الحرب واعتماد خطط بديلة.

ويبقى السؤال هل كان الحزب قادراً على استقبال مؤشرات الحذر وإعادة النظر بخططه وطرق عمله؟ الجواب لا ، مع شديد الأسف.

لقد صنع طابور إعلامي سياسي يتوزع بين “المحور” وخصومه ثنائية ناجحة بين محترفي التحريض والأبلسة من جهة وعناصر ممانعة من جهة أخرى، تتحدث بلهجة دفاعية خشبية تفتقر الى الجاذبية وحسن المناورة وتغرق في البديهيات.

عندما تكون هذه الثنائية محرك النقاش اليومي حول المقاومة بوصفها نقيضا لـ”حب الحياة”، تنتفي الحاجة لمساحة إعلامية يحركها هم التساؤل حول الأنا والمحتل، أي خطط المحور والخطط المضادة، الخطب الإعلامية المعادية والخطب الصديقة، وطرح الأسئلة المصيرية والبحث عن إجابات لها.

ما يُؤسف له ان الاستراتيجية الإعلامية التي اعتمدتها إسرائيل قبل حرب العام 1967 هي نفسها تقريبا التي اعتمدتها في مواجهة حزب الله. وهي نفسها التي استخدمها الغربيون في حربهم على صدام حسين، ومن قبل في الحرب على أفغانستان وجوهرها: تضخيم قدرات العدو، الذي لا يثق بإعلامه قدر ثقته بإعلام عدوه، وايهامه بأنه منتصر لا محالة ومن ثم الانقضاض عليه في اللحظة الملائمة.

3 ـ غياب خطة بديلة

لم يكن قرار الحرب وصيغة المشاركة فيها بيد حزب الله حصراً. كان على الحزب أن ينسق مع القيادة الإيرانية التي كانت تراهن على أن تتحول حرب غزة إلى حرب عربية–إسرائيلية أو إسلامية، أو أن يقع وقف لإطلاق النار خلال شهر أو اثنين. لكن شيئًا من ذلك لم يحصل.
قررت طهران التراجع والخروج من الحرب، وتراجع معها الحزب في ظروف لم تكن ملائمة له.

أما نتنياهو، فكان يعرف شروط اللعبة جيدًا، لذا قال لأصدقائه العرب، المعلنين والمستترين: اصمتوا أنتم ودعونا نعمل.
لم تكن لدى إيران ولا لدى “محور الممانعة” عمومًا خطة “باء”، فقاد نتنياهو الحرب بشروطه ووسائله ومواقيته.

4 ـ رهان خاسر

قيّد حزب الله مشاركته بوقف النار في غزة، فصار رهانه على هزيمة إسرائيلية غير ممكنة، ومن دون انهيارات في التحالف الغربي المؤيد للدولة العبرية.
لقد حرم الحزب نفسه من هامش واسع للمناورة، خصوصًا أن خطابه القاطع قبل الحرب وبعدها كان مغلقًا، فأصبح أشبه بكيس ملاكمة يتلقى الضربات من دون أن يردّ بمستواها.

5 ـ الجبهة الداخلية عبء إضافي

كانت الجبهة الداخلية اللبنانية عبئًا على الحزب. فالقسم الأكبر من اللبنانيين لا يريد الحرب، ومنهم حليفه السابق “التيار الوطني الحر” الذي خرج من تفاهم مار مخايل.
يُضاف إلى ذلك الوضع الاقتصادي المنهار الذي جعل الحرب عبئًا شعبيًا وسياسيًا، وقلّص قدرة الحزب على توسيع نطاقها، ناهيك بقضية النزوح المليوني من الجنوب والضاحية وبعض البقاع وما كان يُمكن أن تترك من تداعيات.

6 ـ تكتيكات إسرائيلية جديدة

تظاهر الحزب بامتلاكه الاستراتيجية خلال الحرب، من دون أن ينتبه إلى أن إسرائيل يمكن أن تغيّر تكتيكاتها عن حرب 2006. ويبدو أنه اكتشف ذلك بعد فوات الأوان.

7 ـ اتساع الجبهات وفقدان السرية

وسّع الحزب مشاركاته العسكرية في سوريا ولبنان والعراق واليمن، فصار لاعبًا إقليميًا، ما أضعف سريته وكشفه أكثر، وبالتالي خسر أهم ورقة كانت وراء انتصاره في حرب تموز/يوليو 2006.

8ـ إسرائيل تغيّر قواعد اللعبة

يبدو أن الحزب أدرك متأخرًا أن إسرائيل تخلت عن تكتيك استخدام القوات البرية الواسعة، واعتمدت الآلة التدميرية الجوية، فكانت تمسح القرى عن وجه الأرض قبل التقدم.
هكذا حوصرت المقاومة، وتحوّل الحزب إلى الداخل اللبناني، حيث واجه خصومًا يطالبونه بكشف حساب عن “حربه الفاشلة” وعن مصير سلاحه وهل سيسلمه للجيش اللبناني بعد أن نزعت حكومة نواف سلام عنه الشرعية، وهذا ما سنتناوله في الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة – الدراسة النقدية لتجربة الحرب.

Print Friendly, PDF & Email
فيصل جلول

باحث لبناني في أكاديمية باريس للجيوبوليتيك

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  لو كان الإنهيار رجلاً.. لأحببته ثم قتلته