عقدة تمنع اللبنانيين من التفكير خارج الصندوق

في النقاش الدائر اليوم حول مسألة التفاوض بين لبنان وإسرائيل ومن خلال متابعة طريقة مقاربة وإدارة هذا الملف من قبل الأحزاب والقيادات السياسية في لبنان، أستعيد المحاضر وجلسات الحوار الطويلة التي قرأت عنها وعملت عليها خلال تحضيري لأطروحة الدكتوراه منذ سنوات عدة، والتي كانت تتناول مؤتمرات الحوار في الفترة الممتدة بين العامين ١٩٧٥ و١٩٨٩ عند توقيع اتفاق الطائف.

المفارقة أن لاعبي اليوم هم أنفسهم لاعبو الأمس الذين شارك بعضهم في الحرب الأهلية التي ما تلبث تتمّدد وتتجدد بأشكال مختلفة ومتعددة، قبل أن يشاركوا لاحقاً في جلسات مؤتمري جنيف ولوزان ثمّ الطائف وصولاً إلى جولات الحوار الداخلية الفولكلورية فمؤتمر الدوحة عام ٢٠٠٨ إلى يومنا هذا.

في تلك الحقبة، كانت سوريا لاعباً أساسياً ومباشراً، عسكرياً وسياسياً، لا سيّما بعد دخول قوّاتها العسكرية إلى لبنان في العام ١٩٧٦ بناء على طلب “الجبهة اللبنانية”، أو ما يعرف باليمين المسيحي آنذاك. لاحقاً، وتحديداً مع بداية الثمانينيات، أصبحت سوريا تلعب دورا مباشرا في تسهيل تسليح و”إدارة” الأحزاب التي كانت تتمترس على الضفة المقابلة لـ”الجبهة اللبنانية”، أي تلك الناصرية والقومية واليسارية والإسلامية. آنذاك، دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة بشكل مباشر وكانت تعمل على إبرام اتفاق بين لبنان وإسرائيل، وفي الوقت نفسه، كانت ترفض أي دور لسوريا وتعمل على الحدّ من دور السوريين المباشر في لبنان. رفضت سوريا آنذاك إخراجها من المشهد اللبناني، إذ أنها كانت تعتبر لبنان ساحة تفاوض أساسية، وأن لا حلّ في لبنان إلا من البوابة السورية في حقبة حافظ الأسد. في تلك المرحلة، شهد لبنان عدداً من الحوادث الأمنية نفذها حلفاء النظام السوري آنذاك مثل عمليات خطف رهائن أجانب ولا سيما من الأميركيين، المدنيين أو العسكريين، ثم الإعلان عن اطلاق سراحهم بتدخل سوريّ أو بوساطة سورية. هكذا، أجبرت سوريا الولايات المتحدة في التفاوض معها حول لبنان لتقتنع الإدارة الأميركية حينها أن وجود سوريا المباشر ضرورة لتأمين أولاً المصالح الأميركية في لبنان وثانياً للتوصّل إلى حلّ سياسيّ شامل.

لم تتضح معالم الاتفاق الأمني بعد ما إذا كان تقنيّاً بحتاً لإدارة حالة العداء مع إسرائيل بطريقة ديبلوماسية وإن اتخذ طابعاً سياسياً، أم أنه سيكون مقدّمة لاتفاق شامل يُنظم العلاقة بين لبنان وإسرائيل، وهو أمر تحدّده الأحداث في المنطقة وملف التسوية الشاملة العربية للصراع مع إسرائيل. غير أن معظم المعلومات تشير إلى أن حصول هذا الاتفاق الأمني هو مسألة وقت لا أكثر وبأن مساحة المناورة وشراء الوقت التي يتبعها لبنان بانتظار الحلّ الإقليمي باتت ضيقة جداً

بالطبع، كان النظام السوري آنذاك يعمل لتأمين مصالحه ودوره في المنطقة، وهو لم يكن ليستطيع أن يُكرّس دوره في لبنان لولا الأحزاب السياسية المختلفة آنذاك. وفي الحقيقة، تجتمع كل هذه الطبقة السياسية المتناقضة والمتقاتلة، أمراء الحرب والسلام الجدد آنذاك في سمة واحدة، وهي العمل على تحصيل المكاسب في القوة والنفوذ في الدولة من خلال “الاستعانة” بالخارج، بشعارات وطنية أو وجودية طائفية للاستقطاب الداخلي وضمان الولاءات.

من سوريا إلى إيران

في العام ١٩٨٣، حاول رئيس الجمهورية أمين الجميل صياغة اتفاق أمني وسياسي مع إسرائيل يُعرف باتفاق ١٧ أيار (مايو)، غير أنه ما لبث أن سقط بعد رفض سوريا له وممارستها الضغوطات على الجميّل لإسقاطه وهو ما حدث. في العام ١٩٨٤، تحدث وزير الخارجية الأميركية آنذاك جورج ب. شولتز “عن صعوبات كثيرة تواجه مهمّة مساعده ريتشارد مورفي في القيام بدور الوسيط بين إسرائيل من جهة، وسوريا ولبنان من جهة ثانية” حيث قال: “يبدو بوضوح أنه لا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن نصل إلى ما نرغب جميعا في رؤيته هناك”. (مقال واشنطن بوست، ١٩٨٤، Shultz Says Israeli Departure From Lebanon Isn’t at Hand). لاحقاً، أعربت الإدارة الأميركية عن رفضها الانخراط في دور الوسيط مجدداً ما لم تكن الأطراف المعنية، أي لبنان وسوريا سيدعمان “الجهد الأميركي ويتجاوبان مع إسرائيل” ليضيف أحد مساعديه بالقول للمعنيين في لبنان: “لقد احترقنا مرة واحدة، ولسنا في عجلة لتكرار التجربة”.

اليوم، يستعيد لبنان المشهد نفسه لكن بلاعب مختلف. تقول إيران اليوم إن دورها وحضورها في المنطقة لم يتغيّرا بعد سقوط “محور المقاومة” وبعد الحرب الإسرائيلية الأميركية الأخيرة عليها، وأن لبنان ما يزال يشكّل إحدى الساحات الرئيسية كخط دفاع عن مشروعها من خلال حزب الله الذي يعمل على إعادة بناء ترسانته العسكرية، بحسب تصريحات أمينه العام. في المقابل، وبعدما طرحت نفسها كضامن للبنان بفعل القرار ١٧٠١ بصيغته الحالية، تقول الإدارة الأميركية بوضوح إنها لا تستطيع أن تمارس أي ضغط على إسرائيل ما لم يتبدّل الأداء السياسي في لبنان وتقوم السلطة اللبنانية الجديدة بتطبيق قرارها في حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية والذهاب إلى تفاوض مباشر مع إسرائيل لإبرام اتفاق أمنيّ جديد معها.

ما بين الرفض والتفاوض

حتى الآن يرفض “الثنائي الشيعي” بشكل عام وحزب الله بشكل خاص نقاش أي إمكانية لاتفاق أمنيّ مع إسرائيل. في الشكل، يقول الحزب بأنه ضد مبدأ التفاوض مع الاحتلال وبأن مثل هكذا اتفاق هو نوعٌ من التطبيع بين لبنان وإسرائيل، في حين أنه وافق على مفاوضات غير مباشرة ليس فقط أمنية، بل سياسية بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية في العام ٢٠٢٢ حيث أعلن مباركة الاتفاق آنذاك باحتفالية “للنصر” في تكريس الحق اللبناني من دون الذهاب إلى خيار الحرب العسكرية. بعد حرب ٢٠٢٣-٢٠٢٤ على لبنان، أعلن أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم أنه على استعداد لمناقشة موضوع حصر السلاح وأن الحزب تحت سقف الدولة، ليتراجع لاحقا عن هذا الخطاب بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ويتبنّى خطاباً تصعيديّاً مستمرّاً حتى هذه اللحظة بطابع دينيّ عقائديّ مذهبيّ في إعلانه عن رفضه مناقشة قضية السلاح. وفي سياق الرفض المعلن، ثمّة معلومات عن مفاوضات يجريها الحزب للحصول على ضمانات من دول عربية حول دوره السياسي ونفوذه في الدولة اللبنانية، وما بين الرفض والتفاوض، ينتظر الحزب كما حلفاؤه نتيجة المفاوضات الأميركية الإيرانية وإمكانية التسوية في المنطقة والتي برأيه سوف تنعكس على القرار السياسي اللبناني.

إقرأ على موقع 180  "إسرائيل" وسط أكورديون ناري.. ماذا بعد رد "الحزب"؟

أما في ما يخص الاتفاق الأمني، فلم تتضح معالمه بعد ما إذا كان تقنيّاً بحتاً لإدارة حالة العداء مع إسرائيل بطريقة ديبلوماسية وإن اتخذ طابعاً سياسياً، أم أنه سيكون مقدّمة لاتفاق شامل يُنظم العلاقة بين لبنان وإسرائيل، وهو أمر تحدّده الأحداث في المنطقة وملف التسوية الشاملة العربية للصراع مع إسرائيل. غير أن معظم المعلومات تشير إلى أن حصول هذا الاتفاق الأمني هو مسألة وقت لا أكثر وبأن مساحة المناورة وشراء الوقت التي يتبعها لبنان بانتظار الحلّ الإقليمي باتت ضيقة جداً، فإما الذهاب إلى خياره دون تعريض لبنان للمزيد من القتل والدمار والتهجير، أو فرضه عليه بالقوّة.

في المقابل، لا تنفكّ إيران تُعبّر في كل مناسبة عن رفضها للتسويات التي تعرض على لبنان بذريعة أن “لبنان لن يقبل بها”، وهو موقف يرتبط بشكل مباشر بالتسوية التي تعمل إيران على تحقيقها باستخدام الأوراق التي تمتلكها ومنها ورقة الحلفاء في المنطقة.

بين العامين ١٩٨٤ و٢٠٢٥، مشهد واحد لمنطق واحد يعكس بوضوح مشكلة اللاعبين السياسيين في لبنان الذين يتبعون السياسة ذاتها والنهج نفسه، في وقت تشهد المنطقة تحوّلات كثيرة تتطلّب التفكير من خارج الصندوق اللبناني التقليدي الذي أدى إلى انهيار الدولة وتفككها. أعود إلى محاضر نقاشات السياسيين اللبنانيين في المؤتمرات الخارجية. نقاشات حول النفوذ والدور لم تتبدّل. كتب صحفيّ أجنبيّ آنذاك مشدوهاً بحجم اللامبالاة وانعدام المسؤولية الوطنية عند من اختارهم الشعب لتمثيلهم. ما أشبه الأمس باليوم. ففي لبنان، يكفي أن يُراجع القارئ أو المتابع بشكل سريع أبرز محطات السياسة اللبنانية منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥ إلى يومنا هذا ليكتشف أن أصل العلّة في كلّ قضايانا الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية هو في أهل السياسة.

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الروشة.. محاكمة صورة أم محاكمة الحرية؟