ظاهرةُ مَنداني أبعدُ من عُمْدةِ نيويورك

وَجَّهتِ الانتخاباتُ الأخيرةُ لِعُمدةِ نيويورك صفْعةً قاسيةً على قَفا رأسِ دونالد ترامب، ولطـْمةً على وجهِهِ معَ حزبِهِ "الجمهوري". لم يَشأْ أنْ يَعترِفَ بالهزيمةِ اِعترافاً راضياً، فارتدَّ سريعاً إلى المَكارثيّة، مُذكِّراً بتلكَ الحمْلةِ التي قادَها في خمسينيَّاتِ القرنِ الماضي السناتور جوزيف مكارثي. آنذاكَ اِتّهمَ مكارثي كلَّ أميركيٍّ يُعارِضُ سياسةَ بلادِهِ بأنَّهُ شُيوعيٌ "عميلٌ" للاتحادِ السوفياتي. جرى اِعتقالُ كثيرينَ، وطـُرِدَ العديدُ من الوظائفِ، ورُفِعَتِ القضايا في المحاكمِ فيما بقِيَ مصيرُ آخرينَ مجهولاً، لا تعرِفُهُ إلَّا دهاليزُ المخابراتِ المركزيَّةِ الأميركيّة (C.I.A).

اليومَ يُكَرِّرُ دونالد ترامب اللعبةَ ذاتَها. يَصِفُ زهران مَنداني [الاسم الأصلي محمداني] بأنَّهُ مُسلِمٌ شُيوعيٌّ، وهذا ليس عيْباً بكلِّ تأكيدٍ، لكنّهُ الآنَ وسيلة ُاِبتزازٍ يتوهَّمُ من خلالِها ترامب بأنَّهُ يَستطيعُ أنْ يُحَرِّضَ على العُمدةِ الجديدِ مستخْدِماً الشيوعيّةَ والإسلاموفوبيا. ويسعى أيضاً إلى محاولةِ طمْسِ المُعطياتِ التحوُّليّةَ التي أظهرَتْها الانتخاباتُ، فهلْ ينجحُ ترامب في هذه اللعبةِ المُكرَّرةِ؟ وهلْ في جيلِ الشبابِ الأميركيِّ الراهن [بين العشرين والثلاثين من العمر] مَنْ ينساقُونَ عُمْياناً وراءَ تجديدِ المكارثيّة؟

الجُمهوريّونَ ومُعظمُ قِياداتِ الديموقراطيينَ، [باستثناءِ التيار الديموقراطي الاشتراكي الذي يقودُهُ السناتور بيرني ساندرز] ومنظمةُ “أيباك” والقوى الماليَّةُ العُليا، وأصحابُ الشركاتِ الكبرى، وأركانُ البورصةِ في نيويورك، وأربابُ المُجمَّعِ الصناعيّ العسكريّ لم يَكونُوا يرغبونَ قَطُّ بِفوزِ مَنداني. وهم لا يَخافونَ منه لأنه شابٌ سياسيٌ جديدٌ يتبنَّى مواقفَ غيرَ مألوفةٍ عندهم فحسْبُ، بل لأنَّه يعكِسُ في العمقِ تحوُّلاتٍ في المجتمع ِالأميركيِّ تُقلِقُ الحِزبيْنِ الجُمهوريَّ والديموقراطيَّ معاً: الأوَّلُ، مهزومٌ في نيويورك، مدينةِ المالِ والأوليغارشيةِ ومركزِ أكبرِ جاليةٍ يهودية [تضمُّ وحدَها 10% من يهود العالم]، والثاني، تتخوَّفُ قيادتُه الكلاسيكية ُمن تَنامِي خطِّ بيرني ساندرز بعد فوزِ منداني الذي رفَعَ في حملتِهِ الانتخابيةِ شِعاراتٍ كان ساندرز قد تبنَّاها هي نفسُها في شَبابِه. ولا يَستطيعُ أيُّ مراقِبٍ أنْ يُغْفلَ أهميةَ أفكارٍ غيرِ مألوفةٍ في مجتمعِ الستاتيكو السياسيِّ الأميركيِّ، ولا سِيَّما أنَّ التَخَلْخُلَ الداخليَّ بدأَ بين الولاياتِ خُصوصاً بعد ممارساتِ ترامب عندما أرسَلَ قواتِ الحرسِ الوطني الفيدرالي إلى عددٍ منَ الولاياتِ لتنفيذِ مُهِمَّاتٍ أمنيّةٍ فيها. أمَّا الشاهدُ الأهمُّ على تخوُّفِ الجُمهوريينَ والديموقراطيينَ الكلاسيكيينَ واللوبي الصهيونيّ من تغييرِ الأفكارِ واحتمالاتِ ظهورِ وعْيٍ مختلفٍ عن السائدِ هو تشيرلي كيرك. هذا الأخيرُ كانَ في ذروةِ اليمينِ الجمهوريِّ المتطرِّفِ، ومنْ أشدِّ مؤيِّدي ترامب و”إسرائيل”، ويُتابعُهُ نحو مئةِ مليونِ شخصٍ كونُهُ مُؤَثِّراً ناجِحاً على “السوشيل ميديا”، لكنَّه قبل اِغتيالِهِ بِمُدَّةٍ قصيرةٍ بدأ ينتقِدُ جرائمَ “إسرائيل”، أي بدأَ يخلقُ وعْياً خَطيراً في صفوفِ الشبابِ الأميركي، ويطرحُ نِقاطاً من خارجِ السياقِ في صفوفِ الجمهوريين ولوبيات الضغط الصهاينة. ونَظراً إلى تأثيرِهِ الواسعِ تخوَّفَ هؤلاءِ منهُ فجرى اِغتيالُهُ بطريقةٍ مُثيرةٍ لا تكتفي بقتلِهِ، بل تُريدُ من خلالِ ذلك توجيه تحذير ٍإلى الشبابِ الأميركيِّ من مَغبَّةِ الخروجِ على الستاتيكو.

منداني في مواجهة اللوبيات

إذاً نحنُ أمامَ مجتمعٍ أميركيٍ تَخافُ قُواهُ النافذةُ وداعمُوها الصهاينةُ منَ الأفكارِ الجديدةِ، ومِنَ التحوُّلاتِ التي أخذتْ تَظهرُ في العالمِ بعدَ نجاحِ الصمودِ في غزَّةَ أمامَ الاحتلالِ الإسرائيلي الذي يستمِرُّ في جريمةِ الإبادةِ الجماعيَّةِ ضدَّ الفلسطينيين. وهكذا نحنُ بإزاءِ مفارقةٍ لافتةٍ للانتباه، فقُوى مَنظومَةِ الهَيْمنةِ الرأسماليَّةِ الأميركيَّةِ الملتحمةِ بِثُكنتِها في الشرق: “إسرائيل”، لم تحتمِلْ يمينيَّاً ينتقِدُها فَقتلتْهُ جَسديّاً، ولمْ تتقبَّلْ يساريَّاً معتدِلاً لطيفاً مثلَ مَنداني فبدأتْ تُخطِّط ُلقتلِهِ معنوياً. وفي هذه الحالةِ فإنَّ العُمدةَ الجديدَ في نيويورك سيكونُ حتماً عُرضةً لمحاولةِ اغتيالٍ مَعنويّ ٍمتماديةٍ طوالَ مُدَّةِ ولايتِهِ، وسيُضْطَرُّ لإعدادِ المواجهةِ معَ الجمهوريين، وأخْصامِهِ الديموقراطيين، والمِليارديرات، وأربابِ البورصةِ، والشركاتِ، واللوبياتِ الصهيونيّةِ دفاعاً عن برنامجِهِ قبلَ الدفاعِ عن شخصِهِ.

ولا شكَّ في أنَّ محاولةَ الاغتيالِ المَعنويّ انطلقتْ بالفعل. ها هو الرئيسُ الأميركيُّ ترامب يُهاجمُهُ بالأسلوبِ المكارثي مستخدِماً “فزَّاعةَ” الشيوعيَّةِ، ويَنحَطُ بموقفهِ إلى مستوى وصفِ منداني بالمجنون، كي لا يَكشِفَ علَناً مَسْتورَيْنِ يُخفِيهما حاليَّاً:

المستورُ الأوَّلُ هو خوفُ ترامب من برنامج العدالةِ الاجتماعيّةِ للعُمدةِ الجديدِ وآثارِهِ المُستقبليّةِ على مآلاتِ سياسةِ ترامب في السنواتِ الثلاثِ الآتيةِ منْ وِلايتِهِ؛ فإذا نجحَ منداني في هذا البرنامجِ وتمكَّنَ من إجبارِ الشركاتِ الكبرى على دفعِ الضرائب، فسيكونُ مثالاً يُحْتذى في الولاياتِ الأخرى. وعندئذٍ سيُحْرِجُ الرئيسَ الأميركيَّ الذي يعتَمِدُ سياسةً ضريبيَّةً تَحْمِي الأثرياءَ وتُدمِّرُ الفقراءَ وتبتزُّ العالمَ بالرسومِ الجمركيَّةِ الإمبراطوريَّة.

أمَّا المستورُ الثاني الذي يُلمِّحُ إليهِ ترامب مُتجنِّباً التصريحَ عنه فهْو الموقفُ العنصريُّ، كونُهُ يتأفَّفُ مُمْتعِضاً منْ وصُولِ مُسلمٍ مِنْ أصولٍ شرقيّةٍ عابرٍ من أفريقيا إلى سُدَّةِ العِمادَةِ في نيويورك. وفوقَ هاتيْنِ المسألتيْنِ يعيشُ ساكنُ البيتِ الأبيضِ حالةَ استغرابٍ واستنكارٍ لنجاحِ منداني في استقطابِ الناخبينَ الجُدُدِ، وفي مباشرتِهِ خَلْخَلَةَ الوعْيِ التقليديِّ عند الناخبِ اليهودي، إذْ تمكَّنَ منَ الفَصْلِ، ولو نِسبيَّاً، بينَ اليهوديَّةِ والصهيونيّةِ، وأكَّدَ أنَّهُ ضدَّ “معاداةِ الساميّةِ” فحصدَ 67% من أصواتِ اليهودِ في نيويورك. ربَّما تُمثِّلُ هذه التجرِبة مُنعطَفاً بارزاً في الحياةِ السياسيّةِ والاجتماعيّةِ الأميركيَّةِ، لأنَّ منداني لم يَخُضْ انتخاباتٍ سياسيَّةً فحسْبُ، بل خاضَ معركةَ وعْيٍ ومفاهيمَ، ولم يلعَبْ لَعبةَ التخفِّي، ولم يضعْ قِناعاً، بلْ قدَّمَ نفسَهُ جريئاً واضحاً، فلمْ يُبَرِّرْ يَساريّتَهُ، ولم يخجلْ بإسلامِهِ، إنَّما تمسَّكَ بالاثنين ِمعاً، واستطاعَ أنْ يجعلَ من العدالةِ الاجتماعيَّةِ مُحَرِّكاً أوَّلَ لِمعركتِهِ، وتمكَّنَ من أنْ يرفعَ كتلةَ مؤيِّديهِ من 1% في البداياتِ إلى ما فوق الـ 50% في عند تحقيق الفوز.

إقرأ على موقع 180  نحوَ "ماركسيّةٍ" ثوريّةٍ عالميّةٍ من نوعٍ جديد (٢)

معركة وعي أولاً

إنَّها معركة ُوعْيٍ مَرْهونةٌ بِتطوُّراتِ المستقبلِ. معركةٌ صعبةٌ ومتشعِّبةٌ، لم تشْهدِ الولاياتُ المُتحدة ُمِثلَها مِنْ قبلُ. هناكَ تجربةٌ يتيمة ٌخاضَها الرئيسُ الأميركيُّ الراحلُ جون كينيدي لكنْ من موقعِهِ التنفيذيِّ لا الانتخابيِّ، وذلكَ عندما اِعترضَ عامَ 1963 على مشروع ِإسرائيلَ النَّوويِّ في ديمونة، ومارستْ إدارتُهُ ضغْطاً قويَّاً على الكيانِ الإسرائيلي لإيقافهِ أو لإخضاعِهِ لِلتفتيشِ على الأقلِّ فكانتِ النتيجة اغتيالَ كينيدي في تكساس، [في تشرينَ الثاني/نوفمبر 1963] وتمييعَ التحقيقِ والتستُّرَ على إسرائيل واللوبي الصهيوني في تلك الجريمة. ولا شكَّ في أنَّ منداني الشابَّ يعرفُ ذلك، ويُدرِكُ أنَّ أيَّ معركةِ الوعيِ محفوفةٌ بالمخاطرِ الكبيرةِ، ولا سيَّما أنَّ نيويوركَ [9 ملايين نسمة] التي نجحَ فيها لها دورٌ مؤثِّرٌ في الانتخاباتِ الرئاسيّة المقبلةِ بعد انتهاء ولاية ترامب.

لن نَتَوهَّمَ بأنَّ منداني سيفعلُ العجائبَ، ولن ننجرِفَ وراءَ التهليلِ المسطَّحَ بأنَّ مُسلِماً حقَّقَ نصرَاً في الولاياتِ المتحدة، فبرنامجهُ يقومُ على يساريّةٍ لطيفةٍ لا على توَجُّهاتٍ دينيةٍ، ومواقفُهُ لا تصلُ إلى القدرةِ على ضربِ منظومةِ الهيمنةِ الرأسماليّة. وبالرَّغمِ من ذلك، لهُ شرفُ المحاولةِ لكنَّ المؤكَّدَ أنَّ معركتَهُ لم تنتهِ بالفوزِ الانتخابي، وسيُواجِهُ تَحدِّياتٍ قاسيةٌ منَ الحزبِ الجمهوري ومن أخصامِه في حزبِهِ الديموقراطي، ومنَ اللوبي الصهيوني الذي لن يغفِرَ له تأييدَ الفِلسطينيينَ، ومنَ الشركاتِ الكبرى التي قد تنقلُ أعمالَها إلى خارجِ نيويورك كي تتهرَّبَ منَ الضرائبِ وتُعَرْقِلَ مشروعَه في العدالةِ الاجتماعيةِ. إنَّها معركةُ وعْيٍ تتجاوزُ منصبَ العُمدةِ في نيويورك.

 

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  نحوَ "ماركسيّةٍ" ثوريّةٍ عالميّةٍ من نوعٍ جديد (٢)