الشرع في البيت الأبيض.. ما هي وظيفة النظام السوري الجديد؟

مع انهيار نظام بشار الأسد، دخلت سوريا في مرحلة جديدة من التحول السياسي وإعادة التموضع الإقليمي؛ مرحلةٌ هي نتاج موازين القوى التي نشأت غداة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، على الصعيد الإقليمي، التاريخ الذي مثّل نقطة انعطاف إقليمية كبرى وفتح الباب أمام تحولات استراتيجية لا مثيل لها منذ أكثر من ستة عقود من الزمن.

من الواضح أن التركيبة السورية الجديدة وبقوة دفع سعودية-قطرية-تركية، نجحت في إعادة تدوير نفسها وإعادة صياغة دور سوريا؛ لذا، يُصبح دخول أحمد الشرع غداً (الإثنين) إلى البيت الأبيض كأول رئيس سوري يلتقي رئيس الولايات المتحدة في مكتبه البيضاوي، مشهداً تاريخياً يعكس عمق التحولات ويُمهّد للمزيد من الانخراط السوري في منظومة المصالح الأميركية الغربية في المنطقة، وصولاً إلى الشراكة مع التحالف الدولي بعنوان “محاربة تنظيم داعش”.. وصولاً إلى إعادة دمج سوريا في النظامين العربي والدولي على قاعدة انهاء حالة العداء بينها وبين إسرائيل.

في هذا السياق، يحاول النظام السوري الجديد أن يلعب دوراً مزدوجاً: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها داخلياً وإعادة تموضع سوريا إقليمياً. ومن أبرز ملامح هذا التموضع سعي دمشق إلى انهاء النفوذ الإيراني في سوريا والسعي لاضعافه في جوارها اللبناني والعراقي، بما يعكس استعادة القرار السيادي من جهة وارضاء الحاضنة العربية والدولية التي تضع ملف النفوذ الإيراني كأحد الشروط الأساسية لإعادة احتضان سوريا سياسيًا واقتصاديًا من جهة ثانية.

بهذا المعنى، لم يعد دور النظام الجديد يقتصر على إدارة مرحلة انتقالية، بل بات دوره محوريًا في إعادة تعريف الوظيفة السورية ضمن النظام الإقليمي من خلال توازن دقيق بين مكافحة الإرهاب والانخراط في مشاريع التكامل الإقليمي والتعامل العقلاني مع الحساسيات الجيوسياسية المتراكمة خصوصًا ما يتصل بإيران وحلفائها في المشرق العربي، فضلاً عن إعادة صياغة العلاقة مع إسرائيل إنطلاقاً من انهاء حالة العداء بين الجانبين.

وثمة قناعة لدى القيادة الجديدة أن سوريا حتى تعود لاعباً رئيسياً في المنطقة، يجب أن يُنظر إليها من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية:

أولاً؛ الانخراط في السلام الإبراهيمي:

ظهر مفهوم السلام الإبراهيمي في أعقاب توقيع اتفاقيات إبراهيمية رعتها الولايات المتحدة عام 2020 وجمعت إسرائيل بكل من الإمارات والبحرين ثم لاحقًا السودان والمغرب. ويرتكز هذا المفهوم على استدعاء شخصية النبي إبراهيم بوصفه أبًا روحانيًا مشتركًا للديانات التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام بهدف الترويج لفكرة التعايش الديني والتفاهم الثقافي بين الشعوب.

السلام الإبراهيمي لا يُختزل في كونه مجرد خطاب أو لافتة دينية بل يشكل أداة سياسية ناعمة لإعادة صياغة التحالفات في الشرق الأوسط على قاعدة فصل مسار التطبيع مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية وتكريس المشروع الإيراني بوصفه أحد عناصر التهديد المشترك لأطراف الاتفاقيات الابراهيمية!

باختصار؛ لم يعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي سواء للضفة الغربية أو قطاع غزة أو الجولان السوري المحتل شرطًا مسبقًا للتطبيع بل تم استبداله بخطاب جديد مغلف بعناوين السلام والانفتاح لكنه في جوهره يعيد تدوير موازين القوى الإقليمية وفق المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة وإسرائيل.. وصولاً إلى خلق منظومة أمنية إقليمية جديدة تسعى واشنطن وتل أبيب إلى إدخال “سوريا الجديدة” ضمنها.

ثانياً؛ تحوّل في عقيدة الجيش السوري:

من أبرز تجليات التحوّل السوري بعد سقوط نظام الأسد شروع القيادة الجديدة في تفكيك البنية الأمنية القديمة التي شكّلت عماد الحكم الاستبدادي لعقود. لم تعد الأجهزة الأمنية بمثابة دولة داخل الدولة بل بدأت تتعرض لإعادة هيكلة شاملة تهدف إلى استعادة ثقة المواطن وتطبيق مبدأ فصل السلطات وفق معايير المساءلة والشفافية.

تم حلّ أو دمج بعض الفروع الأكثر تورطًا في الانتهاكات بينما جرى إقصاء العناصر المرتبطة ارتباطًا عضويًا بإيران وروسيا أو المتورطة في إدارة شبكات تهريب وتغذية الميليشيات في الخارج وذلك في إطار توجه واضح نحو استعادة القرار السيادي السوري من قبضة الحرس الثوري والقيادة العسكرية الروسية؛ وهذه العملية يرعاها الأتراك بتفاصيلها الدقيقة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة ودول الخليج.

بالتوازي؛ شرعت دمشق في تعديل العقيدة العسكرية للجيش السوري لتتحول من عقيدة قائمة على التعبئة ضد العدو الإسرائيلي وحماية النظام البعثي إلى عقيدة وطنية دفاعية تستند إلى حماية الحدود والاستقرار، ولا تُشجع على التنطح لأدوار إقليمية، إلا ضمن سياقات محددة كالتحالف الدولي لمحاربة داعش، بناء على طلب الأميركيين.

ثالثاً؛ الخريطة الطاقوية في شرق المتوسط:

مع سقوط النظام السوري، عادت إلى الواجهة مشاريع الطاقة المؤجلة وعلى رأسها مشروع خط الغاز القطري التركي الذي بدأ الحديث عنه علناً في العام 2009 ورفضه النظام السابق تحت ضغط التحالف مع طهران وموسكو اللتين كانتا ترغبان بمد خط غاز مدعوم منهما يمر بالعراق وسوريا وصولاً إلى المتوسط.

كان يُراد للخط القطري أن يربط “حقل الشمال”، أكبر حقل غاز طبيعي قطري في العالم، بأوروبا عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا.. والهدف هو توفير بديل طاقوي لأوروبا عن غاز روسيا، وبالتالي تقليل الاعتماد عليه، مخافة أي تطورات تؤدي إلى إحراج الأوروبيين في ظل اعتمادهم الكبير على غاز روسيا.

إقرأ على موقع 180  بكركي وحزب الله وعشْق "القمصان السود"!

ولا تنفصل عودة الحديث عن خط الغاز القطري عن السياق الأوسع لتحولات النظام الإقليمي والتنافس المحموم على ممرات الطاقة البديلة خصوصًا في ظل تعمّق الصراع الطاقوي بين روسيا والغرب وتزايد حاجة أوروبا إلى تنويع مصادر الغاز بعد حرب أوكرانيا. من هنا بات موقف النظام السوري الجديد من مشروع الغاز القطري يُمثل اختبارًا حاسمًا لاتجاهات سياساته الخارجية وقدرته على إعادة تعريف الدور السوري في شبكة التوازنات الإقليمية.

الغاز والإستقرار.. صنوان

النظام الجديد في دمشق يبدو واعيًا بأن الشرعية السياسية بعد الحروب الأهلية لا تُكتسب فقط من خلال السيطرة الميدانية أو التحالفات العسكرية بل من خلال تكريس سوريا كفاعلٍ إقليمي منتج لا كساحة صراع وظيفية. ويُشكّل مشروع الغاز القطري التركي فرصة استراتيجية لترجمة هذا التحول ليس فقط عبر جذب الاستثمارات والمساعدات بل عبر الانخراط في منظومة طاقوية إقليمية ودولية تعيد توصيل سوريا بالأسواق الأوروبية وتجعل منها عقدة أساسية في معادلة أمن الطاقة العالمي.

إن خيار دمشق الجديدة بفتح المجال أمام الخط القطري لا يُقرأ بمعزل عن محاولتها التحلل من تبعية مزدوجة لإيران وروسيا اللتين استخدمتا سوريا كساحة عبور لمشاريعهما الطاقوية دون أن تمنحا الدولة السورية هامشًا فعليًا في القرار أو الريع أو السيادة الاقتصادية.

ثمة صراع واضح على النفوذ والتحكم بمفاتيح الجغرافيا الطاقوية. لذا، يُصبح الموقف من أي مشروع أنابيب ليس قرارًا اقتصاديًا بحتًا بل مرآة لتوجهات الدولة السورية الجديدة ومدى استعدادها للتخلي عن عقائدها وعقدها السابقة لمصلحة التكيف مع الوقائع الجديدة، وصولاً إلى تأمين بيئة مستقرة سياسياً واقتصادياً واستثمارياً وأمنياً لكل المشاريع الاستثمارية.. وفي طليعتها المشاريع الطاقوية.

في هذا السياق، يُمكن رصد القمة التي ستجمع غداً (الإثنين) دونالد ترامب بنظيره السوري أحمد الشرع، على وقع المزيد من الخطوات الأميركية الهادفة إلى التخفيف من وقع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على النظام السابق وساهمت في سقوطه. ويبقى السؤال: هل يملك النظام الجديد من العناصر ما يكفي لتأكيد ثبات حضوره ونفوذه وقدرته على معالجة الأزمة السورية بكل أبعادها أم أنه سيتصرف على قاعدة أنه مجرد مرحلة انتقالية، لا أحد يستطيع التنبؤ مسبقاً بطولها أو قصرها؟

Print Friendly, PDF & Email
نضال خالد

باحث في التنمية المحلية والبلديات، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل بدأ شهر الغزو الروسي لأوكرانيا؟