بكثير من الإحراج والإنزعاج، لبّت دوائر الكي دورسيه، وزارة الخارجية الفرنسية، طلب وزارة الخارجية الاميركية إستقبال الوزير مايك بومبيو في محطته الباريسية، في إطار جولة خارجية أوروبية وشرق أوسطية، وهي ردّت إيجاباً “من باب اللياقة الديبلوماسية”. لكنها سارعت، في الوقت نفسه، إلى الإتصال بإدارة فريق الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن لإعلامه بالموضوع حرصاً منها على “الشفافية الكاملة” مع الإدارة الجديدة وإنطلاقا من رغبتها وتطلعها إلى فتح صفحة جديدة معها وبناء علاقة وثيقة بعيدة عن مناخ التشنج الذي ساد منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات.
واللافت للإنتباه أن الإجتماع الثنائي بين لودريان وبومبيو جرى في أحد صالونات قصر الرئاسة الفرنسية، وليس في مقر وزارة الخارجية ومن ثم تحول إلى لقاء ثلاثي بحضور ماكرون. وقد أحيط كل ذلك بتعتيم إعلامي، لا بل رافقته أجواء من التكتم الفرنسي.
المحادثات الفرنسية – الأميركية تضمنت إجراء جولة افق واسعة في قضايا العالم بدأها بومبيو بالإعراب عن تضامن بلاده مع فرنسا “الحليف القديم” وتجديد إدانة “الهجمات الارهابية ضد المواطنين الفرنسيين الأبرياء وخصوصاً ما شهدته مدينة نيس مؤخراً، إضافة إلى القتل المروّع للمدرس الفرنسي صامويل باتي”.
ثم ناقش الجانبان مواضيع الوحدة بين ضفتي الأطلسي ومواجهة التهديدات العالمية، بما في ذلك الإرهاب. وفي هذا الإطار، أكد لودريان لنظيره الأميركي معارضة باريس نية واشنطن تسريع سحب قواتها من أفغانستان والعراق، وهو ما وعد ترامب بإنجازه قبل انتهاء ولايته في 20 كانون الثاني/يناير المقبل.
ماذا عن المستجدات اللبنانية؟
يقول مصدر مطلع في العاصمة الفرنسية إن المدخل إلى الحديث عن هذا الموضوع جاء عند التطرق إلى الملفين الإيراني والتركي. فالملف الإيراني، الذي ساهم إلى جانب إتفاقيتي المناخ والتجارة، في توتر العلاقات إلى حد شبه القطيعة بين واشنطن ودول الإتحاد الأوروبي منذ أربع سنوات، تصدر إهتمام الجانب الأميركي، الذي يعتبر، وفق مصدر مطلع، “أن تصرفات إيران المزعزعة للإستقرار في مختلف أنحاء المنطقة غير مقبولة وتعرض شركاء واشنطن للخطر ولا سيما في منطقة الخليج”.
وفي معرض إثارته للأماكن التي تتحرك فيها طهران لبسط هيمنتها “عبر أدواتها وأذرعتها المحلية” من العراق إلى سوريا إلى اليمن، توقف بومبيو عند “تأثير حزب الله الضاغط في لبنان”، الأمر الذي “يعرقل قيام حكومة تساهم في توطيد الإستقرار وتحقيق الإصلاح”.
توقف بومبيو عند “تأثير حزب الله الضاغط في لبنان”، الأمر الذي “يعرقل قيام حكومة تساهم في توطيد الإستقرار وتحقيق الإصلاح”
وفي مواجهة هذه السياسة الإيرانية، قال بومبيو إن الادارة الأميركية تنوي متابعة نهج العقوبات الاقتصادية الموجعة بغية “ممارسة أقصى الضغط على طهران لدفعها إلى تغيير سلوكها الحالي المؤذي تمهيداً للسماح لها بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والبدء بالتصرف كدولة عادية”، وهي إستراتيجية يرى بعض المراقبين أنها تنمّ عن عزم على بناء “جدار من العقوبات” يجعل من الصعب على الرئيس الاميركي المقبل العودة إلى الوراء.
لا يتقاطع موقف فرنسا مع موقف الولايات المتحدة في العديد من الملفات، لكن الديبلوماسية الفرنسية شددت، حسب مصدر فرنسي، على ضرورة “العودة إلى نهج مشترك تجاه إيران، حتى نتمكن معاً (أوروبا والولايات المتحدة) من ضمان الغايات السلمية للبرنامج النووي الإيراني والرد على التحديات الأخرى التي يفرضها هذا البلد على أمننا وعلى أمن منطقة الشرق الأوسط”.
تمدد التدخل “العدواني” التركي
الملف الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول هو الملف التركي. وقد تم التطرق إليه بشكل مستفيض نتيجة تشارك الجانبين الفرنسي والأميركي “القلق المتزايد من إتساع مساحة التدخلات التركية من قبرص إلى اليونان إلى سوريا إلى ليبيا وصولاً إلى ناغورنو قره باخ”.
وقد التقى الجانبان الفرنسي والأميركي على وصف التصرفات التركية بعبارات قاسية والقول بأنها “عدوانية للغاية”. وفي هذا الإطار، أثار الجانب الفرنسي تمدد النفوذ التركي نحو شمال لبنان وإستغلال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية الصعبة في لبنان من قبل أنقرة وتوسيع عمل الجمعيات وتفعيل مساعداتها. وما زاد في رفع نسبة القلق هو تعزيز شبكة التواصل السياسي مع شخصيات في عاصمة الشمال اللبناني (طرابلس) من أجل خلق “بيئة حاضنة سياسية وشعبية متعاطفة” تساعد في تمدد وتوطيد النفوذ التركي في مناطق الشمال اللبناني في مواجهة توسع الهيمنة الإيرانية في الجنوب والبقاع والعاصمة.
أنهى المصدر الفرنسي كلامه قائلاً بمرارة وسخرية: “عندما سنرسل الطحين، فإننا سنحرص على عدم ايصال ولا حتى باغيت واحدة (رغيف فرنسي واحد) إلى أي من المسؤولين اللبنانيين.. لأنهم لا يستحقون ذلك”
وفي حين إعتبر بومبيو أنّه “يجب على أوروبا والولايات المتحدة العمل معاً لإقناع رجب طيب أردوغان بأنّ مثل هذه الأعمال لا تصبّ في مصلحة شعبه”، شدد لودريان على ضرورة “تحديد نهج مشترك أكان بين دول الأطلسي أم بين دول الإتحاد الاوروبي لمواجهة سلوك تركيا الذي يطرح مشاكل كبيرة في شرق البحر المتوسط وأماكن أخرى”. ويبدو أن باريس تدرس إمكان إعادة طرح موضوع فرض العقوبات ضد أنقرة خلال القمة الأوروبية في شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل.
الحكومة اللبنانية متعثرة
استناداً إلى ما تقدم، ظهر، حسب المصدر، توافق فرنسي – أميركي حول ضرورة “صيانة الإستقرار الداخلي في لبنان” مع دعوة مشتركة إلى الفرقاء اللبنانيين من أجل “التوقف عن إستجلاب قوى خارجية وجعلها أدوات في لعبة توسيع الهيمنة وتمدد النفوذ الخارجيين نظراً لخطورة لعبة المحاور والصراعات الخارجية على مستقبل لبنان ووجوده”. كما طالب الجانبان الفرنسي والأميركي الفرقاء السياسيين في لبنان “بإدراك الحاجة الملحة للتلاقي والتخلي عن المصالح الفردية الأنانية والبدء بمسيرة الإصلاح لأن أوضاع لبنان كارثية ولا تحتمل ترف الانتظار وعملية الحسابات النفعية والمناكفات العقيمة”.
ويبدو، حسب مصدر مطلع في باريس، أن المقصود من هذه التلميحات، هما الجهتان المعنيتان بتأليف الحكومة اللبنانية الجديدة. فمن جهة هناك “تصلب” التيار الوطني الحر حيال تمسكه بحصته وإختيار وزرائه المسيحيين، ومن جهة أخرى، هناك “تشدد” حزب الله في مقابل مواجهة “إرتباك” رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري وتردده وحرجه نظراً للضغوط الأميركية ومحاولته إعادة كسب مودة المملكة العربية السعودية وعدم تعريض علاقاته مع تركيا ليس فقط لحسابات سياسية بل أيضاً حرصاً على مصالح مالية شخصية عالقة في هذين البلدين (تركيا والسعودية).
واخيراً، وفي معرض الإعراب عن امتعاضه من تلكؤ الفرقاء السياسيين في التجاوب “الفعلي والصريح والسريع” مع المساعي الفرنسية لحلحلة الوضع السياسي المتأزم للبدء بمسيرة الاصلاح الاقتصادي والمالي، قال مصدر فرنسي متابع للملف اللبناني أنه وفي حال فوّت هؤلاء الفرصة فإن فرنسا ستتخلى عن مبادرتها السياسية – الاقتصادية وستكتفي بمبادرتها الإجتماعية – الإنسانية حيال الشعب اللبناني. وأنهى المصدر الفرنسي كلامه قائلاً بمرارة وسخرية: “في حال توقف مبادرتنا، سنستمر في إرسال مساعداتنا الانسانية مباشرة الى الشعب اللبناني. وعندما سنرسل الطحين، فإننا سنحرص على عدم ايصال ولا حتى باغيت واحدة (رغيف فرنسي واحد) إلى أي من المسؤولين اللبنانيين.. لأنهم لا يستحقون ذلك”!