يؤكد الكاتب أندرو بي. ميلر أن علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل ظلّت قوية ووثيقة واستثنائية، حتى خلال حرب غزة 2023، إذ قدّمت إدارتان أميركيتان دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا غير مشروط، أو شبه غير مشروط، لإسرائيل؛ لكن هذا النوع من العلاقات الثنائية يأتي بتكاليف باهظة:
أولًا؛ أدى الدعم الأميركي غير المشروط إلى إطلاق يد القادة الإسرائيليين من دون رقابة، ما شمل التوسّع المستمر في إنشاء المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وسقوط أعداد كبيرة من المدنيين في غزة، وصولًا إلى المجاعة.
ثانيًا؛ مكّن الدعم الأميركي إسرائيل من شنّ عمليات عسكرية متهوّرة في أجزاء من الشرق الأوسط، ما فاقم المخاطر الوجودية التي تواجهها إسرائيل نفسها، ومنها تراجع الدعم الشعبي الأميركي لها.
المخاطر الأخلاقية للدعم غير المشروط
أدى الدعم غير المشروط إلى مخاطر أخلاقية تضرّ بمصالح البلدين:
أولًا؛ لم يعد لدى إسرائيل سبب للاستجابة للمخاوف والمصالح الأميركية، لأن الرفض لا يكلّفها شيئًا، بل يشجّعها على تبنّي مواقف قصوى غالبًا ما تتعارض مع المصالح الأميركية.
ثانيًا؛ يصعب افتراض عصمة القادة الإسرائيليين عن الخطأ في تقديراتهم، بما في ذلك تقدير التطورات المحيطة بهم. ويشهد على ذلك الفشلان الإسرائيليان في منع هجوم تشرين/أكتوبر 1973 المفاجئ، ثم هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ثالثًا؛ أبرزت تداعيات هجوم حماس في 7 أكتوبر العيوب الجوهرية في هذه العلاقة الاستثنائية، إذ استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد قرارات عديدة في مجلس الأمن دعت إلى وقف إطلاق النار، في خطوة اعتبرتها دول كثيرة تغاضيًا عن التجاوزات الإسرائيلية.
يُظهر الاستطلاع أن الأميركيين تحت سن 45 عامًا أكثر ميلًا للتعاطف مع الفلسطينيين بنسبة تتجاوز الضعف مقارنة بتعاطفهم مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذه التحولات في الرأي العام لم تُترجم بعد إلى تغييرات في السياسة، لا يمكن لإسرائيل توقّع استمرار هذا الانفصال بين الواقع وصنّاع القرار إلى الأبد
رابعًا؛ جرى عمليًا تعليق تطبيق «قوانين ليهي» (Leahy Laws)، التي تحظر تقديم مساعدات أميركية لوحدات عسكرية يثبت ارتكابها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، برغم أن هذه القوانين لا تسمح باستثناءات من هذا النوع.
خامسًا؛ شجعت اليد الحرة التي منحتها إدارة دونالد ترامب لإسرائيل على التوسّع في مغامراتها الإقليمية، إذ لم تُقابل العمليات الإسرائيلية في لبنان وسوريا، خلال الربيع والصيف، إلا باحتجاجات أميركية شكلية وضعيفة.
سادسًا؛ لم يتدخّل ترامب للضغط من أجل وقف إطلاق نار جديد إلا في أواخر أيلول/سبتمبر 2025، بعد مقتل ما يقرب من 20 ألف فلسطيني إضافي منذ انهيار وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير 2025، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
سابعًا؛ جاء الضغط الأميركي لتمرير اتفاق وقف إطلاق النار بعد محاولة الاغتيال المتهوّرة التي نفذتها إسرائيل في أيلول/سبتمبر بحق قادة من حماس في قطر، وهي شريك للولايات المتحدة ومضيف لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط (العيديد). وقد هدّد هذا الفشل في حماية شريك للولايات المتحدة بتقويض مصداقية واشنطن.
ثامنًا؛ يشير ميلر إلى أن العزلة الدولية التي تعيشها إسرائيل اليوم نتيجة مباشرة لحرب غزة تشكل خطرًا واضحًا عليها. فقد أعلن قادة هولندا وإسبانيا وسويسرا استعدادهم لاعتقال بنيامين نتنياهو إذا دخل أراضيهم، كما علّقت المملكة المتحدة بعض صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
في السياق ذاته، يستشهد ميلر باستطلاع أجرته «نيويورك تايمز» وجامعة سيينا في أيلول/سبتمبر 2025، أظهر معارضة أكثر من نصف الأميركيين—وسبعة من كل عشرة تحت سن الثلاثين—تقديم دعم عسكري واقتصادي إضافي لإسرائيل. كما يرى خمس الأميركيين، وثلثا الشباب دون الثلاثين، أن إسرائيل تقتل المدنيين الفلسطينيين عمدًا. ويُظهر الاستطلاع أن الأميركيين تحت سن 45 عامًا أكثر ميلًا للتعاطف مع الفلسطينيين بنسبة تتجاوز الضعف مقارنة بتعاطفهم مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذه التحولات في الرأي العام لم تُترجم بعد إلى تغييرات في السياسة، لا يمكن لإسرائيل توقّع استمرار هذا الانفصال بين الواقع وصنّاع القرار إلى الأبد.
التكاليف على الولايات المتحدة
يوضح ميلر أن الحفاظ على العلاقة الاستثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل فرض تكاليف باهظة على واشنطن. فهذه السياسة لا تقوّض أهداف الولايات المتحدة ومبادئها فحسب، بل أدت أيضًا إلى تدهور مكانتها الدولية خلال العامين الماضيين. وقد استغلّ خصومها ذلك بحماس، إذ استخدمت الصين هذا التدهور لتعزيز موقعها بوصفها فاعلًا دوليًا «مسؤولًا»، بينما اغتنمت روسيا الفرصة لصرف الانتباه عن تجاوزاتها في أوكرانيا.
ويضيف ميلر أن الإذعان الأميركي لرغبات الحكومة الإسرائيلية، من دون تقييم كافٍ للعواقب، يُعرّض أمن إسرائيل واستقرارها للخطر، ويزيد من معاناة الفلسطينيين، ويقوّض المصالح العالمية للولايات المتحدة. لذلك، فإن حماية المصالح الإسرائيلية والفلسطينية والأميركية تعتمد على تطبيع هذه العلاقة الاستثنائية.
نحو علاقة طبيعية وقابلة للمساءلة
يجب على واشنطن تطبيع سياساتها تجاه إسرائيل، بحيث تصبح متوافقة مع القوانين والقواعد والتوقعات التي تحكم علاقاتها الخارجية بغيرها من الدول. ففي علاقة أكثر طبيعية، ستتمتع الولايات المتحدة بالمرونة اللازمة لموازنة هدف حماية إسرائيل ضد مخاطر تمكينها المفرِط.
إن اتخاذ خطوات مثل (deliberate toward this normalization) سيسمح لواشنطن بوضع شروط واضحة، مثل مطالبة إسرائيل بنقل مزيد من مسؤوليات الحكم في الضفة الغربية إلى الفلسطينيين، ومحاكمة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف، كشرط مسبق لتطوير علاقة ثنائية «خاصة» ولكن طبيعية ومساءلة. وهذا هو جوهر التطبيع الذي يمكّن واشنطن من ممارسة نفوذها بفاعلية.
يُشير أندرو بي. ميلر إلى خطوات عدة لتحقيق ذلك:
أولًا؛ التوصل إلى تفاهم مشترك مع إسرائيل حول الأهداف المتطابقة والمتباينة، وتحديد حدود الدعم بما لا يضر بالمصالح المشتركة. ويعني ذلك التزامًا أميركيًا ثابتًا بأمن إسرائيل، من دون تمكينها من فرض سيطرة دائمة على الضفة الغربية أو غزة.
ثانيًا؛ تطبيق القوانين والمعايير الأميركية والدولية على إسرائيل كما تُطبَّق على أي دولة أخرى. وهذا يشمل قوانين «ليهـي» الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان، وقانون المساعدة الخارجية، وقانون النزاعات المسلحة الذي يفرض التمييز بين المقاتلين والمدنيين في كل العمليات العسكرية. ومن ثم، يجب معاقبة أي وحدة إسرائيلية تنتهك حقوق الفلسطينيين وفق القانون الإسرائيلي، وإلى حين تطبيق العقوبة، لا ينبغي أن تحصل على دعم أميركي.
ثالثًا؛ أن تصبح المشروطية جزءًا ثابتًا في العلاقة الأميركية الإسرائيلية. فحتى أقرب الحلفاء لا يستجيبون دائمًا للنداءات الودية، لذا يجب استخدام المساعدة الأميركية كورقة ضغط على الجهات التي تتصرف بما يتعارض مع المصالح الأميركية.
في الخلاصة؛ يرى ميلر أن الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، على مدى عقود، قَوَّض بدلاً من أن يعزّز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. وكان الفلسطينيون الضحايا الأساسيين لهذه الإخفاقات، لكن الولايات المتحدة وإسرائيل نالتا أيضًا نصيبهما من الخسائر. لذلك يدعو الكاتب واشنطن إلى ضرورة تطبيع علاقتها مع إسرائيل عبر تطبيق القوانين، وفرض المشروطية، وتحديد قيود واضحة على الدعم، بما يحفظ أمن إسرائيل من دون الإضرار بمكانة الولايات المتحدة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
