في تلك المرحلة، امتاز المشروع السياسي بمحلّيته، وحملت فيه المقاومة رؤية تجعل الانسحاب الإسرائيلي أو منع العدوّ من إعادة احتلال ما انسحب منه هدفًا قابلًا للتحقيق. شيئاً فشيئاً، أخذت المعادلات في التغير. لم يعد العدوّ مجرّد جيش يحتل أرضًا محددة، بل ظلّ يتضخّم باضطراد ويتّسع إلى منظومة كبرى، تمتد من القوة العسكرية إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية. ولم تعد خطوط الاشتباك مقتصرة على حدود جغرافية فقط، بل باتت جزءًا من صراع إقليمي ودولي تتداخل فيه القوى الكبرى وتتشابك مع التحولات الداخلية للدول.
بعد عمليّة “طوفان الأقصى”، وما تلاها من حرب إبادة في غزة، تغيرت ظروف الصراع بشكل جذري، سواء فيما يتعلق بطبيعة الحرب التدميرية؛ حجم التهديد الوجودي؛ واقع حركات المقاومة؛ واقع “الأمّة” العربية؛ الدور العربي والدور الدولي، إلخ… لقد أفرز “الطّوفان” انزياحاً في طبيعة المقاومة من كونها من أجل التحرير، حيث وجود الشعب مسألة مفروغ منها في أرضٍ تسعى إلى استردادها، إلى كونها مقاومة من أجل بقاء الشعب ومنع الإبادة وحفظ الوجود. هو تحوّلٌ بنيوي بطبيعته، من خلال ما استولدته استراتيجية العدوّ وطبيعته المستجدّة، والتي ظهر معها وللمرة الأولى منذ النكبة عام 1948 تهديدٌ حقيقيٌ ضدّ الشّعب الفلسطيني الغزّاوي نفسه لا ضدّ الأرض، ثمّ مجدّداً ضدّ وجود الجنوبيين اللبنانيين في القرى الحدودية، أو في سبيل إجبارهم على النزوح منها، وتهديدهم هَوَوياً، كما هو الواقع الآن.
الانتقال بالمقاومة، من حيث النوع لا من حيث الجوهر، له تبعاته البديهية على مستوى عملها، أهدافاً ووسائل؛ ذلك أنّ صوغاً جديداً لمعناها سيفرضه المشهد المتغيّر، والّذي لا يعود معه مشروع المقاومة جغرافياً فقط. علماً أن المقاومة، نظرياً، ليست مفهوماً ثابتًا؛ هي ابنة اللحظة التاريخية التي تنشأ فيها، تتغيّر مع تغيّر شكل الحرب وأدواتها، ومع تبدّل بنية العدو وتحوّل المجتمع نفسه.
مع هذا التحوّل الجديد، أصبحت المقاومة مهددة ليس فقط في قدرتها على تحرير الأرض أو منع الاعتداءات، بل في بقائها كقوة، وفي بقاء جمهورها ومجتمعها ضمن معادلة آمنة. لقد أضحت منوطةً بأن تمنع الإبادة، وتحمي المجتمع الذي تستند إليه، وتحافظ على توازنٍ رادعٍ يمنع انهيار الجبهة الداخلية بالدرجة الأولى، وصار القرار المقاوم مرتبطًا بشبكة معقدة من الحسابات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، إذ باتت الحرب، في كثير من الأحيان، ليست الطريق إلى النصر، بل طريقًا لتجنب الهزيمة الوجودية.
المعنى المستجد للمقاومة
ويرتسم التباين العمليّ بين طوري المقاومة بِسِمات واضحة وملحوظة؛ فعندما يتعلّق الأمر بمسألة جغرافية، ستعتمد المقاومة عندها بالأساس على النخبة، حيث المقاتل المتدرّب فيها هو العنصر المركزي، وستكون الجهود مكثّفة لأجل العمليات الهجومية، حيث التكتيكات مختصرة في كيفية مهاجمة العدو، والاستراتيجيات مدروسة لأجل كسر التفوق العسكري. في مثل هذا النوع، تغدو القيادة مركزية، والتركيز على العدو، كما تكون الوسائل عسكرية. أما عندما تكون المسألة وجودية، إنسانية، سيصبح المجتمع بأكمله مقاوماً، وتتكثّف الجهود لأجل حماية السكان والمنشآت والخدمات، وتُختصر التكتيكات في كيفية منع الخصم من تدمير النسيج الاجتماعي، والاستراتيجيات في كيفية استنزاف الإرادة الإبادية، بحيث تصبح الرؤية أكبر من مجرد حسابات عسكرية: كيف نمنع الانهيار الإنساني؟ كيف نحمي الناس من التهجير؟ كيف نواجه الحرب النفسية؟ كيف نجعل المجتمع يتكيّف مع حرب طويلة الأمد؟.. وفي مثل هذا النوع من المقاومة، لا تكون القيادة مركزية بل شبكية، التركيز يكون على الذات، والوسائل منوطة بكيفية تعزيز قدرة المجتمع على الحياة.
إثر هذا التباين، يمكن القول أن المعنى المستجد للمقاومة يعيد صوغ بعدها الأخلاقي دون أن يلغيه؛ ففي مرحلة التحرير، كان البعد الأخلاقي مستندًا إلى عدالة القضية واستعادة الحق. أما اليوم، فقد صار مستندًا إلى فكرة منع العدوّ من فرض شروط استسلام تُنهي قدرة الناس على العيش الكريم. وهكذا، غدا معنى التضحية مختلفًا أيضًا؛ فهي لم تعد تُنتج تحريرًا مباشرًا، بل صارت أحيانًا وسيلة لدرء كارثة أكبر.. وتلك نقلة تجعل المقاومة أمام مسؤولية مزدوجة: أن تستمر في الفعل العسكري، وأن تحافظ في الوقت نفسه على نسيج مجتمعها المتعب والمنهك والمحاصر بالأزمات.
لقد دخلت المقاومة طورًا تاريخيًا جديدًا يتطلّب إعادة تعريفٍ مستمرٍّ لمعناها، دورها، أدواتها، علاقتها بالمجتمع، وعلاقتها بالعالم. فالمقاومة اليوم باتت مشروعاً يكتب فيه الناس تاريخهم وهم يقاتلون لكي يبقوا، لا لكي ينتصروا وحسب. وعليه، ليس الانتقال من المقاومة لأجل التحرير إلى المقاومة لأجل البقاء سقوطًا ولا هزيمة، بل إعادة تعريف لطبيعة الصراع نفسه. وفي عالم يتجه أكثر فأكثر نحو حروب الإبادة البطيئة والمضمرة، ربما تصبح هذه الصيغة ليست استثناءً، بل قاعدة جديدة لمعنى المقاومة في زمن بلا قواعد!
وفي قلب كلّ هذا التحول، تبرز جبهة جديدة متمثلة بجبهة الوعي. إذ لم تعد المعركة تُخاض بالمدفع وحده، بل بالصورة والكلمة والسردية، لأنه في زمن البقاء، يصبح تمزيق الوعي جزءًا من محاولة قتل المجتمع، ويصبح تثبيت الرواية جزءًا من حماية الحياة. لذلك، باتت الحرب النفسية جزءًا من الحرب العسكرية، وصارت شرعية المقاومة تُقاس أيضًا بقدرتها على حماية المعنى، لا فقط على حماية الجغرافيا.
ثمّ وفي قلب هذا التحول أيضاً، تغير الزمن نفسه. لقد كان زمن التحرير قصيرًا، مكثّفًا، له بداية ونهاية. أمّا مع حروب البقاء فالزمن طويل، مفتوح، يتطلب قدرة على إدارة الصبر، وضبط الإيقاع، وتجزئة الأهداف، وتحمّل الخسائر دون الانكسار. هكذا، بات الزمن نفسه سلاحًا واستحقاقًا، وأحيانًا عبئًا، ما يفرض شكلًا جديدًا من القيادة ومن إدارة المجتمع.
إعادة تعريف الصراع
إن تغير نوع المقاومة يخلق جملة من الإشكالات البنيوية التي تعيد طرح الأسئلة حول طرق عمل المقاومات من الداخل. وإذا كان أول هذه الإشكاليات يتعلّق بأزمة المعنى نفسه وإعادة تشكيل وعي جديد للمقاوم ودوره غير المرتبط بالحدود، بل بالحياة، فإن من شأن هذه الأزمة أن تولّد بطبيعة الحال إشكالاً آخر شديد الحساسية يتعلّق بالشرعية. كانت شرعية المقاومة لأجل التحرير نظرياً تلقائية وراسخة لأنها ترفع عنوانًا واضحًا وذا جاذبية أخلاقية (ومع ذلك حاول الكثيرون ترسيخ مقولة أن العين لا تقاوم المخرز). أما شرعية مقاومة البقاء، فتبدو أكثر هشاشة أو أقل منعة أمام المناوئين لخيار المقاومة، لأنها تقوم على قرارات تُحتسب فيها الكلفة والجدوى، وقد يشعر قسم من المجتمع أن ثمن البقاء بات يفوق قدرته على الاحتمال. وهنا قد تنشأ فجوة بين المقاومة ومحيطها، لا لأن مشروعها ظالم، بل لأن الواقع ضاغط إلى حد يربك الناس في تقييمهم للأثمان.
يتفرّع عن ذلك إشكال ثالث يزيد المشهد تعقيدًا، ويتعلق بالكلفة الاجتماعية للحرب الطويلة أو للاستزاف الطويل، فعندما يتحول المجتمع نفسه إلى خط دفاع أول، تصبح الخسائر جزءًا من معادلة الردع، ويغدو الحفاظ على تماسك الناس مهمة مركزية. وفي هذا السياق، ترتفع حساسية النقاش الأخلاقي: كيف يمكن لمقاومة تسعى لصون المجتمع وضمان بقائه أن تطلب منه في الوقت نفسه تحمّل تبعات قد لا يقدر عليها ولا ينتج عنها بقاؤه؟
ثمّ تتعمّق هذه الإشكالات مع دخول المدنيين في صلب مركز المعركة. ففي حروب التحرير كان المدنيون غالبًا خارج الاستهداف المباشر، لكن في حروب الإبادة سيصبحون الهدف الأول. وربّما أخطر ما أنتجه الانتقال إلى حروب البقاء هو أنّ العدوّ نفسه بات يدرك أن هدف المقاومة لم يعد تحقيق نصر عسكري مباشر، بل منع الهزيمة، وهذا ما يدفعه إلى محاولة كسر إرادة المجتمعات عبر استهداف المدنيين والبنى التحتية وزيادة الكلفة الاجتماعية، كما وتقوية الخصوم السياسيين لأجل سحب الشرعية من المقاومة، لأن الإجهاز على البيئة الحاضنة لها وإثارة الشكوك حول شرعية وجودها أصبح في كثير من الأحيان أكثر فاعلية من المواجهة العسكرية التقليدية. تبرز بالتوازي هنا حدود القوة بوصفه التحدي المركزي الجديد للمقاومة. فهي برغم قدراتها، تعمل في ظل حصار اقتصادي ومالي وتقني وسياسي. وهذا يُكبّل قدرتها على المواجهة بشكل غير مسبوق، ويجعل التناقض بين طموحاتها وإمكاناتها كبيراً، ويضع مقاومة البقاء، إن صحّ التعبير، أمام تحدي تثبيت السلم الأهلي إلى جانب تثبيت خطوط النار.
ولعلّ أخطر مآلات التّحولات المستجدة يرتبط بأزمة الأفق: ما هو أفق مقاومة البقاء؟ وهل يمكن أن تعود إلى مشروع تحرير؟ أم أنها ستظل معلقة بين منع الإبادة ومنع الاستسلام؟ وهل الاستمرار في هذا النمط يراكم القوة أم يستهلكها؟ وهل يمكن للمجتمع أن يصمد عقودًا في صراع مفتوح كهذا؟
لقد دخلت المقاومة طورًا تاريخيًا جديدًا يتطلّب إعادة تعريفٍ مستمرٍّ لمعناها، دورها، أدواتها، علاقتها بالمجتمع، وعلاقتها بالعالم. فالمقاومة اليوم باتت مشروعاً يكتب فيه الناس تاريخهم وهم يقاتلون لكي يبقوا، لا لكي ينتصروا وحسب. وعليه، ليس الانتقال من المقاومة لأجل التحرير إلى المقاومة لأجل البقاء سقوطًا ولا هزيمة، بل إعادة تعريف لطبيعة الصراع نفسه. وفي عالم يتجه أكثر فأكثر نحو حروب الإبادة البطيئة والمضمرة، ربما تصبح هذه الصيغة ليست استثناءً، بل قاعدة جديدة لمعنى المقاومة في زمن بلا قواعد!
