تهتم وثيقة استراتيجية الأمن القومي بالمجالات الحيوية للولايات المتحدة في مناطق النفوذ والصراع حول العالم، وفي الحقول الاقتصادية والأمنية والسياسية والعسكرية. وما يهمّنا في منطقة الشرق الأوسط أنّ هذه الاستراتيجية تأتي في سياق تغييرات جذرية في التوازن الإقليمي، أعقبت أحداث «طوفان الأقصى» في تشرين الأول/أكتوبر 2023، التي أشعلت حربًا ضروسًا شنّها كيان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وصولًا إلى عملية «مطرقة منتصف الليل» في حزيران/يونيو 2025، التي نفذتها الولايات المتحدة بالتنسيق مع الكيان الإسرائيلي ضد المنشآت النووية الإيرانية؛ مرورًا بالحرب التي تعرض لها لبنان، وما تلاها من سقوط نظام بشار الأسد في سوريا.
تعيد هذه الوثيقة ترتيب الأولويات الأميركية عالميًا، مع تقليص التركيز على الشرق الأوسط لصالح آسيا والصين، لكنها في الوقت نفسه تحمل دلالات عميقة لإيران والدول العربية والمنطقة ككل. إذ تشير إلى أن الشرق الأوسط «لم يعد الأولوية الاستراتيجية الأولى» للولايات المتحدة، في ظل زيادة الإنتاج الأميركي من الطاقة وتراجع الاعتماد على الإمدادات الخليجية. كما تصف المنطقة بأنها «مصدر للفرص الاقتصادية» بدلًا من كونها «مسرحًا للحروب الأبدية»، مشددة على أهداف أساسية، أبرزها:
أولًا؛ منع سيطرة قوى معادية على إمدادات النفط والغاز.
ثانيًا؛ ضمان سلامة مضيق هرمز والبحر الأحمر.
ثالثًا؛ مكافحة الإرهاب الذي يهدد الولايات المتحدة.
رابعًا؛ تأمين إسرائيل بوصفها حليفًا استراتيجيًا.
يعكس هذا التحول فلسفة ترامب «أميركا أولًا»، حيث تُفضَّل الشراكات الاقتصادية والاستثمار في مجالات مثل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي على التدخلات العسكرية الطويلة الأمد. ومع ذلك، تعترف الاستراتيجية بأن المنطقة لا تزال «حساسة» بسبب التوترات المستمرة، ولا سيما مع إيران، ما يجعلها محورًا دائمًا للتحليل.
بالنسبة إلى الدول العربية، ترى الوثيقة فيها شركاء محتملين لـ «تحويل الشرق الأوسط إلى مركز للاستثمار العالمي»، مع توسيع اتفاقيات أبراهام لتشمل مزيدًا من الدول. ويعني ذلك انتقالًا من الاعتماد على الولايات المتحدة إلى تحمّل مسؤولية إقليمية أكبر، مع تشجيع ما تسميه الوثيقة «إصلاحات عضوية» من دون تدخل أميركي مباشر في الشؤون الداخلية.
أما بالنسبة إلى إيران، فتمثل استراتيجية 2025، وفق توصيف الوثيقة، «نهاية عصر» لنفوذها الإقليمي؛ إذ تصفها بأنها «القوة المزعزعة الرئيسية في المنطقة»، وتعتبر أن العدوان الأميركي–الإسرائيلي على منشآتها النووية «أضعف بشكل كبير البرنامج النووي الإيراني»، إضافة إلى الحرب الإسرائيلية التي أدّت، بحسب الوثيقة، إلى تدمير قدرات حركة حماس وبقية الفصائل المنضوية ضمن المحور الإيراني.
ومن الطبيعي أن تثير هذه الاستراتيجية غضبًا شديدًا في طهران، حيث وصفها المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بأنها «خدمة لإسرائيل» و«تبرير للعدوان الأميركي». في المقابل، تفاوتت ردود الفعل العربية؛ فاعتبرتها بعض الدول «فرصة للشراكة الحقيقية»، فيما أبدت القاهرة وبغداد قلقهما من «فراغ أمني» محتمل، ولا سيما مع استمرار التوترات في العراق وسوريا. في حين رأت دول أخرى أن الاستراتيجية تقدم «يد المساعدة» بشروط، مع التشديد على تعزيز التحالفات الإقليمية ودعم استقرار سوريا بوصفها «لاعبًا إيجابيًا» بالتنسيق مع تركيا والدول العربية.
وكان لا بدّ من هذه المقدمة لاستشراف أهداف الوثيقة الأميركية ومدى تأثيرها في الأمن والاستقرار في منطقة تتطلع إلى التنمية والإعمار واستثمار الفرص المتاحة.
فمنذ انتهاء الحرب الباردة عام 1991 بتفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار النظام الأمني الإقليمي، وسقوط النظام العربي الرسمي مع إسقاط نظام صدام حسين في العراق، برزت بوضوح المشاريع الإقليمية في المنطقة، وهي ثلاثة لا رابع لها: المشروع التركي، المشروع الإيراني، والمشروع الإسرائيلي. وكان لكل من هذه المشاريع قوالب وأهداف وخطط وبرامج. إلا أن أحداث الأعوام 2023 و2024 و2025 أوجدت ظروفًا ومناخات جديدة، وإن لم تتضح بعدُ كامل تأثيراتها، لكنها منحت المشروع الإسرائيلي، بدعم أميركي واضح، مجالات واسعة للتنفس والتوسع، ولا سيما مع طرح إسرائيل فكرة «الشرق الأوسط الجديد» والتطلع إلى «إسرائيل الكبرى»، كما عبّر عن ذلك رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو.
ومن خلال الوثيقة الاستراتيجية الأميركية للسنوات الأربع المقبلة، تبدو واشنطن في صدد الابتعاد النسبي عن المنطقة، مع إسناد «مسؤولية إقليمية» أكبر لإدارة أزماتها. وعندما تتحدث الولايات المتحدة عن «مسؤولية إقليمية»، فإنها تعني عمليًا الدولة العبرية، إذ يصعب تصور أي جهة أخرى خارج إطار إسرائيل التي تُعتبر «أولوية مطلقة» في حسابات واشنطن.
ويسود الاعتقاد أن هذه الاستراتيجية، على خطورتها، لن تمرّ مرور الكرام. فبينما تراها إسرائيل فرصة ذهبية نادرة لم تتح لها منذ أكثر من سبعين عامًا، فإن إيران ليست في وارد التخلي عن برنامجها ومشروعها الإقليمي، وفق ما تشير إليه أدبياتها بعد عدوان حزيران/يونيو 2025، كما أنها ليست ضعيفة بالقدر الذي تصوّره بعض دوائر القرار الغربية، حيث يُلاحظ قدر من المبالغة في تقييم نتائج حرب الأيام الاثني عشر.
إن منح إسرائيل مساحة واسعة للتحرك الإقليمي وفق مقاساتها السياسية والأمنية والتوسعية، بدعم مباشر من الأسطول الخامس الأميركي ومقر قيادة «سنتكوم»، من شأنه أن يُشعل المنطقة ويدفع أرضها الساخنة إلى مزيد من الانفجارات، في مواجهة مشروع إسرائيلي يسعى إلى تحقيق شعار «من النيل إلى الفرات».
ويعتقد خبراء أن المنطقة قد تنزلق إلى فوضى جديدة بسبب اليد الإسرائيلية الطولى، بمساهمة أميركية واضحة، ما لم تواجه دول المنطقة هذه التحديات عبر بناء تحالفات إقليمية أمنية وسياسية واقتصادية، قادرة على كبح التوسع الإسرائيلي والتوترات التي يفرضها على حساب الأرض العربية والأمن والاستقرار الإقليميين.
في المحصلة، لا يمكن النظر إلى الاستراتيجية الأميركية الجديدة بوصفها خارطة طريق نهائية بقدر ما هي إطار عام لإدارة مرحلة انتقالية مضطربة في الشرق الأوسط. فهي تعكس رغبة أميركية في تقليص الانخراط المباشر، من دون التخلي الكامل عن أدوات التأثير، وفي إعادة توزيع الأدوار الإقليمية وفق معادلة المصالح لا الالتزامات التاريخية. وبينما ترى فيها إسرائيل فرصة لتعزيز موقعها الإقليمي، وتتعاطى معها إيران بوصفها محاولة لتطويق نفوذها، تجد الدول العربية نفسها أمام اختبار مزدوج: إما الانخراط الواعي في صياغة توازنات جديدة تحمي مصالحها وأمنها، أو الاكتفاء بردود فعل ظرفية تكرّس هشاشة النظام الإقليمي. وعليه، فإن مستقبل المنطقة لن يتحدد فقط بما ورد في الوثيقة الأميركية، بل بقدرة الفاعلين الإقليميين على تحويل لحظة التحول هذه من مصدر للمخاطر إلى فرصة لإعادة بناء الاستقرار على أسس أكثر توازنًا وواقعية.
(*) يُنشر بالتزامن مع جريدة “الصباح” العراقية
