رؤية بن سلمان.. على حافة تقلبات تهدّد العقد الإجتماعي السعودي

على وقع وباء كورونا وتداعياته على الاقتصاد العالمي، وانكماش الطلب على النفط، تثار علامات استفهام عديدة حول إمكانية استكمال السعودية للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي باشرها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في السنوات الخمس الأخيرة.

تمثل “رؤية 2030” العنوان الأبرز في مشروع محمد بن سلمان ونقطة تمايزه الأهم عن أسلافه ومنافسيه، فبجانب استثمارها سياسياً ودعائياً لتثبيت جدارته بالعرش الملكي، هي تعد نقطة التحول الأبرز في تاريخ المملكة منذ تأسيسها، بل أن كثيرين داخل السعودية وخارجها اعتبروها بمثابة تأسيس ثانٍ للمملكة، بما يجعل ولي العهد الحالي يوازي أهمية جده الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود.

وبخلاف الشق الدعائي والترفيهي، فإن الطموحات الواسعة لـ”المؤسس الثاني” تصطدم دوماً بعراقيل وعوائق، معظمها متصل بالصراع الداخلي في العائلة المالكة، والذي استطاع بن سلمان اخفات صداه بمراحل مختلفة، ولكن من دون حسمه بشكل نهائي، لا سيما بعد وصول الاعتراضات، في سابقة نادرة، إلى قطاعات من المواطنين.

يضاف إلى ما سبق الكثير من العوائق والتحديات الإقليمية بشقيها السياسي والعسكري التي أضرت بـقطاع النفط السعودي منذ أواخر العام الماضي.

لكن المتغير الأخطر هو تبدل الدور الوظيفي للمملكة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، حيث خرجت سياسات الأخيرة في عهد دونالد ترامب تجاه الرياض من حدود اتفاق كوينسي (1945) إلى تفاهمات مؤقته تكلفتها باهظة حتى بالنسبة إلى اقتصاد بحجم الاقتصاد السعودي.

النتائج المباشرة لاضطرابات أسواق الطاقة على اقتصاد السعودية ليست بالأمر الذي يمكن أن تخفيه سرديات دعائية تقليدية عن وفرة غطاء مالي وسيولة نقدية يمكن أن تعوّض خسائر قطاع حيوي هو بمثابة العمود الفقري لاقتصاد المملكة الذي تشكل مبيعات النفط أكثر من 90% من موازنتها السنوية، خاصة وأن انخفاض أسعار النفط إلى معدلات غير مسبوقة يأتي تحت وطأة انكماش اقتصادي عالمي يجعل السلعة الأكثر طلباً عادة تباع بقيمة سالبة للمرة الأولى في التاريخ، كنتيجة لكباش بين اللاعبين الكبار في سوق الطاقة، وعلى رأسهم الرياض، التي دخلت، بجانب موسكو وواشنطن، في مبارزة ثلاثية حول حصة ونفوذ كل منهم  في سوق الطاقة العالمي، وذلك على الرغم من تداعيات وباء كورونا على الاقتصاد العالمي وانكماشه الذي أوشك على الدخول في مرحلة الركود.

النتائج المباشرة لاضطرابات أسواق الطاقة على اقتصاد السعودية ليست بالأمر الذي يمكن أن تخفيه سرديات دعائية تقليدية عن وفرة الغطاء المالي والسيولة نقدية يمكن أن تعوّض خسائر قطاع حيوي

 أولى هذه النتائج تتمثل في تأثر عملية خصخصة جزء من أسهم شركة أرامكو السعودية، والتي كان من المفترض أن تكون حصيلة بيعها المكون المالي الرئيسي للصندوق السيادي السعودي، الذي بدوره يعد الممول الرئيسي لـ”رؤية 2030″، التي يتبناها ولي العهد السعودي، وتشكل الحامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لطموحه الملكي، ولانتقال بلاده من أنماط الإنتاج الريعية المعتمدة بشكل أساسي على النفط إلى نمط انتاج أكثر تطوراً، أهم تجلياتها مشروع مدينة “نيوم”، التي تُعد درة تاج هذه الرؤية الطموحة بميزانية تربو عن 500 مليار دولار أميركي، وأيضاً لكونها من منظور إقليمي تمثل تفعيلاً وتطويراً لتحالفات إقليمية مستجدة في السنوات الأخيرة وتجذيرها في المستقبل.

في هذا السياق، يرى مدير برنامج الخليج وسياسات الطاقة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، سايمون هندرسون، أن الطموح الكبير والخيال اللامحدود في تصور شكل المدينة المستقبلية والتي تشبه مخيلة أفلام الخيال العلمي، واستدعاء خبرات واستشارات من مختلف أنحاء العالم والاستعانة بمؤسسات علمية مثل وكالة “ناسا” لتنفيذه في الواقع، قد اصطدم بمتغيرين رئيسيين: معارضة داخلية نادرة، وانخفاض أسعار النفط التي ستجعل بن سلمان -حسب رأي هندرسون- يعيد النظر في خططه المستقبلية التي ربما ستشهد تعديلاً أو تأجيلاً، خاصة مع ضخامة الميزانية المرصودة لها.

بوادر ذلك ظهرت في الإجراءات الاقتصادية التي شرعت الرياض في تنفيذها في الأيام الأخيرة، سواء في فرض حزم جديدة من الضرائب التي بلغت ثلاثة أضعاف – 15% بدلاً من5%- في الضريبة على القيمة المضافة، والتي تم فرضها منذ سنوات قليلة للمرة الأولى في البلاد، ورفع الدعم والمساعدات الدورية، وتخفيض الانفاق في مختلف قطاعات تنفيذ “رؤية 2030” بنحو 27 مليار دولار أميركي، بجانب إجراءات إخرى كرفع الدعم والتقشف، التي تعد برمتها أمراً مستجداً على المواطن السعودي، فضلاً عن تسجيل الموازنة العامة عجزاً للسنة الرابعة على التوالي، و بما يتجاوز 10 مليارات دولار هذا العام.

ارتدادات عواقب هذه الأزمات المركبة على الاجتماع السعودي تشي بتغيرات كبرى لا تتوقف عند تضرر القوة الشرائية للمواطنين، ولا حتى نمط الحياة القائم على العمالة الأجنبية الكثيفة، ودخول المواطن السعودي للمرة الأولى  في دوامة إجراءات تقشفية لم يعهدها حتى سنوات قريبة مضت، ولا تعوض أثرها برامج الترفيه والتحديث التي تعد بشكل عملي الإنجاز الأهم حتى كتابة هذه السطور في ما يخص تنفيذ “رؤية 2030”.

إقرأ على موقع 180  رئاسة الحكومة اللبنانية.. الحالمون كُثُر والفرص صفرية!

ومن المرجح أن يؤدي تغير شكل العقد الاجتماعي من مرحلة تقاسم وتوزيع حصيلة بيع النفط إلى اقتصاد نيوليبرالي تتحول فيه العلاقات الريعية إلى علاقات زبائنية يتحمل فيها المواطن التبعات الاقتصادية للوباء وتداعيات اضطرابات سوق النفط من دون موازنتها بتوسيع هوامش التشاركية في اتخاذ القرار، إلى المس بالعقد الاجتماعي القبلي التي تأسست عليه وبمقتضاه السعودية في ثلاثينيات القرن الماضي.

وفي ما يخص “نيوم” على سبيل المثال، فإن اعتراضات قبيلة الحويطات ومقتل أحد افرادها بعد رفضه التهجير القسري – وهي واقعة تعد سابقة خطيرة – قد تصبح نمطاً اعتيادياً في العلاقة بين السلطة الحاكمة والقبائل في المستقبل القريب.

اعتراضات قبيلة الحويطات سابقة خطيرة قد تصبح نمطاً اعتيادياً في العلاقة بين السلطة الحاكمة والقبائل السعودية

وبخلاف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ثمة متغير سياسي خارجي سيكون له الأثر الأبرز على طموحات ولي العهد السعودي، ويتمحور بشكل رئيسي في تغير جوهر العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والرياض، والتي كان النفط، وحتى سنوات قليلة خلت، يشكل محورها الأساسي.

وثمة اخفاق واضح في إيجاد بديل عن هذه العلاقات الاستراتيجية، وهذا الأمر مرتبط بوجود إدارة أميركية مثل إدارة دونالد ترامب، فالأخير بات يشكل عبئاً على محمد بن سلمان، نظراً لسياساته تجاه السعودية، التي لا يمكن وصفها إلا بالاستنزافية، والتي تزداد وطأتها باضطراد إلى درجة بات فيها فوز الرئيس الأميركي بولاية ثانية مساوياً لخسارته في الانتخابات المقبلة بالنسبة إلى الرياض.

ومع تغوّل الإدارة الأميركية الحالية في استنزاف أموال السعودية، وانتقالها إلى محاولات الهيمنة على قدراتها الاقتصادية الاستراتيجية، وعلى رأسها شركة “أرامكو”، وصولاً إلى منافسة المملكة في سوق الطاقة، كمنتج ومصدّر خاصة بعد انتعاش صناعة النفط الصخري الأميركي، فإن التفاهم الاستراتيجي بين البلدين بات في حكم الماضي، وذلك من دون إيجاد ارضية لتفاهم جديد حتى وإن كان قائماً على أنماط شراكتية قصيرة المدى لا يمكن للرياض تحمل تكاليفها الأمنية والاقتصادية، ناهيك عن عدم استفادتها سياسياً. فمع ضغط واشنطن بسحب قواتها على خلفية تخفيض أسعار النفط، وتلويحها بورقة رفع الحماية العسكرية وسحب قواتها من السعودية طيلة السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي التي نُشرت أواخر العام الماضي بعد الهجوم الصاروخي الذي طال منشآت أرامكو النفطية، تدخل الرياض مرحلة انكماش سياسي لطموحات ولي العهد التي اعتمدت في الأساس على حالة من الوئام والتحالف مع ساكن البيت الأبيض، الذي لم يعد مستعداً، لاعتبارات انتخابية، توفير الحد الأدنى من الحماية والمساعدة لـ”حلفائه”.

في المحصلة، يبقى الضامن الوحيد لتنفيذ “رؤية 2030” شخص وطموح ولي العهد السعودي، ولكن المتغيرات الكبيرة التي تعرقل من سلاسة تنفيذها لا تربأ بطموحه الشخصي، خاصة وإن كانت متمثلة في أزمة عالمية مثل وباء كورونا وتبعاته الاقتصادية التي تتضاعف في حالة السعودية بسبب النفط، وتزيد من آثارها حالة التحفز والترقب التي تسود المشهد الدولي، وفي توقيت حساس ليست الانتخابات الأميركية ومناخ الاستقطاب الحاد الذي يسبقها وربطها بسياسات وشراكات ترامب الخارجية ببعيدة عنها، وتجعل سياسة اللعب على الحافة والتقلبات السياسية هي النمط السائد.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "ميدل إيست آي": إيران على "عتبة النووي".. كيف تتصرف أميركا؟