“(…) ما فتئت إسرائيل منذ زمن تقول للديبلوماسيين العرب إنها لم تعد ترى إيران تهديدًا عسكريًّا. لقد أخبر رئيس “الموساد” يوسي كوهين، المسؤولين العرب بأن إيران باتت «قابلة للاحتواء». أوشك دونالد ترامب على الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران ثم كان أول من يرمش، حينما أطلقت إيران زخة من الصواريخ على القوات الأمريكية في العراق؛ انتقامًا لمقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، في هجوم بطائرة مسيرة في بغداد في شهر كانون الثاني/يناير 2020.
بدورها، تختبر الطائرات الحربية الإسرائيلية هذه النظرية في سوريا ولبنان؛ فهي تضرب أهدافًا إيرانية وقوات مسنودة إيرانيًّا مطمئنة إلى أنها ستفلت من العقاب؛ إذ لا يصدر رد على هجماتها لا من طهران ولا من حزب الله، ما عدا النذر اليسير. أما ترامب، فكان رده هو تفكيك القوة الضاربة التي أقامها في الخليج. فإذا لم تكن إيران هي الهدف من هذا التحالف الناشئ (بين الإمارات وإسرائيل)، فمن يكون؟
التدخل التركي
جاءت الإجابة من خلال سلسلة من التصريحات المنسقة بعناية فائقة، والصادرة عن وزراء خارجية عرب التقوا في جامعة الدول العربية (بالقاهرة). تبين أن العدو الحقيقي هو أحد أعضاء الناتو، والذي ظل لعقود كثيرة مؤتمنًا على القنابل النووية الأمريكية المحمولة جوًّا.
وكما لو كانوا يُشغلون بمفتاح كهربائي واحد، تداعى كل من هو على خط الساحل الممتد شرق المتوسط، من لبنان إلى مصر، إلى حمل السلاح والاستنفار ضد الجار الشمالي، الذي يزعمون أنه يبغي إحياء الحكم العثماني في المنطقة. قاد الهجوم وزير خارجية الإمارات أنور قرقاش، الذي تحدث أمام الجامعة العربية قائلًا «إن التدخل التركي في الشؤون الداخلية للبلدان العربية مثال واضح على التدخل السلبي في المنطقة”.
إنه تصريح عجيب إذ يصدر عن وزير أطاحت بلاده رئيسًا مصريًّا، وما لبثت طائراتها تقصف العاصمة الليبية طرابلس سعيًا منها لإسقاط حكومة أخرى معترف بها دوليًّا. اتهم قرقاش تركيا بتهديد أمن وسلامة المرور البحري في مياه المتوسط، من خلال انتهاكها السافر للقوانين والمواثيق الدولية المعنية ولسيادة الدول.
وقال وزير خارجية مصر سامح شكري إن التدخلات التركية في كثير من البلدان العربية تمثل أهم تهديد للأمن القومي العربي، ومصر «لن تقف مكتوفة الأيدي بوجه الأطماع التركية التي تتجلى بشكل خاص في شمال العراق وسوريا وليبيا”.
ترأس الاجتماع العربي الوفد الفلسطيني الذي جاء متسلحًا بمسودة بيان غاضب يندد بالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي بصفته خيانة. إلا أن بيانهم أسقطه مجلس الجامعة، الذي قرر تشكيل لجنة فرعية دائمة “لرصد العدوان التركي”.
لم يغب عن أنقرة مهرجان البيانات (العربية) ضد تركيا. عزاه مصدر حكومي تركي رفيع المستوى إلى ما أسماه “التحالف الصهيوني المسيحي التبشيري في الولايات المتحدة”، وقال المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه: «لم تزل الإمارات العربية المتحدة تتصدر مهمة عزل تركيا في المستويات التشغيلية”.
وأضاف: «الإماراتيون هم من يمولون ذلك المسعى، وإن كان من يقف فعليًّا وراء هذه الاستراتيجية هو إسرائيل وبعض السياسيين الأمريكيين المقربين من اللوبي المؤيد لإسرائيل. فهؤلاء كانوا باستمرار جزءًا من أي جهد يستهدف إقامة تحالف مناهض لتركيا. وهم الذين ما فتئوا يدعمون الإمارات لمصلحة التحالف الصهيوـ مسيحي، وخاصة ما قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر والتي يمكنها أن تجلب دعمًا انتخابيًّا لهم”.
وثمة مفارقة أن لجنة فرعية أخرى مناهضة للتطبيع وتابعة للجامعة العربية ما زالت قائمة ومكلفة بالحفاظ على التمسك بمبدأ الأرض مقابل السلام الذي أسست له مبادرة السلام العربية التي أوجدتها السعودية في العام 2002، إلا أنه جرى تجاهل هذه اللجنة الفرعية؛ لأن إسرائيل لم تعد هي العدو بالنسبة لجامعة الدول العربية، وإنما تركيا.
نشرت صحيفة «ذي جوردان تايمز»، وهي الصحيفة المعبرة عن صوت المملكة الأردنية، مقالًا جاء فيه: «تنشط القوات التركية والمليشيات التي تدعمها أنقرة في ثلاثة بلدان عربية: ليبيا وسوريا والعراق. هذه حقيقة جيوسياسية، ينبغي للعالم العربي، وكذلك المجتمع الدولي، الاعتراف بها والرد عليها. في واقع الأمر، يجري الإعلان عن الطموحات التركية المكانية والسياسية والاقتصادية في هذه البلدان من قبل كبار القادة الأتراك، بما في ذلك الرئيس رجب طيب أردوغان. يوجد لدى تركيا الآن قواعد عسكرية في كل من قطر، ليبيا، الصومال، شمال قبرص، سوريا، العراق، وليست جميعها بموافقة الحكومات الشرعية”.
أين ماكرون؟
يشارك فاعلون أجانب آخرون في هذه الحملة التي تهدف إلى تصنيف تركيا على أنها «المجرم الجديد» الخارج على القانون في منطقة شرق المتوسط.
وقف ماكرون أمام قمة انعقدت في كورسيكا للقول: «لم تعد تركيا شريكًا في هذه المنطقة»، مشيرًا إلى أنه يتوجب على الأوروبيين أن يكونوا «واضحين وحازمين» بشأن «السلوك غير المقبول» لحكومة أردوغان. وأضاف: “يتوجب على الأوروبيين أن يرسموا الخطوط الحمر مع تركيا”
على الرغم من الدور الفرنسي السافر في دعم جنرال الحرب من مخلفات عهد معمر القذافي، خليفة حفتر، في مسعاه – بما يرتكب خلاله من جرائم حرب – للاستيلاء على العاصمة الليبية، وهو أمر موثق توثيقًا جيدًا لا يقل عن توثيق استخدام الطائرات الإماراتية والقناصة الروس، إلا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استغل جولاته الأخيرة في بيروت ليبسط أجنحة فرنسا المتكلفة بلاغيًّا أكثر فأكثر.
في زيارته الأولى إلى العاصمة اللبنانية المنكوبة قال ماكرون: «إذا لم تؤدِ فرنسا دورها فإن الإيرانيين والأتراك والسعوديين سيتدخلون في شؤون لبنان المحلية، إذ إن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لهذه القوى ستكون في الأغلب ضارة بالمصالح اللبنانية”.
بعد ذلك طار ماكرون إلى بغداد حيث أطلق ما سمّاها «مبادرة السيادة»، وتضمنت إشارات واضحة إلى تركيا، كما نُقل عن مسؤول عراقي. وكانت أنقرة في شهر حزيران/يونيو قد شنت هجومًا جويًّا وبريًّا عبر الحدود ضد المتمردين الكرد في شمال العراق، ما أثار سخط بغداد التي وصفت ذلك بأنه انتهاك للأراضي العراقية.
في تلك الأثناء، شاركت السفن الحربية الفرنسية في مناورات مشتركة مع أخرى يونانية في خضم نزاع حول التنقيب عن النفط قريبًا من قبرص، الأمر الذي عدته تركيا انتهاكًا لحدودها البحرية.
وقف ماكرون أمام قمة انعقدت في كورسيكا للقول: «لم تعد تركيا شريكًا في هذه المنطقة»، مشيرًا إلى أنه يتوجب على الأوروبيين أن يكونوا «واضحين وحازمين» بشأن «السلوك غير المقبول» لحكومة أردوغان. وأضاف: “يتوجب على الأوروبيين أن يرسموا الخطوط الحمر مع تركيا”.
أين أردوغان؟
يصر ماكرون على أن مشكلته ليست مع الأتراك وإنما مع رجب طيب أردوغان. جرى تجريب هذا الأسلوب من قبل وفشل. تكمن المشكلة الحقيقية في أنه حينما يواجه (أردوغان) القوات المدعومة إماراتيًّا في ليبيا، أو عندما يتمسك بالحقوق الفلسطينية في القدس، أو عندما يأمر بقصف مواقع حزب العمال الكردستاني في العراق، أو عندما يستهدف قوات الرئيس بشار الأسد في سوريا، فإن أردوغان يتمتع بدعم كامل من الجيش التركي ومن جميع الأحزاب السياسية الرئيسية في تركيا.
مع ذلك، لم يكن هذا الدعم منتظمًا ولا ثابتًا، بل هناك من عبَّر محليًّا عن تشكيكه في الحكمة من قرار الدفع بالقوات التركية إلى داخل ليبيا وسوريا، إلا أن هذه الاعتراضات ما لبثت أن تراجعت بعد أن أثبت الجيش التركي وطائراته المسيرة جدارتهم.
أيًّا كانت الانتقادات التي يوجهها كثير من معارضي أردوغان حول مدى شرعية عمليات التطهير المستمرة في صفوف موظفي الدولة وداخل الجيش، والاعتقال الروتيني للصحافيين، وإغلاق الصحف والجامعات، والطريقة التي أخضعت من خلالها الرئاسة البرلمان، فإنهم في ما يتعلق بالسياسة الخارجية يقفون خلف أردوغان زعيمًا وطنيًّا، وخاصة في ما يتعلق بسياسته في شرق المتوسط.
خذْ على سبيل المثال ذلك الرجل الذي تفوق جهود حزبه لتقويض قاعدة أردوغان الإسلامية المحافظة كل ما يقوم به السياسيون الأتراك الآخرون. إنه أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء السابق وصاحب الخبرة الواسعة في المفاوضات الدولية.
قال أحمد داود أوغلو مؤخرًا: «يجب على ماكرون التزام حدوده والتوقف عن إهانة تركيا ورئيسها». وأضاف: «أندد بقوة بتصريحات ماكرون المتعجرفة التي تكشف عن عقليته الاستعمارية وتتجاهل ديومقراطية تركيا والإرادة الحرة لشعبها”.
يواجه ماكرون عدة مشكلات، بينما يطلق حملته الجديدة. أولها، يتمثل في عدم قدرته، مهما بذل من جهود، على التخلص من تاريخ الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ولبنان. ثانيتها، ترتطم محاولته مساواة أردوغان بما أطلق عليه «الفاشية الإسلامية» بجدار من تلاحم الدولة العميقة العلمانية في تركيا مع مشروع الرئيس أردوغان. يذكر في هذا السياق أن الحكومة التي أمرت بغزو شمال قبرص في عام 1974 إنما فعلت ذلك بإملاء من الجيش التركي بعد الانقلاب اليوناني.
مواجهة تركيا
لماذا تجري مواجهة تركيا في هذا الوقت بالذات؟
على الرغم من جميع التحفظات المحلية على دوره رئيسًا، أقام أردوغان بلدًا مستقلًّا تتوفر لدى قواته المسلحة القدرة على مواجهة القوات الروسية في كل من سوريا وليبيا، دون أن يفقد ذلك البلد مقعده حول طاولة المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ضمن تقييمه الاستخباراتي لعام 2020، عمد قسم الاستخبارات العسكرية في إسرائيل (أمان) إلى ضم تركيا إلى قائمة المنظمات والبلدان التي تهدد أمن إسرائيل القومي. إلا أن التقييم استبعد اندلاع مواجهة عسكرية بين البلدين.
يعادل اقتصاد تركيا حجم اقتصاد السعودية، إلا أن جيشها يتمتع بالاكتفاء الذاتي. كما بدأت تركيا في تصنيع طائرات مسيرة ذات تقنيات عالية عندما رفضت إسرائيل والولايات المتحدة تزويدها بها. لربما نسي الناس الأمر اليوم، ولكن الطائرات الإسرائيلية كانت ذات يوم تتدرب باستخدام المدرجات الجوية التركية نظرًا إلى ضآلة المجال الجوي الإسرائيلي، وذلك بحسب مصادر تركية مطلعة.
عندما تكتشف تركيا الغاز في البحر الأسود، فإن الشركات التركية لديها من التقنيات ما يمكنها من تطوير الحقول وتزويد السوق المحلية باحتياجاتها، وليس حالها مثل حال مصر التي يجعلها اعتمادها على الشركات البريطانية والإيطالية والأمريكية لا تجني سوى القدر الضئيل من عائدات حقول الغاز التابعة لها.
وعندما يواجهون بجنود مدججين بالسلاح، كما حدث في عام 2016 أثناء المحاولة الانقلابية (والتي مولتها الإمارات)، يقاتلهم الأتراك وهم يشعرون بالعزة والكبرياء. كل هذا ينبغي أن يدفع السياسيين الغربيين نحو التوقف قليلًا للتدبر قبل أن يخلقوا عدوًّا آخر ويشعلوا صراعاً جديداً في المنطقة. لم يعد ثمة شك من أين تنبعث هذه الأجندة: إنها تأتي من إسرائيل ودول الخليج، والتي لا عمل لديها في قبرص ولا مصالح.
أين إسرائيل؟
لا تتساهل إسرائيل مع من يسعى لتقويض غايتها المركزية، ألا وهي ترسيخ حدودها حول المناطق التي تحتلها بشكل غير مشروع. ضمن تقييمه الاستخباراتي لعام 2020، عمد قسم الاستخبارات العسكرية في إسرائيل (أمان) إلى ضم تركيا إلى قائمة المنظمات والبلدان التي تهدد أمن إسرائيل القومي. إلا أن التقييم استبعد اندلاع مواجهة عسكرية بين البلدين.
أما الأنظمة الشمولية والإجرامية في الإمارات والسعودية فلا توجد لديهما مثل هذه الهواجس. كل ما يخشونه هو تأثير تركيا في شعوبهم بوصفها زعيمة للسنة في العالم. فالحرب تدور حول من يتزعم السنة في العالم العربي. لقد تهاوى ادعاء السعودية بحقها في تلك الزعامة، وسيكون وضعها أشد سوءًا من هذه الناحية بعد أن تطبع علاقاتها أخيرًا مع إسرائيل.
لا تملك فرنسا لا الشجاعة ولا الجلد على إشعال صراع جديد في منطقة الشرق الأوسط. ففي الداخل الفرنسي، بات ما يشبه «الطفل العبقري» في السياسة الفرنسية أقل رؤساء فرنسا شعبية على الإطلاق.
تشهد فرنسا، مثلها مثل غيرها من البلدان الغربية، انقسامًا داخليًّا. لقد ابتليت بجائحة كوفيد-19 وصعود اليمين العنيد فيها بقدر ما ابتليت بريطانيا بالانقسام حول بريكسيت.
بإمكان ماكرون أن يتعلم درسًا من مجمل التجارب التي خاضها كل من طوني بلير، وجورج دبليو بوش، ودافيد كاميرون، ونيكولا ساركوزي، وينأى بنفسه عن المغامرات الخارجية. ولكن إذا أصر على المضي فيها، ستكون نهايته وخيمة”. (ترجمة سارة سنو، بتصرف نقلاً عن ميدل إيست أي).