لا شيء حتى الآن، سوى الأمل المعقود على سرعة تأليف حكومة تطلق عجلة الإصلاحات اللازمة لعودة الاستقرار النسبي إلى جملة مؤشرات منها سعر العملة الوطنية.
هل الأمل يكفي وحده لتعزيز الليرة وبالتالي قدرتها الشرائية؟ الجواب “نعم”، إذا كان الأمل حقيقياً وتجلى ثقةً في سرعة تأليف الحكومة والإتفاق سريعاً على كل بنود الاصلاح وبدء تنفيذها على الفور، فعامل الوقت مهم جداً لإقتصاد متدحرج في منحنى هابط. خلاف ذلك، فان الجواب “لا”، بعدما استنزف السياسيون كل الوقت في المماحكات ولم يعد في القوس منزع بإنتظار لحظة الإنهيار الوشيك والشامل.
مناسبة هذه الأسئلة وأجوبتها المتناقضة، هو التحسن الذي طرأ على سعر الصرف في السوق السوداء خلال الأسابيع القليلة الماضية، في عمليات إختلط فيها عشوائياً الأمل بالمدى المتوسط والطويل بالمضاربة الآنية قصيرة الأجل.
بالعودة الى الأساسيات، فان عاملين حالياً يمكن لهما أن يلجما سعر الدولار. الأول هيكلي، وهو هبوط الإستيراد بنسبة بلغت 50 في المائة. وهذا خبر جيد يعني أننا بتنا بحاجة إلى دولارات أقل من السابق لتلبية الأسواق التجارية بالسلع والخدمات، وبالتالي، تراجع الطلب على العملة الخضراء. والثاني عرضي، تمثل في محاولة مصرف لبنان تقييد السيولة بالليرة بعدما انفجر النقد في التداول على نحو هستيري، فزاد من نحو 10500 مليار في بداية العام إلى نحو 24 الف مليار على الأقل في هذه الأيام.
إلى هذين العاملين يضاف عامل شخصي خفي خاص بقدرة حاكم مصرف لبنان على المناورة قليلاً ليستطيع سعد الحريري تشكيل “حكومة انقاذية”، كما يراها الإثنان، تعمل على الطريقة النيوليبرالية، ولا مكان فيها للاقتصاد الموجه، ولا وزن أيضاً للدولة المركزية في النشاط الاقتصادي.
بيد أن دون ما سبق عقبات جمة يتعين ذكرها ليبنى على الشيئ مقتضاه:
بداية، ما من مؤشرات نهائية على التوافق على كل بنود الإصلاح. وما التباينات حول ما يمكن للبنان قبوله من شروط صندوق النقد إلا رأس جبل جليد التباينات الأخرى المتعلقة بالخصخصة وبيع المرافق والعقارات العامة (بعنوان الصندوق السيادي) ودعم المحروقات والدواء وبعض السلع الغذائية وفي مقدمها الطحين، وكيفية توزيع أعباء خسارة 80 مليار دولار وإعادة هيكلة المصارف.. فأي خلاف حاد، على أي جبهة من هذه الجبهات، يظهر بقوة إلى العلن، سيؤثر في سوق الصرف على وقع كل من يريد التشاؤم مقابل المتفائل اليتيم.
الاستثمار الاجنبي، سينتظر سنوات من الاستقرار ليقرر المجيء تدريجياً. وكذلك الأمر بالنسبة للسائح الذي سينتظر انتهاء جائحة كورونا والتيقن من أن الاستقرار عاد الى لبنان ويزيل من شكوكه امكان اندلاع حرب بين اسرائيل وحزب الله، من دون إغفال تداعيات ونتائج التطبيع المتدحرج بين إسرائيل وبعض العرب
في الأثناء، فإن الدفاع عن سعر صرف معين، يحمي أصحاب الأجور من التضخم الاضافي، إنما يحتاج الى احتياطي نقدي أجنبي لدى مصرف لبنان يمكن استخدامه في الأسواق عند الضرورة للدفاع عن الليرة. وهذا ما بات شبه مستحيل بعدما وصلت الاحتياطات الى الخطوط الحمراء كما يؤكد البنك المركزي نفسه.
أما إذا تشكلت الحكومة بسرعة، وشرعت في تنفيذ الاصلاحات في غضون ستة أشهر من دون عراقيل تذكر، فان صندوق النقد يمكن ان يضخ دفعات من قرض انقاذي يذهب بجزء منه الى احتياطي النقد الاجنبي، فيتعزز ميزان المدفوعات قليلاً ما قد يسمح بدفاع ما عن الليرة. لكن السؤال الصعب هو أي سعر سيُثبّت هذه المرة؟ 1500 أو 3900 او 6500 أو أكثر؟ والتثبيت يعني نظرياً وعملياً نقطة يلتقي عندها العرض مع الطلب بمنأى عن أي مضاربة عنيفة لأسباب غير سوية او غير مبنية على أسس اقتصادية ومالية مقنعة (طبعاً أحد أبرز مطالب صندوق النقد هو تحرير سعر صرف الليرة فوراً).
فالعرض سيأتي من القروض (صندوق النقد وسيدر وغيرهما) بالاضافة الى تحويلات اللبنانيين من الخارج، ولاحقاً من الاستثمار الاجنبي والسياحة. لكنه عرض سيتضح انه شحيح في السنوات القليلة المقبلة لأن صندوق النقد ليس “كرماً على درب” ، إذ سيصرف دفعات على فترات متباعدة، وهو يراقب تنفيذ الشروط بحذافيرها. وتحويلات اللبنانيين لم تعد كما السابق بالنظر الى عوامل خارجية مثل هبوط أسعار النفط وأثر كوفيد ـ 19 (كورونا) على الاقتصاد العالمي. اما الاستثمار الاجنبي، فلن يأتي بين ليلة وضحاها، وسينتظر سنوات من الاستقرار ليقرر المجيء تدريجياً. وكذلك الأمر بالنسبة للسائح الذي سينتظر انتهاء جائحة كورونا والتيقن من أن الاستقرار عاد الى لبنان ويزيل من شكوكه امكان اندلاع حرب بين اسرائيل وحزب الله، من دون إغفال تداعيات ونتائج التطبيع المتدحرج بين إسرائيل وبعض العرب، على لبنان وغيره من دول المنطقة.
الا ان الأهم من كل ما سبق هو أي اقتصاد نريد بعد الآن؟ هل سنمعن في نموذج استهلاكي يحتاج لاستيراد، أم سنطور صناعات وزراعات وخدمات تلبي المزيد من حاجات المقيمين ونصدّر منها الى الخارج لجلب دولارات الى الداخل تعزز سعر صرف العملة الوطنية؟
لقد أوصل النموذج السابق لبنان الى انهيار بكلفة باهظة تبخرت معها معظم مدخرات اللبنانيين، ولذلك، سيؤدي تكرار التجربة الى النتيجة نفسها في المستقبل.
سعر الصرف، سيعود كما في السابق الى التأثر بعامل سعر الفائدة بعد لجم التضخم. لكن ليس على الطريقة السابقة لمصرف لبنان عندما كان يرفع الفوائد الى 15 و20 في المائة في لعبة شراء الوقت المدمرة التي أودت الى ما أودت اليه، بل على أسس اكثر صلابة لبناء اقتصاد منتج
النقيض هو سياسة اقتصادية جديدة كلياً تشجع انتاجاً محلياً تتطلب مؤسساته ومصانعه ومزارعه دعماً يخفض كلفته ويزيد تنافسيته، ويشمل ذلك عناصر كلفة الطاقة والعقار واليد العاملة وتسهيلات التمويل والتصدير، وغيرها من الدعومات المكلفة في بداية الطريق والمؤدية في نهاية المطاف الى التنافسية الشاملة الداعمة بقوة لسعر صرف العملة الوطنية.
في إنتظار ذلك الحين، ماذا عن القدرة الشرائية المطلوبة حالياً لمتقاضي رواتبهم بالليرة المتآكلة، فالمفقود منها كبير جداً بعدما زاد التضخم على 120 في المائة، والحفاظ على ما تبقى يتطلب الاستمرار في تقديم الدعم بالشكل الحالي او بشكل نقدي مباشر يوضع بين أيدي الأكثر فقراً كما ينصح صندوق النقد. اما ترشيد الدعم او الغاءه فسيؤديان الى تقهقر اضافي لليرة وصولاً الى قاع ملتهب بالمفاجآت المطلبية التي ستنفجر احتجاجات عنيفة في الشارع لا محالة.
بالعودة الى سعر الصرف، فانه سيعود كما في السابق الى التأثر بعامل سعر الفائدة بعد لجم التضخم. لكن ليس على الطريقة السابقة لمصرف لبنان عندما كان يرفع الفوائد الى 15 و20 في المائة في لعبة شراء الوقت المدمرة التي أودت الى ما أودت اليه، بل على أسس اكثر صلابة لبناء اقتصاد منتج يخلق ثرواته في الداخل ولا ينتظر قدومها من الخارج، وفي ظل نظام مصرفي يمول الاقتصاد الحقيقي لا المرابين والمضاربين، وهذا يعني تغيير النموذج المصرفي القائم أو بالأحرى دفنه الى غير رجعة. وهنا معضلة عويصة الحل ايضاً لأن اصحاب البنوك، وبدعم من سياسيين، يمانعون ويقاومون ولا يعترفون بالمشكلة وأصلها، وجل ما يريدونه وضع اليد على ايرادات املاك الدولة لاستيفاء الديون واعادة هيكلة الودائع. وبين النقيضين المتصارعين، ستبقى الليرة متأرجحة بتقلبات حادة لا يمكن لأحد التنبؤ بمستوياتها الآن، لأن البعض سيستخدمها وقوداً لمعركته، كما حصل غير مرة في السابق. زدْ على ذلك أثر تأثر سعر الصرف بخطوة مصرف لبنان المتمثلة بتقييد السحوبات بالليرة اللبنانية، والتي سيصار إلى تشريعها بتعاميم بدءاً من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، حسب العديد من المصرفيين.
اذاً، سعر الصرف ليس مسألة محسومة بعد، والتقلبات المقبلة قد تكون اشد من التي شهدناها في سنة اذا لم تتم تلبية شروط معقدة مختلف عليها في العمق بين “من معهم ومن ليس معهم”. بين اصحاب الرساميل طالبي الاستثمار السهل المربح يدعمهم النيوليبراليون وبين اصحاب المداخيل الضعيفة او المعدومة القيمة طالبي الدعم لكفاف يومهم.. يدعمهم ـ للأسف ـ “ثوار” غب الطلب.
على صعيد آخر، لا ننسى ان سعر صرف عملة بلد ما مرتبط ايضا بمستوى الدين العام فيها. فكلما ارتفع ذلك الدين زادت هشاشة المؤشرات والعملة ايضاً، ويفقد المستثمرون والمتعاملون الثقة تدريجيا بقدرة البلد على الاستدامة المالية. في هذا المضمار، امام لبنان مشوار طويل وشاق من المفاوضات مع الدائنين لتخفيض نسبة الدين الى الناتج دون 100 في المائة، مع الالتزام بسداد ما تبقى من قروض سابقة تضاف اليها قروض جديدة من صندوق النقد ومتعهدي تمويل سيدر، اي باجمالي يزيد على حوالي 15 مليار دولار اضافي من الديون.
من الاقتراض بدأنا.. والى الاقتراض نعود!