نهاية حرب قره باخ بدت وشيكة منذ اللحظة التي أعلن فيها الأذريون انتزاع السيطرة على شوشا. المدينة غالباً ما شكلت نقطة فاصلة في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان. في التسعينيات أذّنت السيطرة عليها من قبل القوات الأرمنية لانتصار الأرمن، واليوم تأتي السيطرة عليها من قبل الأذريين لتؤذن لانتصار آخر، لذلك لم يكن عبثاً أن اختارها رئيس جمهورية أرتساخ (ناغورنو قره باخ) مكاناً لحفل تنصيبه قبل أشهر، ولم يكن عبثاً كذلك أن ضبط الرئيس الأذري الهام علييف توقيت اقتحامها في عيد العلم.
من الناحية الاستراتيجية، تكمن أهمية شوشا في أن من يسيطر عليها يجعل ستيبانكيرت، عاصمة الاقليم المتنازع عليه، ساقطة عسكرياً، علاوة على أنه سيكون قادراً على التحكم بالنار بطرق الامداد بين أرتساخ وأرمينيا.
بذلك، فرضت تطورات الميدان نفسها على الحركة السياسية، التي تكثفت خلال الساعات الماضية، لاخراج الاتفاق على وقف الحرب. سبق الاتفاق اتصال هاتفي بين فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان، اقترح خلاله الأخير تشكيل مجموعة عمل مشتركة بين روسيا وتركيا حول قره باخ، ليكون بذلك إطاراً رديفاً، أو حتى بديلاً، عن مجموعة مينسك، التي تولت عملية التفاوض بين الأرمن والأذريين طوال العقود الثلاثة الماضية.
كذلك، سبقت الاتفاق حركة غير اعتيادية للطائرات الروسية، فُسرت إعلامياً على أنها محاولة من جانب موسكو لنقل معدات عسكرية وأنظمة دفاع جوي لدعم ارمينيا، ليتضح، وفق بنود الاتفاق المعلن، أنها مخصصة لنقل مئات الجنود الروس الذين سيتولون مهمة حفظ السلام لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد عند خطوط وقف اطلاق النار الجديدة.
نص الاتفاق
الاتفاق الذي تم الاعلان عنه في منتصف ليل الإثنين الثلاثاء الماضي، حمل توقيع كل من رئيس جمهورية أذربيجان الهام حيدر علييف، رئيس وزراء جمهورية أرمينيا نيكولاي باشينيان، ورئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين، وتضمنت بنوده ما يلي:
1- يتم الإعلان عن وقف كامل لإطلاق النار وجميع الأعمال العدائية في منطقة النزاع في ناغورنو قره باخ اعتباراً من الساعة 00:00 (بتوقيت موسكو) من يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، على أن تقف كل من جمهورية أذربيجان جمهورية أرمينيا، المشار إليهما في ما بعد باسم الطرفين، عند مواقعهما.
2- ستعاد منطقة أغدام والأراضي التي يسيطر عليها الطرف الأرمني في منطقة قازاخ في جمهورية أذربيجان إلى الطرف الأذربيجاني بحلول 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.
3- على طول خط التماس في ناغورنو قره باخ، وعلى طول ممر لاتشين، تنتشر وحدة لحفظ السلام تابعة لروسيا الاتحادية يبلغ قوامها 1961 فرداً عسكرياً مع أسلحة صغيرة و90 ناقلة جند مدرعة و380 سيارة ومعدات خاصة.
4- يجري نشر وحدة حفظ السلام التابعة لروسيا الاتحادية بالتوازي مع انسحاب القوات المسلحة الأرمينية. مدة بقاء وحدة حفظ السلام التابعة لروسيا الاتحادية هي خمس سنوات مع تمديد تلقائي لفترات من خمس سنوات، إذا لم يطلب أي من الطرفين قبل ستة أشهر انهاء تطبيق هذا البند.
5- لزيادة فعالية الرقابة على تنفيذ الاتفاقات من قبل طرفي النزاع، يجري نشر مركز لحفظ السلام لمراقبة وقف إطلاق النار.
6- ستعيد جمهورية أرمينيا منطقة كيلبجار إلى جمهورية أذربيجان بحلول 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ومنطقة لاتشين بحلول 1 كانون الأول/ديسمبر 2020، مع الاحتفاظ بممر في لاتشين (بعرض 5 كيلومترات)، ما سيكفل اتصال ناغورنو قره باخ بأرمينيا، وبما لا يؤثر على مدينة شوشا.
باتفاق الطرفين، خلال السنوات الثلاث المقبلة، سيتم تحديد خطة لبناء طريق مرور جديد على طول ممر لاتشين، ما يوفر الاتصالات بين ستيباناكيرت وأرمينيا، مع إعادة نشر وحدة حفظ السلام الروسية لاحقاً لحماية هذا الطريق. وتضمن جمهورية أذربيجان السلامة المرورية على طول ممر لاتشين للمواطنين والمركبات والبضائع في كلا الاتجاهين.
7- يعود النازحون داخلياً واللاجئون إلى إقليم ناغورنو قره باخ والمناطق المجاورة الخاضعة لسيطرة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
8- يتم تبادل الأسرى وغيرهم من المعتقلين وجثث القتلى.
9- جميع الروابط الاقتصادية وطرق النقل في المنطقة تبقى غير مقفلة. توفر جمهورية أرمينيا روابط نقل بين المناطق الغربية لجمهورية أذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي من أجل تنظيم حركة المواطنين والمركبات والبضائع من دون عوائق في كلا الاتجاهين. وتمارس هيئات حرس الحدود التابعة لروسيا مراقبة النقل. وبالاتفاق بين الطرفين، سيتم توفير بناء طرق نقل جديدة تربط جمهورية ناخيتشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي مع المناطق الغربية لأذربيجان.
في ميزان الربح والخسارة، يعني الاتفاق أن أذربيجان، وبدعم من تركيا، انتصرت في الحرب بعدما حققت الأهداف المعلنة، باستثناء احتلال قره باخ بالكامل، فبحسب الاتفاق، استعادت باكو الاراضي المحيطة بالاقليم، والتي خسرتها في حرب التسعينيات، كما أن مدينة شوشا- الرمز ستبقى تحت سيطرتها، فضلاً عن حصولها على ممر آمن باتجاه اقليم ناخيتشيفان.
في ميزان الربح والخسارة، يعني الاتفاق أن أذربيجان، وبدعم من تركيا، انتصرت في الحرب بعدما حققت الأهداف المعلنة، باستثناء احتلال قره باخ بالكامل
على هذا الأساس، عكست لهجة كل من رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان ورئيس جمهورية أرتساخ أرايك هاروتيونيان مرارة الهزيمة، التي فجرت سريعاً موجة غضب شعبي في يريفان تبدّت في اقتحام متظاهرين غاضبين مقر الحكومة الأرمنية بعيد الاعلان عن الاتفاق، وقيام آخرين بمهاجمة رئيس البرلمان ارارات ميرزوبيان والاعتداء عليه بالضرب.
نيكول باشينيان صرّح قائلاً “لقد اتخذت قراراً صعباً للغاية بالنسبة لي ولنا جميعاً”، وأقرّ بأن نص الاتفاق “مؤلم بشكل لا يوصف لي شخصياً ولشعبنا”.
وأضاف أن القرار اتخذ “نتيجة تحليل معمق للوضع العسكري وتقييم من قبل الأشخاص الذين يعرفون ذلك بشكل أفضل”، و استناداً إلى الاعتقاد بأن “هذا هو أفضل حل ممكن للوضع الحالي”.
وتابع “هذا ليس انتصاراً، ولكنه ليس هزيمة، طالما أننا لم نعترف بأننا خاسرون. لن نعترف أبداً بأننا خاسرون، وينبغي أن تكون هذه بداية عهد الوحدة الوطنية والنهضة، فنحن بحاجة إلى تحليل سنوات استقلالنا من أجل التخطيط لمستقبلنا وعدم تكرار أخطاء الماضي”. وختم قائلاً “قاتلنا حتى النهاية، وسوف ننتصر، تحيا أرمينيا! تحيا آرتساخ! “.
أما أرايك هاروتيونيان فكان أكثر صراحة حين اشار إلى أن الموافقة على انهاء الحرب جاءت “بالنظر إلى الوضع الرهيب الحالي، ولتجنب مزيد من الخسائر الفادحة، والخسارة الكاملة لأرتساخ”.
في المقابل، أكد الرئيس الأذري الهام علييف أن “ارمينيا استسلمت بتوقيع الاتفاق”، وشدد على أن “باكو مسرورة بوضع نهاية لتسوية نزاع قره باخ”، معتبراً ان “الطرفين توصلا إلى تسوية بشأن قره باخ تلبي مصالح أذربيجان وأرمينيا”، معرباً عن ثقته في أن الاتفاق “التاريخي” سيؤدي إلى “سلام طويل الامد”.
وبرغم تشديد علييف على أن “روسيا ستعلب دوراً خاصاً في تسوية نزاع قره باخ”، وأن دورها سيكون “مهماً” في هذا الإطار، إلا أنه أثار التكهنات بشأن طبيعة الدور التركي حين أشار إلى أن “تركيا وروسيا ستنفذان بشكل مشترك أنشطة حفظ السلام في قره باخ”، من دون أن يكشف ما اذا كان ثمة اتفاق موازٍ يجري اعداده لنشر قوات حفظ سلام تركية جنباً إلى جنب مع قوات حفظ السلام، خصوصاً أن الاتفاق المعلن لا ينص على ذلك، مع الإشارة إلى منصات اعلامية روسية تحدثت عن امكانية توقيع اتفاقية منفصلة بين موسكو وانقرة حول هذه المسألة، بما يشمل انشاء نقاط مراقبة.
أياً تكن الحال، فإنّ روسيا، بموجب الاتفاق، باتت الضامن الأساسي لاستقرار الوضع في ناغورنو قره باخ، خصوصاً بعدما فقد الأرمن خطوطهم الدفاعية الرئيسية، فيما يبقى مؤكداً أن تركيا ستتمكن من فرض حضورها على الجبهة القوقازية، سواء ميدانياً، عبر المشاركة في بعثة حفظ السلام (إن لم يكن في قره باخ فعلى الأرجح في ممر ناخيتشيفان)، او استراتيجياً، بعدما ادارت اللعبة بمهارة، من خلال الاندفاعة التي قامت بها لتعزيز الموقف العسكري لأذربيجان، في الوقت الذي ظلت فيه روسيا منشغلة بتقليل أضرار الحرب.
مع ذلك، قد لا يمثل ما سبق نقطة مفصلية في الحضور التركي في القوقاز، فبين باكو وانقرة شراكة راسخة في الأصل، شعارها بات “شعب واحد – دولتين”، وهو ما جعل رجب طيب اردوغان يجد في الهام علييف حليفاً موثوقاً، وهو ما لم يجده فلاديمير بوتين في نيكول باشينيان، الذي تعمّد، منذ وصوله إلى الحكم، تخريب العلاقات الروسية-الارمنية، آملاً في تدخل اميركي في اللحظة المناسبة. اليوم، يبدو ان باشينيان في طريقه إلى الانتحار السياسي، وحساباته الخاطئة التي قادت إلى الهزيمة هي عنوان اساسي للحملة التي اطلقها ضده معارضوه، والتي من المؤكد أن صداها سيتردد في حناجر الأرمن الغاضبين، الذين باتوا مدركين أن روسيا، لا اميركا، قد باتت ضمانتهم الوحيدة.