استغل الإنجليز بعض أحداث الشغب فى الإسكندرية وطنطا وقاموا بضرب الإسكندرية ثم التقدم رويدا نحو الدلتا وصولا إلى القاهرة! لم يستسلم أحمد عرابى ورفاقه بسهولة، فقد حاولوا صد الاحتلال وخاضوا الكثير من معارك المقاومة لعل أبرزها كانت معركة التل الكبير، لكن فى النهاية كان التفوق الحربى للبريطانيين وبهذا انهزم عرابى ورفاقه وتم القبض عليهم!
***
كان احتلال مصر بمثابة انتصار للخديوى توفيق! فالاحتلال أنهى عمليا الثورة العرابية، ومن ثم زال أكبر تهديد واجه الخديوى منذ أن تولى حكم مصر، فعاد إلى القاهرة فى موكب مهيب وتلقى التهنئة من كبار رجال الدولة ومن بعض العامة والمشايخ الذين لم يكونوا على وفاق مع عرابى.
فى ايلول/ سبتمبر 1882، أمر توفيق بتشكيل لجنة تحقيقات برئاسة إسماعيل باشا أيوب لتقصى كل الوقائع المرتبطة بالثورة العرابية، ثم تشكلت محكمة أخرى شرعية برئاسة رؤوف باشا للحكم فى الدعاوى التى تحال إليها من لجنة التحقيق، وأخيرا أمر بتشكيل لجنة عسكرية بالإسكندرية باعتبارها لجنة استئناف بحيث تكون أحكامها نهائية. كذلك فقد قام الخديوى بإعادة الشيخ العباسى الذى كان قد أُجبر على إقالته بمطالبة من عرابى إلى مشيخة الأزهر والإفتاء على حساب الشيخ الإمبابى، ثم قام الخديوى ثالثا بإصدار مكافأة خاصة للباشوات الذين وقفوا بجانبه أثناء الثورة ولم يتحالفوا مع عرابى، ثم كان القرار الأهم من الخديوى بحل الجيش المصرى وإعادة تشكيله مرة أخرى بعد التخلص من كل القيادات التى ثبت ولاؤها لعرابى!
أكمل الخديوى توفيق قراراته بمنح نياشين لـ 52 ضابطا فى الجيش الإنجليزى، ثم أتبعها بحملة اعتقالات واسعة طالت العامة ممن كانوا فى صفوف عرابى. أما عرابى نفسه فقد تمت محاكمته بشكل هزلى، ووفقا للكاتب محمود صلاح فى كتابه «محاكمة زعيم. أوراق القصة الأصلية لمحاكمة أحمد عرابى» والصادر عن دار نشر مدبولى فى 1996، فإن المحاكمة لم تستغرق سوى 5 دقائق اعترف فيها عرابى ومحاميه الفرنسى بعصيان أوامر الخديوى وحمل السلاح ضده وتم إبلاغ عرابى بالحكم بقتله مع تعطيل الحكم بناء على عفو الخديوى ونفى عرابى ورفاقه من البلاد على أن يتم تثبيت عقوبة القتل حال مخالفة قرار النفى والعودة إلى مصر!
***
لم تكتفِ النظارة بالحكم على عرابى ورفاقه بالنفى ولكن وإمعانا فى الانتقام، أصدرت النظارة قرارات بالاستيلاء على كل أملاكهم مع صرف مرتب شهرى لعرابى ورفاقه بالمنفى! بقى عرابى فى منفاه بجزيرة سيلان (سريلانكا) حتى عام 1901 بعد أن تدخل ولى العهد الإنجليزى لدى الخديوى فعاد عرابى ورفاقه إلى مصر بعد 19 عاما فى المنفى!
لكن ما لبث الخديوى توفيق أن تنفس الصعداء بعد استقرار حكمه ثانية إلا ووجد نفسه أمام ثورة جديدة وهذه المرة فى السودان! وإذا كانت الثورة العرابية بالأساس ثورة سياسية بمطالب وطنية، فإن ثورة السودان كانت ثورة دينية/سياسية تزعمها محمد أحمد المهدى الذى ادعى أنه هو المهدى الذى ينتظره المسلمون فى آخر الزمان، وصدقه كثير من المسلمين فى السودان معتمدين على بعض القصص التراثية التى تشير إلى أن المهدى سيخرج من الأراضى السودانية!
كانت للثورة المهدية العديد من الأسباب، منها الدينى (تمكين المهدى المنتظر)، ومنها السياسى والاجتماعى كسوء معاملة السلطة المصرية لأهل السودان، ومنها الاقتصادى كالشكوى من الضرائب الفادحة وكذلك اعتراض النخاسين على قرار السلطات المصرية بمنع تجارة الرقيق!
كانت ثورة السودان ضد النظام المصرى وضد الإنجليز أيضا، ورغم عدم اعتماد الثورة على أسلحة متقدمة إلا أنهم أجبروا الجيش المصرى على التراجع من عدة نقاط تمركز بها بالسودان وكانت المهمة سهلة خصوصا وأن عدد الجنود فى الجيش المصرى لم يكن سوى 40 ألف جندى موزعين على 15 مديرية دون حصون قوية (جرجى زيدان، مرجع سبق ذكره ص 705).
كانت للثورة المهدية العديد من الأسباب، منها الدينى (تمكين المهدى المنتظر)، ومنها السياسى والاجتماعى كسوء معاملة السلطة المصرية لأهل السودان، ومنها الاقتصادى كالشكوى من الضرائب الفادحة وكذلك اعتراض النخاسين على قرار السلطات المصرية بمنع تجارة الرقيق!
كانت أولى مكاسب ثورة المهدى فى السودان هى سقوط كردوفان وتنظيم المهدى لأول حكومة لتسيير شئون البلاد! وفور تمكنه من كردوفان قام المهدى بفرض عقوبات قاسية على الاختلاط وشرب الخمر والزنا.. إلخ ورغم المحاولات المصرية لاستعادة السيطرة على السودان، إلا أن كل المعارك التى تم خوضها انتهت لصالح المهديين فأمرت الحكومة الإنجليزية فى 1884 بإخلاء السودان، أى بسحب كل الجنود والموظفين المصريين منها وتم إعادة حكم الأمراء الذين كانوا يحكمونها عند دخول محمد على باشا إليها!
بعد إخلاء السودان من المصريين، حاول الإنجليز التفاوض وتطييب خاطر أهل السودان واستمالتهم ضد المهديين، ومن ذلك أنهم أعادوا السماح بتجارة الرقيق مرة أخرى، ولكن فشلت المحاولات التفاوضية الإنجليزية، فالثورة المهدية كانت تكسب أرضا جديدة كل يوم، حتى وصلت إلى الخرطوم وحاصرت قادة الإنجليز هناك حتى سقطت الخرطوم أيضا وسيطر المهديون عليها، وزاد اتباع المهدى فى السودان ممن أصبحوا يصدقونه حتى أنهم آمنوا أن المهدى سيتمكن من السيطرة على باقى الأمصار الإسلامية، لكن مات المهدى بشكل مفاجئ بعد إصابته بالحمى، فتم مبايعة عبدالله التعايشي وتم تسميته بخليفة المهدى!
***
كان التعايشي على ما يبدو أكثر طموحا من المهدى، فبعد انتصاره على الأحباش، قرر فتح مصر وأرسل فى ذلك إلى الخديوى والإنجليز يطالبهم بتسليم مصر إليه! وقام التعايشي بالفعل بإرسال جيشه لاحتلال مصر لكن تمت هزيمته بواسطة القوات المصرية بالقرب من وادى حلفا، ثم عادت القوات المصرية لتهزم حملة سودانية أخرى حاولت اقتحام توشكى فتم أسر 4 آلاف سودانى وقتل 1200 بينما لم يقتل من الجيش المصرى سوى 24 وجرح 140 آخرين!
كانت هذه الهزائم الأخيرة بداية النهاية لثورة المهدى، فأخذت سيطرته تضعف فى جميع مديريات السودان حتى تم إرسال حملة مصرية إنجليزية مشتركة لاستعادة أم درمان ونجحت الحملة بالفعل فى 1898 وفى العام التالى تم قتل التعايشي ورفاقه وعاد السودان مرة أخرى للسيادة المصرية تحت الوصاية الإنجليزية بالطبع!
قبل أن يعود السودان بسنوات، كان الخديوى توفيق يحاول إعادة هيكلة السياسة والاقتصاد فى مصر لتوطيد حكمه الذى اهتز بشدة بسبب الثورة العرابية، فقام بصك عملات جديدة تقوم على حساب الكسور العشرية فتم تحديد قيمة الجنيه المصرى بـ 100 قرش وتم تحديد قيمة القرش بـ 10 ملاليم، وكذلك تم إصدار الريال ليتكون من 20 قرشا، ووفقا لجرجى زيدان (ص 758) فإن الجنيه المصرى كان أعلى قيمة من الليرة الإنجليزية والليرة العثمانية والليرة الفرنسية، فكانت الليرة الإنجليزية تساوى 97 قرشا، أما الليرة العثمانية فقد ساوت 87 قرشا، فيما كانت قيمة الليرة الفرنسية 77 قرشا (لاحظ أن الاسم الدارج بين المصريين لهذه العملات هو الليرة وعلى ما يبدو هذا ما اعتمد عليه المؤرخ جرجى زيدان فى التسمية).
قام الخديوى توفيق كذلك بإعادة تنظيم مجالس الحكم المحلى، كما قام بإنشاء مجلس شورى القوانين من 30 عضوا يعين منهم الخديوى أربعة أعضاء فيما يتم انتخاب باقى المقاعد بهدف مراجعة القوانين قبل نشرها، حتى توفى الخديوى فى 1892 وخلفه ابنه عباس حلمى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“