إسرائيل في غزة.. من “الصدمة” إلى اشتهاء الإبادة!

كيف يُمكن لحدث مثل 7 تشرين الأول/أكتوبر أن يثير كل تلك التجاذبات وردود الأفعال والتناقضات والمواجهات على جبهات كادت أن تخلخل الإقليم ككل، وليس فقط إسرائيل وغزة؟ ولماذا كان الحدث صادماً إلى تلك الدرجة، ولماذا استدعى كل ذلك العنف والقتل والتدمير من قبل إسرائيل وحلفائها في الغرب والشرق، ممن شاركوا بكيفية، مباشرة أو غير مباشرة، في الانتقام من غزة؟

لا تزال قوة الصدمة التي أحدثها هجوم غزة وآثاره النفسية والرمزية أكبر من قوة الحدث نفسه بالمعنى الميداني والأمني والعسكري، على الرغم من حجم القتل والتدمير المهول من قبل إسرائيل على مدى أكثر من مائتي يوم. وسوف يستدعي الحدث من إسرائيل استجابات تحاول التغطية عليه والتعويض عنه والانتقام له أو منه. ولن تتوقف إسرائيل عن ذلك حتى تشعر بـ”الارتواء” و”تُشبع الرغبة بالانتقام”. الانتقام الذي يُعادل الإبادة الموصوفة بالتعابير الجنائية والسوسيولوجية والأخلاقية حول العالم. وقد تواصل إسرائيل ذلك، إذا أخفق العالم في إيقاف الحرب ووضع حد لما تقوم به منذ سبعة أشهر.

كشف حدث غزة أن الوعي أحياناً ما يكون متأخراً جداً عن الواقع، بمعنى أن مدارك الأمن والسياسة لدى إسرائيل لا تتأسس على معرفة بالواقع. وثمة أمور كثيرة تحدث خلافاً للتقديرات والتوقعات. وأن مرور الزمن على الأحداث والوقائع لا يطويها بالضرورة. وقد يحدث العكس، وخاصة مع مواصلة الاحتلال وزيادة الاستيطان والتهجير والاعتقال والإذلال. وبالتالي فإن الاستمرار في التنكر للواقع والتاريخ يزيد في قوة الأحدث والوقائع وإمكانية إحيائها، ويحولها إلى قوة ذهنية ونفسية ومن ثم تتحول إلى قوة وفعل سياسي وعسكري.

يتعلق الأمر مثلاً بأحداث مثل قيام إسرائيل بعد الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1948، وحرب حزيران/يونيو 1967؛ هذه أحداث لا تتقادم، بل إن كل مواجهة مع إسرائيل تعيد طرح الأسئلة الكبرى حول الصراع والحق والتاريخ والقوة والمقاومة والحرب والسلام إلخ.. وقد يكون غريباً ومدهشاً أن هذا عادة ما يحدث لدى الإسرائيليين أكثر منه لدى العرب. وأما حدث غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقبله حدث تموز/يوليو 2006، فيمثلان أحداثاً فارقة وموحية ومحيية بالنسبة لذاكرة الكفاح والصراع والحرب مع إسرائيل.

يخدع الإسرائيليون أنفسهم ويحاولون خداع العالم. يُعيدون إنتاج سرديات متخيلة عن إبادات وقتل جماعي، ويزعمون أنهم في مواجهة “هولوكوست جديد”. لكن أصواتاً كثيرة في العالم تكذب ذلك، وتقول: ما تقوم به إسرائيل ليس حرباً ضد الإرهاب، وليس رداً على هجوم أو اعتداء، بل هو استدعاء أو إسقاط لـ”هولوكوست متخيل” من ماضي الحركة اليهودية

تختلف الاستجابات حيال الصدمة. وعندما لا يتم الاعتراف بالواقع، ولا تتم قراءته بشكل صحيح، تتحول الصدمة إلى فعل نكوصي أو ارتكاسي، إن أمكن التعبير. ومن الواضح أن صدمة غزة فاقت قدرة إسرائيل على التوقع والتكيف أو الدمج فيما يُسمّى “عملية الأَيض النفسي”، وبالتالي يكون لها “مفعول عكسي”، من حيث الوعي والاستجابة، وتكون ردة الفعل أقرب لـ”دفاع مرضي” و”عنف فائق” و”اشتهاء” للقتل والتدمير.

تحدث الرضة النفسية، بالمعنى المعروف في الدراسات النفسية، لدى الفواعل التي تصطدم بأحداث لا متوقعة أو تفوق قدرتها على التوقع، ويكون من الصعب الاعتراف أو القبول بها أو التكيف معها، ليس بما حدث فحسب، وإنما بـ”ما يحيل إليه” أو “ما يعد به” الحدث، إن أمكن التعبير.

كانت مدارك وتقديرات الأمن في إسرائيل تتحسب تهديدات من فواعل وجهات وجبهات مختلفة، لكن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر جاء من خارج تلك المدارك والتقديرات وهو قطاع غزة. وكان الهجوم فائقاً ولا مُتوقعاً ومُذلاً، وغير قابل للتكيف أو التصريف أو التغطية أو التجاوز، وأحدث جرحاً نفسياً عميقاً. كما أن الإخفاق في تدبير الموقف أو احتوائه، واستمرار المقاومة لوقت طويل، برغم التدمير والقتل، مَثَّلَ عوامل تعزيز إضافية لما أحدثه هجوم غزة.

إذا كان الحدث صادماً إلى تلك الدرجة، وغير قابل للتكيف أو التجاوز، كما سبقت الإشارة، فلا بد – من هذا المنظور – من استجابة مكافئة بل متجاوِزَة. وهذا يُفسّر كيف يمارس الإسرائيليون العنف بنوع من “الاشتهاء”. يتلذذون بالتعذيب والإذلال، ويقومون بعمليات قتل للأسرى والمحتجزين بشكل جماعي واحتفالي، كما ظهر في غير مكان وزمان من الحرب في غزة.

ما يقوم به الإسرائيليون هو استجابة لنداء القتل بزعم الدفاع عن النفس أو الدفاع عن الأنا، ليس دفاعاً في صراع بين متعادلين أو متحاربين، إنه دفاع عن “الأنا المتقدمة” ضد “الهمجية” الفلسطينية. دفاع “الدولة التي لا تُقهر” والمُعبّرة عن “شعب الله المختار” ضد “الإرهابيين الأغيار”. ويُصوّر الإسرائيليون فعلهم بوصفه “نداء الوجود” ضد “فواعل العدم”.

الواقع أن المدنيين هم هدف الحرب الرئيس وشبه الحصري، لمجرد أنهم موجودون في حيّز مكاني جغرافي انطلق منه هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ووجدت إسرائيل أنه من اللازم استهدافه وتدميره، ودفع الناس لمغادرته. لننظر إلى حجم المتفجرات التي قصفت بها إسرائيل قطاع غزة، ولننظر إلى حجم الأخبار والصور والتحليلات المزيفة والمضللة التي قصفت بها، ليس الفلسطينيين والعرب فحسب، وإنما العالم أجمع، وهو لا يقل هولاً ووحشية وجحيمية عن القصف بالقنابل والصواريخ. نوعٌ جديدٌ من البربرية، والثأر و”التأديب” والانتقام للذات.

إقرأ على موقع 180  صفعةُ شيرين.. مراكمةٌ للوعي وتحصينٌٌ للذاكرة

يخدع الإسرائيليون أنفسهم ويحاولون خداع العالم. يُعيدون إنتاج سرديات متخيلة عن إبادات وقتل جماعي، ويزعمون أنهم في مواجهة “هولوكوست جديد”. لكن أصواتاً كثيرة في العالم تكذب ذلك، وتقول: ما تقوم به إسرائيل ليس حرباً ضد الإرهاب، وليس رداً على هجوم أو اعتداء، بل هو “هولوكوست معكوس” أو بالأحرى استدعاء أو إسقاط لـ”هولوكوست متخيل” من ماضي الحركة اليهودية والسرديات الصهيونية في أوروبا، على واقع أو راهن الفلسطينيين اليوم، وممارسة نوع من الإبادة الفعلية، مادياً وبيولوجياً ورمزياً أو معنوياً.. وما تشهده جامعات أمريكا وأوروبا في الأيام الأخيرة، يُثبت مُجدداً أن كل هذه السرديات المُتخيلة أعجز من أن تُكذّب الحقائق.. ولا يُمكن طمسها بوضع كل من ينتصر لفلسطين في العالم في خانة “معاداة السامية” أو تصنيفه “إرهابياً”.

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  واشنطن تبتز المغرب بورقة "الصحراء".. هل نتخلى عن فلسطين؟