ملفا السويس والنيل.. إستعادة المبادرة والدور

على مدى ستة أيام طرحت المخاوف نفسها على العالم بأسره خشية أن تطول أزمة السفينة الجانحة في قناة السويس، وأن تلحق أضرارا غير محتملة بحركة التجارة الدولية.

تصدرت جهود تعويم السفينة نشرات الأخبار فى جميع أنحاء العالم، وشاعت أحاديث البحث عن طرق بديلة وخرجت من الأدراج خطط قديمة.
كان ذلك تعبيراً عن صراع مستأنف على الموقع الجغرافى المصرى الفريد، الذى تلخص قناة السويس أحد أوجه عبقريته بالربط بين البحرين الأبيض والأحمر واختصار طرق التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا.
بإرث التاريخ الحديث أدرك المصريون أن أزمة السفينة الجانحة تتجاوز حسابات الأرقام والأرباح والخسائر والتحقيقات الفنية لاستبيان حقيقة ما جرى، إلى الصراع مجددا على الموقع المصرى بهدف تهميشه لآماد طويلة مقبلة وحرمانه من أية أدوار محتملة فى حسابات وموازين المنطقة.
تاريخ مصر الحديث، حروبها وأزماتها ومشروعاتها وانكساراتها، ارتبط بقناة السويس.
كان تأميم قناة السويس زلزالا مدويا فى أرجاء العالم، بقدر أهميتها فى التجارة الدولية واستراتيجيات القوى الكبرى.
لم يكن بوسع أحد فى العالم توقع تأميم قناة السويس قبل أن يعلنه «جمال عبدالناصر» من فوق منصة «ميدان المنشية» بالإسكندرية يوم (٢٦) يوليو/ تموز (١٩٥٦)، ولا كان مطروحا تسليم شركة قناة السويس إلى مصر بعد انتهاء عقد الامتياز عام (١٩٦٨).
لم تكن شركة تستثمر بقدر ما كانت دولة داخل الدولة.

كانت قناة السويس أهم مشروع هندسى فى العالم بالقرن التاسع عشر قيدا حديديا على المصير المصرى، ومصر كلها رهينة للقناة حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالى. بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدى الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية فى صلب مصالحهما الاستراتيجية

بالوثائق المصرية والفرنسية، قاد «فرديناند ديليسبس» أخطر عملية نصب فى التاريخ الحديث، حيث امتلكت مصر (٤٤٪) من رأسمال الشركة دون أن يكون لها أية سيطرة على أمورها، فضلا عن التضحيات الهائلة التى دفعها فلاحوها أثناء حفر القناة تحت السخرة.
كان ذلك استنزافا لموارد مصر وقدراتها المالية أسقطها فى شرك الديون الخارجية، وأفضى إلى احتلالها عام (١٨٨٢) بالسلاح البريطانى.
كانت قناة السويس أهم مشروع هندسى فى العالم بالقرن التاسع عشر قيدا حديديا على المصير المصرى، ومصر كلها رهينة للقناة حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالى.
بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدى الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية فى صلب مصالحهما الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذى تمر حمولاته عبر قناة السويس.
جسارة التحدى تأخذ معناها الحقيقى من سياقها فى الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفيتية، أيدت حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى، دعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، ولعبت دورا جوهريا فى تأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثا فى «باندونج».
السياق يشرح وينير حجم الأثر الذى خلّفه قرار تأميم قناة السويس فى الحسابات الدولية والصراعات على المنطقة، ومدى دقة حساباته لمتغيرات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بالحساب التقليدى فإنه مغامرة بالمصير بعد أسابيع من جلاء آخر جندى بريطانى عن مصر قد تُفضى إلى إعادة احتلالها من جديد، أو إطاحة نظامها بانقلاب يشبه ما تعرض له قبل سنوات قليلة الزعيم الإيرانى الدكتور «محمد مصدق»، بعد تأميمه بترول بلاده.
حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته فى الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.
أثبت المهندسون والمرشدون المصريون فى هيئة قناة السويس كفاءة استثنائية فى مواجهة أزمة السفينة الجانحة، كان ذلك إحدى ثمرات تأميم القناة.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطنى يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التى وقّعها «جمال عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
كانت الحرب نقطة الذروة فى الصراع على المنطقة.
هناك من يتصور أن مصر كان يمكنها تجنب العدوان عليها، إن لم يُقدم «عبدالناصر» على قرار التأميم.
بالوثائق هذا استنتاج متعجل، فلم يكن مسموحا لمصر بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطنى بالتأميم، أو بغير التأميم.
لم يكن رفض البنك الدولى تمويل مشروع بناء السد العالى، السبب الرئيسى لتأميم قناة السويس بالفعل ورد الفعل.

بعد تحدى السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التى لا يمكن تجاهلها

منذ احتلال مصر وهى تتطلع إلى هذا اليوم، الذى تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطنى، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.
فكرة التأميم لم يخترعها «عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة.
قبل «يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها ــ أحيانا ــ دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة.
لم يكن أحد يتصور أن يأتى هذا اليوم فعلا، حتى إن أغلب الذين دعوا للتأميم قبل يوليو لم يحتملوا المفاجأة عندما صارحهم بها «عبدالناصر»، وهو يتأهب لإعلان قراره خشية ردات فعله.
بعد تحدى السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التى لا يمكن تجاهلها.
اكتسبت مصر أدوارها القيادية فى أفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانا استثنائية فى عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحديا شبه مستحيل وكسبته.
إرث التاريخ الحديث ماثل فى الذاكرة العامة.
فى نفس واحد تأكدت وحدة المشاعر العامة بالقلق البالغ على مصير القناة ومستقبلها، أو بالفرح الغامر لتعويم السفينة الجانحة بأقل الخسائر الممكنة بأيد مصرية فى المقام الأول أو بأى حساب أخير.
بتعبير مراسل الـ«سى. إن. إن» من موقع الحدث لحظة تحرك السفينة بعد تعويمها: «لقد بدأت الاحتفالات الآن، المصريون يهنئون أنفسهم بكلمة مبروك».
كان ذلك تجليا لوحدة المشاعر العامة، التى تأكدت مرتين فى التاريخ الحديث.
مرة بتأميم القناة وحرب السويس التى أعقبتها، ومرة ثانية بعبور الجسور فوق القناة فى حرب أكتوبر لاسترداد سيناء التى احتلت عام (1967) بقوة السلاح.
فى المرتين تأكدت رمزية القناة، فضلا عن أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية، فى المخيلة العامة.
الفارق بين اللحظتين أن مصر فى الأولى استثمرت سياسيا فيما ألهمته للعالم الثالث من إرادة تحد ومقاومة وتقدمت لقيادة العالم الثالث، بينما فى الثانية أهدرت السياسة بطولة السلاح، وجرى تهميش أدوارها بفداحة، أخلت مواقعها لإسرائيل وغير إسرائيل فى أفريقيا والعالم العربى وشرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
تتبدى الآن حول القناة فرصة جديدة فى الأفق السياسى لا يصح إهدارها لبناء موقف إقليمى وداخلى أكثر تماسكا.
بدا ما أعلنه الرئيس «عبدالفتاح السيسى» من على شاطئ القناة بكل رمزيتها من أن «مياه النيل خط أحمر» دون أن يستبعد العمل العسكرى «واللى عاوز يجرب يجرب» لردع أى جور على حق المصريين فى مياه النيل شريان الحياة تطورا لافتا يستجيب للقلق العام المتعاظم.
قد يساعد ذلك التصريح بالردع على تحريك الملف الملغم، الذى يراوح مكانه منذ عشر سنوات فى مماطلات إثيوبية متصلة، بالنظر إلى ما قد يترتب على العمل العسكرى من اهتزاز لا يمكن تحمله للأمن والاستقرار فى وادى النيل والقرن الإفريقى واستراتيجية البحر الأحمر.
لم يعد ممكنا للقوى الكبرى أن تجلس فى مقاعد المتفرجين، فيما مصر والسودان تتعرضان لخطر وجودى.
هناك حالة إجماع وطنى واسع حول ملفى «النيل» و«القناة» يعلن عن نفسه فى المنتديات العامة وعلى شبكة التواصل الاجتماعى.
ذلك يستحق إعادة نظر فى السياسات الإقليمية بروح المبادرة وإعادة تقييم المواقف المختلفة، من معنا ومن ضدنا، وأن تتسق الأدوار المصرية مع الرهانات عليها فى عالمها العربى.
كما يستحق إعادة نظر أخرى فى الوضع الداخلى بانفتاح سياسى وإعلامى وتحسين ملفى الحريات العامة وحقوق الإنسان حتى تتأكد وحدة الإرادة المصرية أيا كانت تكاليفها على أسس ثابتة وصلبة أمام أية عواصف محتملة.

إقرأ على موقع 180  "المونيتور": الغنوشي ورقة أردوغان الإخوانية الأخيرة.. عربياً

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  حلمي التوني.. والحمامة البرتقالية التي صنعت هوية "السفير"