كان سعد الحريري يتصرف كلاجىء سياسي إلى الإمارات. ترتيب أمور عائلته وكيفية إنتقالها تدريجياً إلى هذه الإمارة الخليجية الصغيرة، بعدما أقفلت أبواب السعودية بوجهه. إقتضى “الترتيب” إطلاق بعض مشاريع “البيزنس” برعاية إماراتية، سعياً إلى إعادة تعويض ما يمكن تعويضه من جهة بفعل خسارة مشروع سعودي أوجيه، وإقفال حنفية المال السياسي السعودي والخليجي من جهة ثانية. “الترتيب” ذاته يجب أن يفضي إلى وضع يؤهل الحريري لخوض الإنتخابات النيابية المقبلة بأفق إما الحد من الخسارة أو بقاء كتلته النيابية على صورتها الحالية.. أو محاولة تحسين حضوره السياسي البرلماني، ولو أن الخيار الأخير ليس بمتناول اليد حتى هذه اللحظة.
كان الحريري مُحبطاً للغاية. إنعكس ذلك على دائرة المقربين منه. بعضهم إنفض عنه وإبتعد إلى الصفوف الخلفية. البعض الآخر صار يعطي رأيه ولكنه ممتلىء قناعة أن الحريري لا يأخذ سوى برأي الحريري نفسه! هذا الأمر فيه تعبير عن أزمة ثقة كبيرة ومتعاظمة بالمحيطين به. إنعدام ثقة ناتج في الجزء الأكبر منه عن عدم قدرة دول وحكومات ووساطات على زحزحة موقف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان السلبي من الحريري نفسه.. فضلا عن محاولة السعودية رمي صنارة الزعامة السنية في لبنان بهذا الإتجاه أو ذاك.. وصولاً إلى سحب بساط هذه الزعامة من تحت قدمي الحريري نهائياً حتى لو إقتضى الأمر إقفال بيته السياسي وختمه بالشمع الأحمر.
لم يقتصر الأمر على ذلك. البيت المستقبلي مُشرع على خروقات وتخمة طامحين للوراثة المبكرة. السهام تأتي للحريري من كل حدب وصوب. أولاً من سمير جعجع الذي قرر أن “يتسعود” سياسة ووظيفة وهوية، إلى درجة المزايدة على السعوديين والقول لهم” مصلحتكم تقتضي هذا وذاك.. وأنا أخبر منكم بها”!
لا ضرورة لفتح سجل قوى وشخصيات 14 آذار من أقربها إلى أبعدها. كلهم إبتعدوا عن سعد الحريري أو إبتعد عنهم والنتيجة واحدة. لم يبق من تلك التجربة إلا بضعة صور معلقة في الصالونات السياسية.. بإستثناء فارس سعيد الذي يبتهل الى الله أن تأتي اللحظة السياسية التي تُطوى فيها سيرة العونية السياسية والجعجعية السياسية، حتى يعود زمن الشخصيات والبيوتات السياسية المسيحية.. وعندها لا ضير إن قدمت أوراق إعتمادك إلى هذا أو ذاك من القناصل والسفراء!
حتى وليد جنبلاط، وبرغم مسافة الأمتار القليلة بين منزله ومنزل الحريري، صار التواصل بينهما يحتاج إلى سفراء ووسطاء وإتصالات. أزمة ثقة عميقة بين الرجلين لا سابق لها. زدْ عليها أن السعودية تحديداً تحرص على إبقاء خطوطها مفتوحة مع رئيس “الإشتراكي”، وهو الأمر الذي يجعل الحريري يتوتر كلما سمع أن جنبلاط تواصل مع مسؤول دولي أو إقليمي.. إلى درجة أنه يضع ذلك في خانة “الوشاية” و”قطع الطريق” عليه. هذا ما حصل عندما تواصل جنبلاط مباشرة مع الأليزيه وكذلك مع دوائر الكرملين، كما مع دوائر خليجية وعربية أخرى.
لو أردنا المضي بتجميع كل ما يجعل سعد الحريري محبطاً وقلقاً ومتوتراً، لأمكن كتابة آلاف الكلمات. لكن لسعد الحريري أن يبتهل إلى الله أن هناك ميشال عون (ورسالته وملائكته) وإلا ما كان إستمر رئيساً مكلفاً للحكومة. لماذا؟
سعى بري إلى ترتيب الساحة المجلسية بإتقان شديد. كان يمكن أن يُتهم بنصب كمين سياسي ـ دستوري لرئيس الجمهورية لو أنه شجّعه على بعث الرسالة، لكن أما وأن عون لم يأبه لنصيحته وأما أن الرسالة صارت أمراً واقعاً.. فلا بد من تلقف الفرصة واللحظة و”الهدية”!
حاول نبيه بري مباشرة أو عبر المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، إقناع رئيس الجمهورية وباسيل بعدم توجيه الرسالة الرئاسية إلى مجلس النواب، لكن عون أصر عليها. وصلت الرسالة إلى مجلس النواب وصار لزاماً على رئيس المجلس أن يدعو إلى جلسة عامة لتلاوتها. كان السؤال الأساس ماذا يريد عون من الرسالة؟ هل يريد نزع التكليف من الحريري؟ إذا كان يريد ذلك ـ وهذا هو هدفه ـ لا بد من تعديل دستوري، لكن هل هذا هو الوقت المناسب لطرح تعديل دستوري من هذا النوع وهل هناك من يستطيع أن يتحمل تداعيات فتح أبواب الجحيم الدستوري الجديد؟
سعى بري إلى ترتيب الساحة المجلسية بإتقان شديد. كان يمكن أن يُتهم بنصب كمين سياسي ـ دستوري لرئيس الجمهورية لو أنه شجّعه على بعث الرسالة، لكن أما وأن عون لم يأبه لنصيحته وأما أن الرسالة صارت أمراً واقعاً.. فلا بد من تلقف الفرصة واللحظة و”الهدية”!
هندَسَ بري ساحته. تواصل مباشرة مع الحريري هاتفياً وأوفد إليه معاونه السياسي علي حسن خليل. نجح الأخير في إعادة وصل ما إنقطع بين الحريري وجنبلاط. إتصال هاتفي بدأه خليل ليل الجمعة ـ السبت الماضي مع جنبلاط قبل أن يكمل الحريري الإتصال، ويتفق الزعيمان الدرزي والسني على إصلاح ذات البين بينهما.. في الوقت نفسه، كان التواصل قائماً بين الحريري وحزب الله مباشرة وأيضاً من خلال المعاون السياسي لبري. جرى تحييد القوات اللبنانية التي أبلغت من يعنيهم الأمر رسالة واضحة: عون وباسيل يدفعان لإفتعال فتنة مسيحية سنية والمطلوب عدم حشرنا في الزاوية.
صارت جلسة المناقشة أمراً واقعاً.. ما كتبه الحريري وقرر قوله قد كتبه ولن يتراجع عن قوله. أعطيت تعليمات مفاجئة بنقل الجلسة مباشرة على الهواء قبل حوالي الساعة من موعدها (الإخراج التلفزيوني الضعيف يشي بذلك). معظم المداخلات كانت “مُهندسة” مُسبقاً!
أعطى بري الكلام لنفسه أولاً ثم إلى عدد من النواب ورؤساء الكتل لكن أبرزها كانت تلك التي ألقاها كل من الحريري (المستقبل)، باسيل (التيار الحر)، محمد رعد (حزب الله)، جورج عدوان (القوات)، هادي أبو الحسن (الإشتراكي) وجميل السيد. أصبح الجميع محكوماً بالنقل التلفزيوني وبجلسة لا تدور بين جدران مغلقة بل مفتوحة، وبالتالي هذه مناسبة لإستبدال خطاب التحدي بمسايرة واقع الناس.. كلامياً! هل عدّل أحدٌ منهم مداخلته أو بعضها؟ ربما، لكن من الواضح أن فتيل المشكل قد سُحب.. وصارت الجلسة في فصلها الحريري الاخير عبارة عن محاكمة ليس للعهد وحسب، بل لمجمل الأداء العوني في العقد الأخير من الزمن، وتحديداً منذ حكومة الحريري الأولى (2009).
واقعياً، ربح الحريري “الجائزة الكبرى” مقارنة بواقع إحباطه وقلقه وصولاً إلى تلويحه بالإعتذار في حلقات ضيقة داخلية وخارجية. لماذا؟ لأنه خرج بتكليف نيابي جديد يتجاوز بمضمونه السياسي ما أعطاه إياه التكليف قبل سبعة أشهر. في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، نال الحريري 65 صوتاً نيابياً، بينما حظي تكليفه بموجب توصية نيابية اليوم (السبت) على شبه إجماع نيابي كان التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية جزءاً لا يتجزأ منه، ذلك أن التوصية شددت على “ضرورة المضي قدماً وفق الأصول الدستورية من قبل رئيس الحكومة المكلف (الحريري) للوصول سريعاً الى تشكيل حكومة جديدة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية”.
مشهد سوريالي بكل معنى الكلمة أخرج الحريري من إحباطه وأعاد تعويمه سياسياً. والأهم من ذلك أن الجميع خرجوا من الجلسة رابحين إلا باسيل وحده، فرئيس مجلس النواب أظهر أنه يتحصن بدرع سياسي أصبح الحريري وجنبلاط في صلب تكوينه، ويستطيع حزب الله أن يستثمر به إن أراد ذلك
بدا النص الذي تلاه بري، ورفض أن يُخضعه للنقاش، متقن الحياكة لمصلحة الحريري ولو إقتضى الأمر توجيه ضربة كف ناعمة إلى رئيس الجمهورية بيد مجلس النواب الذي إلتأم بطلب من رئاسة الجمهورية!
مشهد سوريالي بكل معنى الكلمة أخرج الحريري من إحباطه وأعاد تعويمه سياسياً. والأهم من ذلك أن الجميع خرجوا من الجلسة رابحين إلا باسيل وحده، فرئيس مجلس النواب أظهر أنه يتحصن بدرع سياسي أصبح الحريري وجنبلاط في صلب تكوينه، ويستطيع حزب الله أن يستثمر به إن أراد ذلك، وبالتالي، لم يعد بمقدور عون الخروج من تكليف الحريري بعد الآن، وهذه النقطة الأخيرة كان قد ألمح إليها باسيل بقوله للمحيطين به في اليومين الماضيين إنه لا يوجد بديل أفضل من الحريري لرئاسة الحكومة، لكن المطلوب تجديد التسوية السياسية ـ الرئاسية معه، وهو الأمر الذي يرفضه الحريري مطلقاً لأنه صار متيقناً أن ما يفصله عن موعد الإنتخابات النيابية (أقل من سنة) لا يستوجب تعديل خطابه السياسي ولا إعادة تجديد التسوية مع باسيل ولا تقديم تنازلات مجانية، وكل مؤشرات الشارع السني تجعله يمضي في هذه الإتجاه وكل التشجيع العربي والدولي يصب في الخانة ذاتها.
وكان لافتا للانتباه ان الحريري، في خطابه المكتوب، قد تجنب توجيه أية إشارة سلبية إلى حزب الله لا من قريب ولا من بعيد. ذهب رئيس تيار المستقبل أبعد مما كان يتوقع حزب الله عندما كشف على الملأ أن رئيس الجمهورية كان يسأله عما إذا كان قد حصل على موافقة حزب سياسي معين (أي حزب الله) على الأسماء (الشيعية) المقترحة، وأن جوابه له هو عدم السعي لنيل موافقة أي حزب مسبقا وأنه واثق أن الأسماء التي يختارها تلبي معايير الإبتعاد عن الأسماء الحزبية من دون أن تعادي أياً من الأحزاب.
في هذا الموقف إشارة حريرية غير مسبوقة موجهة إلى الداخل والخارج مفادها أن حزب الله هو عنصر تسهيل للتأليف وليس عنصر عرقلة وتعطيل، وهذه العبارة حتماً لن تنال إعجاب السعوديين أو الإماراتيين.
قبل أن يخرج جبران باسيل من قاعة الأونيسكو، عرّج على رئيس المجلس. سأله الأخير: ماذا بعد السؤال والتوصية؟ ألم يحن موعد التأليف. ما الذي ينبغي القيام به؟
إختلى باسيل بالمعاون السياسي لرئيس المجلس وإتفقا على تقديم مجموعة من الأفكار لكسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها التأليف الحكومي.
هل ثمة فرصة لولادة قريبة للحكومة الحريرية؟
بإستثناء التحفظ السعودي على شخص الحريري، لا عوائق دولية أو إقليمية أمام التأليف، حتى أن مصر ممثلة بسفيرها في بيروت ياسر علوي أبلغت رئيس المجلس بشكل واضح أنها تدعم إستمرار تكليف الحريري وتعبيد الطريق سياسياً أمامه للوصول إلى بر الأمان الحكومي. رسالة تحمل في طياتها إشارة مصرية ـ إماراتية، في ظل ما نُسب من مواقف إلى كل من القاهرة وأبو ظبي في الآونة الأخيرة بأنهما يقفان وراء تريث الحريري في التأليف.
الكل يُسلم بأن الوقت السياسي الراهن ليس وقت تعديلات دستورية (مثل مهلة الدعوة الرئاسية للإستشارات النيابية الملزمة أو تقييد مهلة رئيس الحكومة المكلف وغيرهما). من هذا المنطلق أتت نصيحة رئيس المجلس إلى رئيس الجمهورية بأن يصرف النظر عن قصة الرسالة، طالما أن لا ترجمة دستورية عملية لما تعرضه رسالته من توصيف لواقع الحال.
ما هو المطلوب من الحريري وباسيل؟
أن يلتزما بمضمون التوصية المجلسية (أقرب ما تكون إلى كلمة محمد رعد): الإسراع بتأليف الحكومة يكون عبر التصرف بواقعية وتقديم تنازلات متبادلة.. أكثر من ذلك، تبدو التسوية اليوم أفضل من الغد، خصوصاً في ظل ما ينعقد من آفاق لتسويات كبرى في المنطقة، لأن الخشية أن يفوّت لبنان مُجدداً الفرص.. وعندها لات تكون ساعة مندمٍ (لننتظر خطاب السيد حسن نصرالله يوم الثلاثاء المقبل لمناسبة عيد التحرير).
ثمة تموضعات جديدة في الإقليم. الخطاب الأميركي في مواجهة الجنون الإسرائيلي في فلسطين التاريخية، ولا سيما في غزة يشي بالكثير.
الخشية أن يكون البعض متوهماً بأن خطاب التحشيد الطائفي يمكن أن يرفع “سكوره” في هذا الشارع أو ذاك. معنى ذلك أن لا حكومة قبل الإنتخابات النيابية المقبلة ولا تعديل للقانون الحالي.. إلا ما يتصل بشطب بند إعتماد ستة مقاعد نيابية لغير المقيمين (الإغتراب) تُحدد بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين (ليصبح عدد أعضاء المجلس 134 نائباً).
في ختام جلسة الأمس، قال أحد النواب “ليعقل كل من سعد الحريري وجبران باسيل ويتوكلا.. وإلا لا حكومة قبل الإنتخابات”. إلى الإنتخابات النيابية درْ. للبحث صلة.