

حدث هذا قبل ثلاثة أعوام، غاب فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن البيت الأبيض، ولتتبدل مع عودته قبل شهر واحد فقط، الكثير من المعادلات التي أرستها رئاسة جو بايدن وتعهده دعم أوكرانيا “طالما استلزم الأمر”، لمصلحة سياسة “أميركا أولاً” التي تضع وقف الحرب على رأس أجندة أولوياتها العالمية، والتوقف عن العطاء بالمجان، والمطالبة بثمن المساعدات التي كانت عاملاً أساسياً في حفظ أوكرانيا من الذوبان في الحضن السلافي الأكبر.
تسببت الحرب في زعزعة نظام الأمن الأوروبي وخلّفت انعكاسات عالمية، آخرها انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، حيث كانت روسيا أعجز عن خوض حرب على جبهتين، وإذا بإيران تجد نفسها في مواجهة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، هي الأكثر خطورة منذ ولادة الجمهورية الإسلامية في العام 1979.
والآن، هناك أثمان اقتصادية وسياسية ستُدفع نظير توقف الحرب. للمرة الأولى تجد أوروبا نفسها متروكة في العراء. ويتساءل قادتها هل حانت لحظة سحب مظلة الحماية الأمنية والعسكرية التي توافرت للقارة منذ 1945. وبعضهم لا يصدق أنهم سيدخلون في حقبة ما بعد أميركا. واختزل رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن كريستوف هيوسجين مشاعر الكثيرين من الأوروبيين عندما غالب دموعه، بعدما استمع إلى نائب الرئيس الأميركي دي. دي. فانس وهو يُقّرع أوروبا بسبب ما وصفه “التضييق على الأحزاب اليمينية المتطرفة”، وبعدما قال وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، إن الحماية الأميركية لأوروبا قد لا تستمر إلى الأبد، وبأن “الناتو” ليس بالضرورة أن يكون قدر أوكرانيا.
تطل أوروبا على واقع جيوسياسي جديد، نتيجة سياسة ترامب التي تنظر إلى ترميم العلاقات مع روسيا من زاوية أوسع من أوكرانيا، بل تشمل المواجهة الإستراتيجية الأوسع مع الصين
أوروبا التي هالها كسر الجمود الديبلوماسي بين الولايات المتحدة وروسيا في اجتماع الرياض بين وزيري الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف في 18 شباط/فبراير الجاري، حاولت أن تُبرز شخصية مستقلة عن واشنطن، بعقدها اجتماعاً لقادة ثماني دول أوروبية، انتهى بالخلاف على اقتراح فرنسي-بريطاني، بإرسال 30 ألف جندي لحفظ السلام في أوكرانيا في إطار أية تسوية سلمية. ألمانيا وبولندا نأتا بنفسيهما عن الاقتراح واستبعدتا المشاركة في مثل هذه القوة المقترحة. وسيذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى واشنطن اليوم (الإثنين) ويلحق به رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الخميس المقبل، في مسعى لإقناع ترامب بتوفير ضمانات أمنية للقوة الأوروبية المقترحة.
زيلينسكي، وبالتزامن مع الاجتماع الأميركي-الروسي في الرياض، اختار زيارة أنقرة ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مُشعلاً بذلك تنافساً بين منصتي الرياض وأنقرة، كمرجعية للمفاوضات المستقبلية على السلام في أوكرانيا. هل التوافق الأميركي-الروسي على الرياض مكاناً، يوحي أيضاً بأن واشنطن وموسكو لا تريدان أن يتبوأ أردوغان، على حساب لاعبين آخرين، زعامة الإقليم بعد تمدده في سوريا عقب سقوط نظام بشار الأسد في أواخر العام الماضي؟
قال زيلينسكي كلاماً في أنقرة استفز ترامب، عندما اعتبر أن بلاده غير معنية بما يصدر عن أي مفاوضات لا تشارك فيها. ردّ ترامب بتذكير زيلينسكي أنه كان قبل ثلاثة أعوام يفاوض روسيا في بيلاروسيا وفي تركيا ومن دون أميركا.
يشعر ترامب بالإهانة من تعامل زيلينسكي مع وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الذي زار كييف الأسبوع الماضي، من أجل التوقيع على عقد توافق فيه أوكرانيا على أن تستثمر الولايات المتحدة بما يعادل نصف ثروة البلاد من “الأتربة النادرة”، التي تدخل في صناعة المقاتلات من الجيل الخامس والبوارج والسيارات الكهربائية.
يروي نائب أميركي لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، أن بيسنت دفع بورقة أمام زيلينسكي كي يُوقّع عليها وتتضمن تنازلاً عن نصف المعادن الأوكرانية الاستراتيجية، ثمناً للمساعدات الأميركية التي قدمها بايدن لكييف. لكن زيلينسكي طوى الورقة في جيبه بعدما تردّد في التوقيع، مُعلّلاً ذلك بضرورة التشاور مع فريقه قبل اتخاذ قرار على هذا القدر من الخطورة، وصرح بعد اللقاء “لن أبيع بلادي”.
لم يكن هذا الجواب النهائي لزيلينسكي، الذي يطالب بضمانات أمنية أميركية تحمي بلاده من هجوم روسي مستقبلاً، قبل تلبية مطالب ترامب بالدخول في حوار مع روسيا أو لجهة الموافقة على مشاركة أميركا في استثمار الثروة المعدنية الأوكرانية.. وهذا ما لم يحصل عليه حتى تاريخه.
عند هذه النقطة، اندلعت “الحرب الشخصية” بين ترامب وزيلينسكي. الأول اتهم الثاني بأنه “ديكتاتور” و”ممثل كوميدي متوسط النجاح”، و”بصرفه نصف المساعدات الأميركية في غير وجهتها”، وبأنه هو من بدأ الحرب، وبأن أميركا دفعت حتى الآن 350 مليار دولار على شكل مساعدات تسليحية واقتصادية لأوكرانيا، وبأن زيلينسكي بسياسته “يقود أوكرانيا إلى الزوال”.
هنا تبدى ترامب لزيلينسكي على هيئة بوتين. فرد بأن الرئيس الأميركي يعيش في فقاعة “من التضليل الروسي” في شأن الحرب، وبأن مجموع المساعدات الأميركية هو مئة مليار فقط، وبأن الجيش الأوكراني قادر على الصمود.
واقع الحال، يشير إلى أن زيلينسكي يخوض معركة خاسرة مع ترامب. ويعلم تمام العلم أنه إذا أقدم البيت الأبيض على خطوة أخرى في اتجاه روسيا، فإنه يُعرّض أوكرانيا لخطر جدي. يكفي مثلاً أن يُلوّح الرئيس الأميركي بوقف المساعدات العسكرية لكييف أو بقطع خدمة “ستار لينك” التي تستخدمها القوات الأوكرانية في شبكة اتصالاتها، أو برفع العقوبات عن روسيا، حتى يحدث تغير استراتيجي على الجبهات، في وقت، بحسب ما أوردت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، “تفتقر فيه الخطوط الأمامية للجبهة إلى الرجال، بينما بعض الخطوط تقاتل بثلث العدد المعتاد”. ونقلت عن مقرب من زيلينسكي أن “ما من أحد مستعد ليقول للرئيس لا.. في وقت يرتكب فيه الأخطاء”. كما أن الكثير من الأوكرانيين بدأوا يتبرمون من زعيمهم. وبحسب استطلاع للمجلة، فإن زيلينسكي سيخسر أية انتخابات رئاسية في مواجهة رئيس أركانه السابق فاليري زالوجني بنسبة 32 في المئة في مقابل 65 في المئة. وفي آخر استطلاع، تدنت نسبة الثقة بزيلينسكي إلى 52 في المئة من 90 في المئة مع بداية الحرب.
الانسحاب الأميركي من أوروبا، سيرغم الدول الأوروبية على رفع انفاقاتها الدفاعية إلى أكثر من خمسة في المئة. وسيتحقق ذلك على حساب التقديمات الاجتماعية، وفي وقت تعيش القارة صعوداً في شعبية اليمين المتطرف
وعليه، لا يملك زيلينسكي الكثير من الأوراق ليشهرها في وجه ترامب. ولهذا عاد ووافق على ابرام اتفاق المعادن مع واشنطن.
وحال زيلينسكي من حال قادة أوروبا الاخرين الحائرين في كيفية تدبر مصير القارة إذا ما انهار حلف شمال الأطلسي الذي يشكل ركيز الأمن على ضفتي الأطلسي منذ تأسيسه في عام 1949.
الانسحاب الأميركي من أوروبا، سيرغم الدول الأوروبية على رفع انفاقاتها الدفاعية إلى أكثر من خمسة في المئة. وسيتحقق ذلك على حساب التقديمات الاجتماعية، وفي وقت تعيش القارة صعوداً في شعبية اليمين المتطرف. والأنظار اليوم على الانتخابات الألمانية وحزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي يحوز على المرتبة الثانية في استطلاعات الرأي. وهذا من العوامل التي قد تؤخر ولادة حكومة ائتلافية جديدة في البلاد.
وحتى إيمانويل ماكرون الذي يتحدث اليوم باسم أوروبا وباسم “الاستقلالية الاستراتيجية” عن الولايات المتحدة، فرضت عليه الانتخابات التشريعية المُبكّرة في العام الماضي، حكومة هشة معرضة للسقوط في أي لحظة، لأنها واقعة تحت رحمة اليمين المتطرف.. واليسار المتطرف.
وعموماً، تطل أوروبا على واقع جيوسياسي جديد، نتيجة سياسة ترامب التي تنظر إلى ترميم العلاقات مع روسيا من زاوية أوسع من أوكرانيا، بل تشمل المواجهة الإستراتيجية الأوسع مع الصين.
هل وقف النزاع الأوكراني ورفع العقوبات عن روسيا، من شأنه أن يُقنع بوتين بعدم تسليم كل أوراقه و”ثرواته المعدنية” للصين التي تُمعِن في تحدي أميركا اقتصادياً وربما عسكرياً في زمن لاحق؟
اتفاق أوكرانيا المحتمل وتداعياته على العلاقات بين ضفتي الأطلسي، ثمنٌ لا بد أن يدفعه ترامب لإبعاد روسيا عن الصين. فهل ينجح؟