الشيء الجديد في مدينة بغداد المثقلة بالجراح، وجه يتغير بشكل تدريجي لينزع عنه الغبار ويرتدي شيئاً مما تستحقه واحدة من أعرق عواصم المشرق العربي.
الانتخابات التشريعية المبكرة أضافت إلى حيوية المشهد الكثير من التفاصيل التي أبرزت ميلاً واضحاً لدى جيل جديد في العراق لإيصال صوت اعتراضي على النمط السياسي السائد منذ ثمانية عشر عاماً ويزيد. واقعياً يمكن أن يوصف هذا الميل بالتمرد، وإذا ما قصدنا شيئاً من التلطيف، هو إمتعاض شديد من مسار يتجه بالبلاد نحو هاوية لا تختلف عن تلك التي سقطت فيها دول أخرى تشترك مع العراق في الأزمات المتعددة الوجوه، والفساد السياسي والمالي، وبطبيعة الحال التقاطعات الإقليمية والدولية. والأخيرة، في حالة العراق، أخذت البلاد بعيداً حتى ما بعد الهاوية في أعقاب اغتيال الولايات المتحدة الأميركية لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في مطلع العام 2020 والرد الإيراني بقصف قاعدة عين الأسد الأميركية غربي العراق.
هذا التمرد او الامتعاض تمثل بمقاطعة أكثر من 60 بالمئة ممن يحق لهم الاقتراع، معظمهم من الشباب، للعملية الانتخابية، لا سيما في المناطق الشيعية التي يبدو جلياً أن بعض القوى السياسية التي فيها، بينها وبين القواعد الشعبية فجوة غائرة لا يمكن ردمها دون معالجة الأسباب الكامنة خلفها.
هناك سياق طبيعي للاعتراض ممتد من نهاية الحرب على تنظيم “داعش” في 2017 والتظاهرات المتكررة لأسباب مطلبية ولاحقًا سياسية، واليد الثقيلة التي ووجهت بها هذه الاعتراضات لا سيما تلك التي خرجت في بغداد وغير مدينة عراقية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مرورا بسلسلة اغتيالات طالت وجوهاً شبابية مؤثرة وجريئة، وصولاً إلى حالة الاستقطاب العامودي حول الموقف من الأدوار الخارجية في البلاد والتي لم تعد بين طائفة وطائفة كما في السابق بل داخل الطائفة الواحدة.
للاصطفاف اليوم دلالات مختلفة عن ذاك الذي خلّفه الاحتلال الأميركي والذي أرسي تصنيفاً وضع الشيعة داخل العملية السياسية، أكانوا مؤيدين لأميركا أم معارضين لها، فيما عومل السنة على أنهم “فلول” للنظام السابق، بغض النظر عن موقف كل واحد منهم من صدام حسين وفق ما يشكو طيفٌ سنيٌّ عراقيٌّ واسع.
الجميع في الحالة الشيعية العراقية يدرك أن بغداد لايمكن أن تُحكم من طهران، وفي آن، من غير المسموح تُحكم ضد طهران
قد يصح القول إن “الشيعية السياسية” رسخت اتجاهاتها، التي يبدو أنها تتحول إلى طوائف ضمن الطائفة، فهناك الولائي المعتقد بنظرية ولاية الفقيه حتى النخاع، وهناك الصدري الذي يرى في زعيمه مقتدى الصدر حالة إيمانية سياسية إصلاحية لا تخطئ مهما كانت خياراتها، وهناك الشيعة الحائرون بين أميركا في السياسة وإيران في الحماية، وطرف رابع حسم أمره منذ زمن برفض أي علاقة مع إيران حتى الصميم. ولعلنا إذا قررنا التوغل أكثر في تفاصيل التيارات الشيعية لوجدنا الكثير من المساحات المتعددة الألوان، والتي تنتظر على التل حتى استقرار البوصلة باتجاه مركز ثقلٍ في توازن مقبل.
قصارى القول، حملت الانتخابات أخباراً غير مبشرة للحالة الشيعية السياسية، فشارعها يعيش إحباطاً تراكمياً عمره من عمر التجربة التي بلغت في هذه الانتخابات سن الرشد. المعتكفون مارسوا حقهم في الامتناع عن التصويت، لعل صوتهم يصل بطريقة مختلفة، بعض هؤلاء قد لا يعنيهم حقاً تدخل إيران من عدمه، وقد يكون بعضهم مع طهران، وجزء منهم يريد للجمهورية الاسلامية أن تبقى على مسافة من السياسة الداخلية في العراق، وهناك من يعارضها، لكنهم جميعاً يدركون أن بغداد لا يمكن أن تُحكم من طهران، وفي آن، من غير المسموح أن تُحكم ضد طهران، وبالتالي سيكون على الإيرانيين وأياً كانت الكتلة الفائزة في الانتخابات، دعم التوافق على تسوية تأتي برئيس حكومة يشبه المعادلة اعلاه.
في الصناديق خسر تحالف الفتح وحلفاؤه من الفصائل المدعومة من إيران أكثر من نصف المقاعد التي كانوا قد ربحوها في انتخابات 2018. في المقابل، استعاد حليف آخر لإيران، هو نوري المالكي، المبادرة، بعد نكسة الانتخابات الماضية، وفاز بعدد مقاعد أكبر من الذي حصل عليه سابقاً، وهذا مؤشر على أن الاختيارات العراقية بين المقترعين حملت دوافع داخلية أكبر بكثير من الدوافع المرتبطة بالإقليم والموقف من إيران والولايات المتحدة. يتضح ذلك أيضاً في السقوط المريع لعمار الحكيم ورئيس الحكومة السابق حيدر العبادي اللذين لم يجتازا معاً مقاعد بعدد اصابع اليد الواحدة. العبادي والحكيم بينهما وبين طهران مسافة سياسية واضحة، بدأت تتضح خلال السنوات الماضية، مع ذلك تعرضا لانهيار انتخابي من 51 مقعداً في 2018، إلى 5 مقاعد فقط في هذه الدورة.
الرابح الأول في انتخابات 2021 كان مقتدى الصدر، الذي حاز مقاعد أكثر من التي حصل عليها في الانتخابات السابقة. وعلاقة الصدر بطهران ذات طابع إشكالي، فلا هو عدو أو خصم، ولا يصنف بدوره تابعاً، إنما وعلى حد تعبير أحد كوادره ممن التقينا بهم، ابن متمرد يعرف موضع خط الفصل الذي يمنع التدخل في الشؤون الداخلية، بينما يحفظ الود لدولة شقيقة ذات دور محوري في عملية مقاومة الاحتلال، على حد تعبيره.
نجح الصدر عملياً لأنه حافظ بين الجميع على كتلة انتخابية متماسكة صبت في اتجاه واحد، واستفادت من القانون الانتخابي لتحقق فارقاً يسمح لقائدها في أن يكون أحد صناع الملوك في العراق. يعد زعيم الصدريين جمهوره بأن يكون رئيس الوزراء صدرياً، لكن هذا يبدو مستبعداً نظرا لتعقيدات تتخطى الأعداد إلى مواقف الكتل الكبرى الأخرى، والأهم حق النقض (الفيتو) في كل من النجف وطهران، على جاري العادة، وبغض النظر عن الثقل الذي يمثله حلفاء إيران في المجلس النيابي الجديد.
النقطة الأخيرة تؤكد المؤكد في أن عوامل التأثير الإيراني لن تتغير بحكم الانتخابات أو خريطة مجلس النواب وتحالفاته، لكن ذلك لا يعني أن قوة إيران الناعمة في العراق، لا سيما خارج مساحة المرتبطين عقائدياً بها، بخير.
هجوم تنظيم “داعش” على بعد مائة كيلومتر من العاصمة بغداد جاء ليعيد التذكير بأن هناك ما قد يكون أخطر بكثير من حسابات ربح وخسارة إنتخابات يمكن أن تعوض
العلاقة الإشكالية وردة الفعل العكسية التي تشكلت كعاصفة بعد أشهر فقط من سقوط “داعش” والأجواء الإيجابية التي كانت في الشارع العراقي تجاه الدور الإيراني، مردها إلى عوامل مختلفة، بعضها داخلي مرتبط بحلفاء طهران العراقيين وعلاقتهم ببقية الأطراف السياسية والقواعد الشعبية، والأمن المنفلت الذي تحول إلى حالة تهديد للاستقرار الشيعي الشيعي، وهناك العامل الإيراني الصرف والذي شكّل اغتيال سليماني أهم محدداته، وانعكاس ذلك على إدارة الملف من قبل خليفته إسماعيل قآني والأطراف الإيرانية الأخرى التي دخلت على خط العلاقة.
اليوم خطوط التماس داخل معسكر الطائفة الواحدة، وأصوات الاعتراض العالية في الشارع، بعيداً عن الأصوات المتهمة بكونها تخدم مصالح أميركية او خليجية، هي أصوات عضوية من داخل النسيج المؤيد لما يعرف بخط المقاومة، لكنها باتت تشعر وكأنها لم تعد تتشارك والقوى التي تمثلها ذات التطلعات والأهداف. في المقابل، هذه القوى لم تعد تقبل ما تصفه برمادية قوى سياسية تتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن فيما تحتفظ بخطوطها مع طهران، وهي وصلت في رفضها هذا إلى مستويات غير مسبوقة تصعيداً وتهديداً.
خصوم القوى والفصائل المتحالفة مع طهران يتهمون هذه الفصائل بالعيش داخل فقاعة معزولة حتى عن سياسات طهران، التي هي الآن في طور الحوار مع ألد خصومها، السعودية، انطلاقا من بغداد. لكن قوى ما يعرف بـ”محور المقاومة” ترد بأن من يمثلون الخط الأميركي الخليجي يخوضون حرب الغاء ضدهم، آخر فصولها تزوير الانتخابات ومصادرة الإرادة الشعبية ولذا، فهم نزلوا إلى الشارع “لمنع استكمال الانقلاب”، بحسب تعبيرهم.
وعلى بوابات المنطقة الخضراء في بغداد يبدو المشهد أكثر تعبيراً عن هذا الانقسام الخطير. أفق ملبد بغيوم صراع غير محدد السقف حتى اللحظة، يدار بشكل تدريجي، لكنه يتجاهل مجموعة عوامل يمكن أن تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
ولعل هجوم تنظيم “داعش” على بعد مائة كيلومتر من العاصمة بغداد جاء ليعيد التذكير بأن هناك ما قد يكون أخطر بكثير من حسابات ربح وخسارة إنتخابات يمكن أن تعوض. إلى جانب أن حالة الحنق الداخلي قد لا تنتظر كثيراً في حال انفلات الأمور من عقالها، وعندها لن يكون سهلاً على الإطلاق حقن دماء الاخوة التي قد تراق في غير مكان على امتداد العراق. عندها لن يكون مهماً من ربح الانتخابات أو من هزم فيها، لأن حجم الخسارة ووقعها سيغطي على كل الانتصارات الصغيرة.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“