لم تعد مسألة كيفية التعامل مع روسيا ضمن الأولويات الأميركية؛ وما كانت لتعد إلى الواجهة مؤقتاً لو لم تحشد موسكو قواتها عند الحدود الأوكرانية في نيسان/ أبريل. كانت تلك الأزمة بمثابة تذكير بخطر أن يتم تجاوز موسكو. مع ذلك، وبحلول شهر تموز/ يوليو، عاد الرئيس جو بايدن ليعلن أن روسيا “عبارة عن بلد اقتصاده أسلحة نووية وآبار نفط؛ ولا شيء آخر”.
بايدن ليس أول زعيم أميركي يستخدم هكذا منطق. فمنذ نهاية الحرب الباردة، تصرف سياسيون أميركيون؛ وبشكل دوري؛ على اعتبار أن أيام روسيا كقوة عالمية حقيقية “معدودة”. في عام 2014، وصف السناتور الجمهوري عن ولاية أريزونا جون ماكين روسيا بـ”محطة وقود تتنكر في هيئة دولة”. في العام نفسه، رفض الرئيس الأميركي باراك أوباما اعتبارها ولو مجرد “قوة إقليمية”. وحتى بعد أن نجحت في لعب دور أساسي في الحربين السورية والليبية، والأزمة السياسية في فنزويلا؛ ويُقال إنها تدخلت أيضاً في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، يُصر الأميركيون على تصور روسيا كـ”نمر من ورق”.
لا يمكن لواشنطن أن تركز على الصين بينما تأمل ببساطة خروج روسيا من المنافسة والتهديد
لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتوهم أن روسيا ستتخلى تلقائياً عن مسار المواجهة بمجرد مغادرة الرئيس فلاديمير بوتين منصبه. فالسياسة الخارجية التي يتبعها الأخير تلقى دعماً واسع النطاق بين النُخبة الحاكمة في البلاد، وبالتالي سيورث مجموعة من النزاعات التي لم تُحل، وعلى رأسها تلك المتعلقة بضم شبه جزيرة القرم. بمعنى، أن أي خلاف موجود اليوم مع الولايات المتحدة سيبقى بعد رحيل بوتين.
ببساطة، لا تستطيع واشنطن أن تركز إهتمامها على الصين؛ بينما تأمل ببساطة أن تخرج روسيا من المنافسة. يجب على قادة الولايات المتحدة النظر إلى روسيا على أنها قوة ثابتة بدلاً من افتراض أنها تتراجع؛ ويجب إجراء مناقشات صريحة حول حقيقة قدرات موسكو ونقاط ضعفها. إن إعادة التفكير في الافتراضات الأميركية بشأن القوة الروسية ستسمح لصُنَّاع القرار السياسي معالجة ما هو متوقع: مواجهة طويلة الأمد مع خصم باقٍ ومُتمكّن.
افتراضات خاطئة
التوقعات التي تقول بأن روسيا تتراجع تتضمن “حقائق” تفترض أن روسيا تتخلف بشكل كبير عن الولايات المتحدة والصين في معظم مقاييس التطور العلمي والتكنولوجي، مثل: اقتصاد البلاد راكد، الإعتماد بشكل أساسي على استخراج الموارد الطبيعية وتصديرها، النظام ينخره الفساد وتهيمن عليه شركات غير فعَّالة مملوكة من الدولة أو تسيطر عليها الدولة، العقوبات الدولية تحول دون الوصول إلى رأس المال والتكنولوجيا، الدولة تعاني من نقص مزمن في مجال البحث العلمي، البيروقراطية وسوء الإدارة يعيقان تطور الابتكار التكنولوجي.. كما أن الإنفاق العسكري إنكمش إلى حد كبير خلال السنوات الأربع الماضية، ومن المتوقع أن ينخفض عدد السكان بمقدار عشرة ملايين شخص بحلول العام 2050.
إمكانات روسيا الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية ستظل كبيرة ما يكفي لحمايتها من التهور والتدهور
مع مثل هذه النظرة الكئيبة، من الطبيعي أن نفترض أن قدرة روسيا على اللعب على المسرح الدولي سوف تتضاءل قريباً أيضاً؛ وأن موارد الكرملين سوف تنفد ببساطة بسبب سياستها الخارجية العدوانية. لكن جملة “الحقائق” والبيانات هذه تُخطئ في إبراز الصورة الأوسع والأوضح. وأصحاب هذه النظرة يسلطون الضوء على نقاط ضعف روسيا فيما يقلّلون من نقاط قوتها. قد تكون روسيا “دولة متقلبة”، كما اشتكى هيرمان غريف، رئيس أكبر بنك في روسيا، في عام 2016، لكن إمكاناتها الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية ستظل كبيرة ما يكفي لحمايتها من التهور والتدهور.
لا بد من الأخذ بالإعتبار أن الاقتصاد الروسي، الذي، مهما كان راكداً، لا يزال أكبر وأكثر مرونة مما يعتقد كثيرون. بعض المحللين يستمتعون بمقارنة الناتج المحلي الإجمالي لروسيا؛ البالغ 1.5 تريليون دولار؛ مع إيطاليا أو تكساس. ولكن هذا الـ 1.5 تريليون دولار يُحسب باستخدام أسعار الصرف في السوق؛ وبالتالي يساهم في تعادل القوة الشرائية، ويتضخم إلى 4.1 تريليون دولار، الأمر الذي يجعل من روسيا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا وسادس أكبر اقتصاد في العالم. لا يعتبر أي من المقياسين دقيقاً تماماً – من المحتمل أن يكون أحدهما أقل من الواقع والآخر مبالغ في تقديره – لكن المقارنة تُظهر أن حقيقة الاقتصاد الروسي غير الاعتقاد السائد كلياً. على أي حال، غالباً ما يكون الناتج المحلي الإجمالي الخام مقياساً ضعيفاً للقوة الجيوسياسية، كونه لم يعد يُترجم إلى إمكانات عسكرية أو نفوذ دولي.
من المؤكد أن الاقتصاد الروسي لم يكن يلبي تطلعات المواطنين. فقد تراجعت المداخيل الحقيقية المتاحة للإنفاق بنسبة 10٪ اليوم عمَّا كانت عليه في العام 2013، مما قضى على ما يقرب من عقد من النمو. لكن مؤشرات الاقتصاد الكلي مستقرة بما يكفي للسماح لموسكو بإبراز قوتها بشكل جيد في المستقبل.
الكرملين وجَّه التجارة بعيداً عن الغرب.. ويتوقع أن تتجاوز التجارة مع الصين 200 مليار دولار بحلول العام 2024، أي ضعف ما كانت عليه في العام 2013
بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم؛ واحتلال شرق أوكرانيا في العام 2014، تسببت العقوبات الدولية وانخفاض أسعار النفط في انهيار اقتصاد البلاد. لكن في السنوات التي تلت ذلك، قلَّصت الحكومة إنفاقها وتكيفت مع انخفاض أسعار النفط، وأوجدت فوائض في الميزانية وأسست لصندوق مانحين متنامٍ. وتُقدر قيمة صندوق الثروة الوطني الروسي اليوم بنحو 185 مليار دولار؛ واحتياطاته من العملات الأجنبية بنحو 615 مليار دولار، بحسب تقديرات صدرت في آب/أغسطس 2021. كذلك وُضعت سياسة جديدة لاستبدال الواردات، استجابة للعقوبات الدولية؛ وبُعثت حياة جديدة في القطاع الزراعي، الذي تدر صادراته الآن أكثر من 30 مليار دولار سنوياً. كذلك أعاد الكرملين توجيه التجارة بعيداً عن الغرب، وتحديداً نحو الصين؛ الشريك التجاري الأول حالياً. ومن المتوقع أن تتجاوز التجارة مع الصين 200 مليار دولار بحلول العام 2024، أي ضعف ما كانت عليه في العام 2013.
ماذا عن اعتماد روسيا على الصناعات الاستخراجية؟ لا تزال مبيعات النفط والغاز تمثل حوالي 30-40 في المائة من ميزانية الحكومة، ما يعني أن التحول المستقبلي بعيداً عن الوقود الأحفوري سيكون مؤلماً. لكن من غير الواضح مدى قرب هذا المستقبل حقاً. فروسيا تنتج الطاقة بسعر منخفض لدرجة أنه من المرجح أن تتعرض الدول المصدرة الأخرى للضغط قبل أن ترى ميزانية روسيا تتقلص.
بالإضافة إلى ذلك، روسيا هي المورد الرئيسي للطاقة إلى الاتحاد الأوروبي؛ الذي يستورد من روسيا 41% من غازه الطبيعي، و27% من نفطه، و47% من الوقود الأحفوري الصلب. المشكلة التي تواجهها موسكو هي أن مواردها ليست مستدامة، أي أنها ستنضب في يوم ما. سيبلغ إنتاج روسيا من النفط ذروته في العقد المقبل- والبعض يعتقد أن بدأت بالفعل- ما يعني أن قدرة البلاد على تصدير النفط القابل للاستخراج بسهولة (وبالتالي الرخيص) ستصل إلى سقف.
الاتحاد الأوروبي يستورد من روسيا 41% من غازه الطبيعي، و27% من نفطه، و47% من الوقود الأحفوري الصلب
في الوقت نفسه، روسيا لا تزال من بين العشرة الأوائل في الإنفاق على البحث والتطوير في جميع أنحاء العالم رغم تخلفها عن الولايات المتحدة في مجال الابتكار التكنولوجي. علاوة على ذلك، تمتلك روسيا قطاعاً تكنولوجياً يكافح ولكنه قابل للحياة، وقد طورت نظائرها الخاصة بـ Facebook وGoogle ومنصات الإنترنت الشائعة الأخرى، وكلها ناجحة إلى حد ما داخل روسيا.
قوة ديموغرافية
من بين المفاهيم الخاطئة الأكثر شيوعاً حول روسيا أن ديموغرافية البلاد ستقيد قدراتها المستقبلية بشكل كبير. لقد فشلت مثل هذه الحتمية الديمغرافية تاريخياً في التنبؤ بثروات روسيا. وفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، سينكمش عدد سكان روسيا بنحو 7% بحلول العام 2050؛ المزيد من التوقعات المتشائمة ترى انخفاضاً بنسبة تصل إلى 11%. حتى في الحالة الأخيرة، ستظل روسيا الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في أوروبا وأوراسيا؛ وبهامش واسع. قد تتخلف عن البلدان الغربية المتقدمة للغاية من حيث متوسط العمر المتوقع ومعدلات الوفيات، لكن تلك الفجوات ضاقت إلى حد كبير منذ التسعينيات. ومن المؤكد أن البلاد ليست على شفا الانهيار الديموغرافي.
لا يتم تحديد القوى العُظمى الحديثة من خلال حجم سكانها؛ ولكن من خلال جودة الصحة العامة الناس، والمستويات التعليمية، وإنتاجية العمل، وغيرها من المؤشرات الأخرى. ولو حدث خلاف ذلك، لكانت دول مثل بنغلاديش وإندونيسيا ونيجيريا من بين أقوى دول العالم. وكما يقول الباحث الأميركي هال براندز: “كل الأشياء متساوية، يمكن للبلدان التي لديها ملفات تعريف ديموغرافية صحية أن تخلق ثروة بسهولة أكبر من منافسيها”. على هذه الجبهة، أظهرت روسيا تحسناً كبيراً منذ تسعينيات القرن الماضي، مع انخفاض معدل الوفيات وزيادة متوسط العمر وتحسين معدل الخصوبة. كذلك حققت تقدماً في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة ومقاييس إنتاجية العمل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. صحيح أن الركود الاقتصادي منذ العام 2015 أدى إلى إبطاء هذا الاتجاه، وأبطل بعض التقدم، لكن الوضع العام لروسيا قد تحسن بشكل كبير مع بداية القرن الواحد والعشرين.
لا شك أن هجرة الأدمغة تمثل مشكلة كبيرة، حيث يغادر العديد من ألمع الروس البلاد. ومع ذلك، كان من الصعب قياس تأثير هذا الأمر اقتصادياً. حتى في الوقت الذي يغادر فيه العديد من الروس المنتمين إلى الطبقة المتوسطة والذين يعتبرون أساسيين في اقتصاد المعرفة، تستفيد روسيا من الهجرة الكبيرة للباحثين عن عمل من الجمهوريات السوفيتية السابقة. يتكون الملف الديموغرافي لروسيا من مؤشرات مختلطة تُظهر تحسينات نوعية إلى جانب الانخفاض الكمي. وفي الوقت نفسه، فإن التوقعات الديموغرافية للعديد من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها هي إشكالية بنفس القدر، إن لم يكن أكثر من ذلك.
قدرات عسكرية
قبل أي اعتبار آخر؛ ستبقى روسيا قوة عسكرية لا يُستهان بها. لطالما كانت قدرات روسيا العسكرية – تاريخياً – هي أساس قوتها، تعوّض عن اقتصاد البلاد غير المتنوع نسبياً، وتسد الثغرات في المجال التكنولوجي، وتخفف من افتقار البلاد إلى الديناميكية السياسية. وهذا جزئياً هو سبب نجاح روسيا؛ في الماضي في الحفاظ على منافسات مطولة مع دول أقوى اقتصاديا، سواء كانت الولايات المتحدة أو الإمبراطورية البريطانية. فبعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها في أوائل حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي، تم إحياء القوة العسكرية الروسية من جديد – وحتماً ستتحسن في العقد المقبل، خصوصاً إذا ما أصرَّ صُناع السياسة الأميركيون تركيز انتباههم فقط إلى الصين.
قدرات روسيا العسكرية أساس قوتها حالياً وتاريخياً.. وسبب تفوقها في منافسات مطولة مع دول أقوى اقتصاديا
روسيا تظل النظير الأساسي للولايات المتحدة في مجال تكنولوجيا الأسلحة النووية. بصرف النظر عن حلف “الناتو”، فهي تمتلك أيضاً أقوى جيش تقليدي في أوروبا؛ أُعيد تشكيله بعد فترة من الإصلاحات العسكرية والاستثمارات منذ العام 2008. وقد تم تجاهل هذا التحول إلى حد كبير قبل عام 2014، وهو ما يفسر لماذا فاجأت التحركات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولاحقاً في سوريا، العديد من المحللين؛ وأخذتهم على حين غرَّة.
إن الجيش الروسي هو اليوم في أعلى مستوى من الجاهزية والقدرة على التنقل والإمكانيات التقنية منذ عقود. و”الناتو” يظل متفوقاً على الورق، لكن الكثير مرهون بالحرب، والتفوق الظاهر لـ”الناتو” لا يضمن النصر أو القدرة على ردع روسيا عبر مجموعة من النزاعات المحتملة. تمتلك روسيا أيضاً مجموعة مرنة من القوات الخاصة والمرتزقة وعملاء المخابرات العسكرية. هذا قبل النظر في مكانة الدولة كقوة رائدة في الفضاء أو قدراتها الواسعة في الحرب الإلكترونية، والتي تم إثباتها مؤخراً من خلال ما يُسمى بخرق SolarWinds، عندما اخترق المتسللون الروس العديد من الوكالات الحكومية الأميركية، وتجسسوا عليها.
بالتكيف مع تكافؤ القوة الشرائية وخصائص قطاعات الدفاع الذاتي مثل التي تتمتع بها روسيا، قدَّر المحللون أن روسيا تنفق ما بين 150 مليار دولار و 180 مليار دولار سنوياً على الدفاع، أكثر بكثير مما يوحي به سعر الصرف السوقي البالغ 58 مليار دولار. يتم إنفاق نصف ميزانية الدفاع السنوية لروسيا على شراء أسلحة جديدة وتحديث الأسلحة القديمة والبحث في التكنولوجيا العسكرية، وهي حصة أكبر بكثير مما تنفقه معظم الجيوش الغربية في هذه المجالات. علاوة على ذلك، تُعد هذه تقديرات متحفظة، لأن بعض النفقات الروسية تظل سرّية. باستخدام هذه الميزانيات السخية، طوَّر المجمع الصناعي العسكري الروسي العديد من أسلحة الجيل الجديد، من الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت إلى أسلحة الطاقة الموجهة (مثل الليزر)، وأنظمة الحرب الإلكترونية، والغواصات الحديثة والمتطورة، والدفاعات الجوية المتكاملة، إلى جانب الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية بأنواع مختلفة.
لا يخلو الجيش الروسي من المشاكل؛ ويبقى متخلفاً في بعض المناطق. من الناحية العملية، فإن روسيا في وضع جيد للبقاء فاعلاً مهيمناً في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي وتحدي المصالح الأميركية في مناطق أخرى، مثل الشرق الأوسط. تحتفظ روسيا بقدرات الجسر الجوي والبحري ما يسمح لها ويساعدها في نشر قواتها على مسافة ما من حدودها عند الضرورة. يبدو إنفاقها الدفاعي مستقراً عند المستويات الحالية، على الرغم من الصدمة الثلاثية (الركود الاقتصادي، وانخفاض أسعار النفط، والعقوبات الدولية). لا يزال الجيش الروسي يعتبر نفسه “مستضعفاً” نسبياً، لكنه أصبح أكثر ثقة في قدرته على ردع “الناتو” حتى بدون أسلحة نووية. ومن الصعب التنبؤ بنتيجة حرب طويلة بين القوات الروسية وقوات “الناتو”. في ظل هذه الظروف، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التوقف عن تجاهل روسيا باعتبارها مجرد “معطّل للخلل”؛ والاعتراف بها كخصم عسكري خطير، لناحية القدرات والنوايا.
ليست مجرد مشكلة بوتين
ترتبط رواية “التراجع الروسي” بفكرة أن الولايات المتحدة لديها مشكلة بوتين في المقام الأول؛ وأنه بمجرد أن يترك الرئيس الروسي منصبه، فإن السياسة الخارجية لبلاده ستصبح أقل حزماً. ومع ذلك، من غير المرجح أن يكون هذا هو الحال. لسبب واحد، أن بوتين يستطيع، وبشكل قانوني، أن يظل في منصبه حتى العام 2036، بفضل الاستفتاء الذي أجراه العام الماضي والذي يسمح له بخدمة فترتين أخريين مدتهما ست سنوات بعد انتهاء فترة ولايته الحالية في عام 2024.
ترتبط رواية “التراجع الروسي” بفكرة أنه بمجرد أن يترك بوتين منصبه ستصبح السياسة الخارجية لبلاده أقل حزماً
تشير الأبحاث التي أُجريت على القادة المشابهين إلى أنه بمجرد مغادرة بوتين – حتى لو كان أبكر مما كان متوقعاً – سيكون هناك احتمال ضئيل لتحقيق تحسن سياسي جوهري. في أغلب الأحيان، تستمر الأنظمة التي أنشأها مثل هؤلاء القادة القُدامى، أو تظهر ديكتاتورية مختلفة. تقل احتمالات أن تتبع الدمقرطة نظاماً مثل نظام بوتين – يديره زعيم شخصي أكبر سناً تمسك بالسلطة لمدة 20 عاماً أو أكثر – أقل من واحد من كل عشرة. كما أن تمديد حدود الفترة الرئاسية، كما فعل بوتين بعد استفتاء العام الماضي، هو أيضاً علامة سيئة. وفقاً لبيانات من مشروع الدساتير المقارنة، سعى 13 زعيماً في جميع أنحاء العالم إلى تمديد حدود المدة في الفترة من 1992 إلى 2009. في جميع الحالات باستثناء حالة واحدة، إما أن أنظمتهم إما لا تزال في السلطة أو انتقلت ببساطة إلى نظام استبدادي جديد بعد رحيل الزعيم.
هذا لا يعني أن روسيا محكوم عليها بالاستبداد أو أن تغيير الرئيس لن يكون مهماً. يُظهر السجل التجريبي أن الإجراءات التي يتخذها القادة الاستبداديون لضمان السيطرة – مثل تقويض المجتمع المدني وتفريغ المؤسسات التي يمكن أن تقيد سلطتهم – تخلق حواجز أمام ظهور الديموقراطية. وبالمثل، فإن مجرد التغيير في القيادة سيكون مهماً فقط على الهامش. ما لم يؤذن رحيل بوتين بتحول كبير في النخبة الحاكمة، فإن الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الروسية، مثل فكرة أن روسيا تحتفظ بالحق في مجال نفوذ في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، ستظل غير متوافقة مع قيم الولايات المتحدة وحلفائها. ببساطة، يجب على صُنَّاع القرار السياسي في أميركا الاستعداد لاحتمال أن تستمر ملامح السياسة الخارجية الروسية، وبالتالي ستستمر نية الكرملين في تقويض المصالح الأميركية ولفترة طويلة بعد مغادرة بوتين لمنصبه.
قوة المثابرة
على الولايات المتحدة أن تفكر في روسيا ليس كقوة تتراجع بل كقوة ثابتة ومستعدة وقادرة على تهديد مصالح أمنها القومي على مدى السنوات العشر إلى العشرين المقبلة على الأقل. حتى إذا أثبتت الصين أنها تمثل التهديد الأكثر أهمية على المدى الطويل، تبقى روسيا منافساً طويل المدى، وقادرة على تشكيل الشؤون العالمية والتأثير على المصالح الأميركية بشكل كبير. وبغض النظر عن مدى رغبة واشنطن في التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يجب أن تنظر في احتمالية اندلاع حرب روسية أوكرانية أخرى، أو صراع عسكري ناتج عن اضطرابات سياسية في بيلاروسيا، أو أزمات شبيهة بحرب ناغورنو كاراباخ عام 2020.
بين موسكو والصين أكثر من قضية مشتركة.. الحكومتان شكلتا شراكة استراتيجية قلموازنة الضغط الغربي ومنافسة الولايات المتحدة
مقارنة بالصين، تشكل روسيا أيضاً خطراً أكبر على الوطن الأميركي. فمن ناحية، هي تظل التهديد النووي الأبرز للولايات المتحدة، على الرغم من ترسانة الصين المتنامية من الأسلحة النووية الإستراتيجية. الأمر نفسه ينطبق على قدرة روسيا على الوصول إلى الولايات المتحدة القارية بصواريخ تقليدية بعيدة المدى. كما أن لروسيا المزيد من القوات المتمركزة في الخارج أكثر من الصين، مع قواعد في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط، مما يضع جيشها على مقربة منتظمة من القوات الأميركية وحلف “الناتو”. عندما يتعلق الأمر بالحرب غير المباشرة، فإن سجل موسكو في التدخل في الانتخابات والقرصنة يثبت أنها تستطيع وستستخدم التقنيات الناشئة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. ومن الجدير أيضاً التأكيد على أن الكرملين يمكن أن يعرض المصالح الأميركية للخطر بثمن بخس. كانت التدخلات العسكرية الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا محدودة وغير مكلفة؛ وكذلك الهجمات الإلكترونية وجهود التضليل.
القلق الأخير هو أن لموسكو أكثر من قضية مشتركة مع بكين. في الواقع، شكلت الحكومتان شراكة استراتيجية، فهما تتبادلان الدعم الفني والمادي لموازنة الضغط الغربي وتركيز مواردهما على التنافس مع الولايات المتحدة بدلاً من التنافس مع بعضهما البعض. كما نما تعاونهما الدفاعي والعسكري. وتأثير كل هذا يزيد التحدي المشترك ضد مصالح الولايات المتحدة.
حقوق روسيا
يجب على واشنطن تجاوز الخُرافة القائلة بأن روسيا دولة محاصرة، وتتعرض لهجمات تهدد بزوالها. في الحقيقة، هناك القليل من الأدلة على أن قادة روسيا يرون بلادهم بهذه الطريقة – على العكس من ذلك، فهم يعتبرون روسيا مركز القوة في منطقتها ولاعباً حازماً على مستوى العالم. أحداث مثل الانسحاب الأميركي الفاشل من أفغانستان تعزز تصور موسكو بأن الولايات المتحدة هي التي تتراجع. سيؤدي تجاهل هذا الرأي إلى خلق توقعات خاطئة لسلوك موسكو، مما يترك واشنطن وحلفائها في وضع ضعيف.
اتخذت إدارة بايدن خطوات في الاتجاه الصحيح. من بينها تركيزها على تعزيز المرونة الديموقراطية. من خلال رفع مستوى الأمن السيبراني كأولوية أمنية وطنية، وتعزيز البنية التحتية الحيوية، وتحسين النظم البيئية للمعلومات، واستئصال الفساد الذي تستخدمه روسيا لتخريب المؤسسات الديموقراطية، يمكن لواشنطن وحلفائها قطع مصدر رئيسي لنفوذ موسكو في الخارج. وفي الوقت نفسه، فإن جهود الإدارة لمواصلة الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، والتي يجب أن تمتد إلى الفضاء الإلكتروني والفضاء، ستضع الحواجز اللازمة لمواجهة طويلة الأمد.
للمضي قدماً، يجب على واشنطن أن تقاوم التركيز المفرط على الصين لدرجة إهمال القضايا المهمة الأخرى، مثل روسيا. فأولى التحليلات الخاصة بالأمن القومي التي أجرتها إدارة بايدن، في آذار/ مارس، ناقشت الصين بعمق كبير بينما خصصت بضع جمل قليلة فقط لروسيا. ولا بد من تصحيح هذا الخلل في التوازن.
لم يتراجع التهديد العسكري الروسي، لكن التمويل الذي خصصته واشنطن للتعامل معه قلَّ. ولـ”الناتو” دور مركزي في السعي لتعديل هذا الخلل. بدأ التحالف مؤخراً في تحديث وثيقته التوجيهية الرسمية، ويجب على واشنطن أن تضمن بقاء روسيا، وليس الصين، هي الأولوية الواضحة. يجب عليها أيضاً أن تواصل تشجيع حلفائها وشركائها الأوروبيين على تحمل المزيد من عبء الردع والدفاع في القارة. إن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان قد أعاد تنشيط الدعوات الأوروبية لتعزيز قدراتها الذاتية. لقد حان الوقت الآن، من خلال التنسيق الدقيق عبر الأطلسي، لاتخاذ خطوات حقيقية نحو تعزيز الركيزة الأوروبية داخل “الناتو”.
أخيراً، يجب أن تكون واشنطن أكثر جرأة في جهودها للدفاع عن الديموقراطية. قد تطغى الصين على طموحات روسيا الرقمية، ومع ذلك تعمل الأخيرة على تطوير علامتها التجارية الخاصة من الديكتاتورية الرقمية، المصممة جزئياً لتقويض الديموقراطية في جميع أنحاء العالم. تتطلب معالجة هذا التهديد أيضاً العمل مع شركاء ديموقراطيين متشابهين في التفكير من داخل المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، للتأكد من أن بكين وموسكو ليستا من يكتب القواعد والمعايير الرقمية للمستقبل.
إن قوة الجاذبية للتهديد الذي تشكله الصين الصاعدة قوية بشكل مفهوم، لكن الولايات المتحدة قادرة على التعامل مع قوتين في آن واحد: الصين تهديد متسارع، وروسيا تهديد مستمر. عند الحديث عن نهجهم تجاه روسيا، فإن مسؤولي إدارة بايدن مغرمون بالقول إن الولايات المتحدة “يمكنها السير ومضغ العلكة في الوقت نفسه”. الآن سيتعين عليهم إثبات ذلك.
-النص مُترجم عن “الفورين أفيرز”
(*) الأول مدير برنامج الدراسات الروسية في CNA وزميل أول في مركز الأمن الأميركي الجديد. والثاني زميل أول ومدير برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأميركي الجديد.