حقوق المودعين المسلوبة تُغيّر وجه لبنان إلى الأبد

ستحتدم المعارك في لبنان أكثر كلما اقتربت ساعة الحقيقة. ساعة يؤجل أوانها السياسيون والمصرفيون ومعهم حاكم مصرف لبنان ريثما ينفد كل واحد منهم بريشه اذا استطاع الى ذلك سبيلاً. الفصل الأخير من المعارك كان حول مشروع قانون ضبط السحوبات والتحويلات وتنظيمها، أو ما يعرف بمشروع "الكابيتال كونترول".

شهد المجلس النيابي سقوط مشروع “الكابيتال كونترول” الذي أعده حاكم مصرف لبنان بالتعاون مع جمعية المصارف والنائب نقولا نحاس وتبناه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي.

القانون أكثر من ضروري، أمس قبل اليوم، لأن الدولارات الباقية في مصرف لبنان لا تفي الا بأقل من 14 في المائة من المطلوب لا سيما الودائع التي تزيد على 100 مليار دولار. علماً بأن البلاد بحاجة إلى دولارات مليارية اضافية دائماً لزوم الاستيراد وتشغيل مرافق الدولة وصيانتها. أما ما تقدمه المصارف للمودعين وفق تعاميم البنك المركزي، فهو مجرد فتات لا يُذكر قياساً باجمالي الحقوق والمستحقات. فالتعميم الصادر اليوم (الخميس) على سبيل المثال، الذي يرفع سعر دولار الوديعة من 3900 الى 8 آلاف ليرة، يعني، “هيركات” بنسبة 68 في المائة عند كل سحب شهري، تُسلَب من حق المودع قياساً بسعر الدولار في السوق الموازية اليوم (تجاوز أحياناً عتبة الـ 25 ألف ليرة). أما السقف المحدد للسحب فهو “كابيتال كونترول” غير قانوني في ظل عدم وجود قانون مُصادق عليه في المجلس النيابي.. ونتيجته انه لا يمكن سحب إلا 24 مليون ليرة شهرياً (سقف الحد الأقصى هو ثلاثة آلاف دولار شهرياً بموجب التعميم)، أي أقل من الف دولار بسعر صرف الدولار في التعاملات الموازية. الف دولار فقط حتى لو كانت وديعتك بعشرات أو مئات آلاف أو ملايين الدولارات.. يا بلاش!

لم يأتِ مشروع “الكابيتال كونترول” على ذكر مليارات الدولارات التي خرجت من النظام المصرفي بعد اندلاع الأزمة في 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019. تلك التحويلات كانت لنافذين وسياسيين جشعين فضّلوا أنفسهم وعائلاتهم على بقية اللبنانيين (القُطعان) البؤساء

سقط مشروع “الكابيتال كونترول” لخمسة أسباب على الأقل:

السبب الأول، يحاول المشروع “ليلرة” الودائع بوعد تسليمها لأصحابها، كلياً أو جزئياً، بالليرة بدلاً من الدولار وعلى مراحل قد تمتد لسنوات طويلة.. وربما طويلة جداً جداً يفنى معها جيل كامل في الانتظار البائس. و”الليلرة” تفرض حكماً اقتطاعاً قسرياً (هيركات) بنسب كبيرة كلما تدهور سعر الصرف أكثر فأكثر. وهي خيار يفرض طباعة الليرة في كميات مهولة. فعلى افتراض البدء بـ”ليلرة” 15 في المائة فقط من الودائع الدولارية وتسليمها لاصحابها في سنوات قليلة، فان الكتلة النقدية المطلوبة بأسعار صرف اليوم (25 الف ليرة لكل دولار) ستبلغ 375 ألف مليار ليرة (هي نحو 50 الف مليار حالياً). فيرتفع اجمالي تلك الكتلة 700 في المائة على الاقل. فاذا كان متوسط التضخم قد ارتفع 700 في المائة في مقابل ارتفاع الكتلة النقدية 700 في المائة منذ بداية الأزمة، علينا ان نتخيل الحلقة الجهنمية الثانية (بفعل “ليلرة” الودائع) وأثرها في سعر الصرف المباشر بالنموذج الفنزويلي لا محالة.

السبب الثاني، يحاول المشروع حماية المصارف بحيث لا تتعرض لدعاوى المودعين (في الداخل والخارج) الذين يتهمون المصارف ومُلّاكها بسوء الأمانة. فالمودع أودع أمواله في المصرف التجاري وليس في مصرف لبنان ولا علاقة له بدين الدولة العام أو سندات اليوروبوند. أما حماية المصارف فترمي الى ابراء ذمتها من أكبر عملية تبديد لودائع الناس في التاريخ الحديث وليس في تاريخ لبنان الحديث!.

السبب الثالث، يطلق المشروع يد مصرف لبنان في كيفية ضبط التحويلات ووضع سقوف للسحوبات. فالاعتراض ليس لأن البنك المركزي غير معني (هو معني حكماً) بل لأن حاكمه رياض سلامة، وما أدراك من هو سلامة بالنسبة لشرائح من اللبنانيين تُحمّله وَحدَهُ مسؤولية الأزمة وتُعفي زُعمَاءها منها، بما يشبه طمر رأس النعامة الغبية في الرمل الطائفي!

السبب الرابع، لم يأتِ المشروع على ذكر مليارات الدولارات التي خرجت من النظام المصرفي بعد اندلاع الأزمة في 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019. تلك التحويلات كانت لنافذين وسياسيين جشعين فضّلوا أنفسهم وعائلاتهم على بقية اللبنانيين (القُطعان) البؤساء. عدم استرجاع تلك التحويلات يعنى الموافقة العلنية السافرة على أن من ضرب ضرب ومن هرب هرب ولا عزاء لكل الآخرين الملتاعين على حقوقهم المسلوبة. فليضربوا رؤوسهم في الحائط!

السبب الخامس، لم يُقدَّم المشروع ضمن خطة مالية واقتصادية ونقدية كاملة كما يفضل صندوق النقد الدولي. والخطة تقضي، مبدئياً، وضع موازنات وبرامج وخططاً اصلاحية تؤدي إلى تصفير العجز؛ زيادة الحوكمة والشفافية؛ بدء مفاوضة الدائنين لا سيما الخارجيين وحملة سندات “اليوروبوندز” البالغة قيمتها 35 مليار دولار؛ هيكلة القطاع المصرفي بما في ذلك كيفية معالجة معضلة المعضلات، أي خسائر الودائع؛ الاتفاق على سعر صرف لليرة، بحيث يتعادل ميزان المدفوعات بين الداخل من الدولارات والخارج منها، أو يعود الى سابق عهده في الفوائض، حتى لا تذهب قروض صندوق النقد الدولي سدىً.

عندما يقول الساسة إن ودائع الناس مقدسة ولا تفريط فيها، فانهم يكذبون كما يتنفسون، لأن الادعاء يعني بيع الذهب وأصول الدولة لسداد بعض الودائع لأصحابها. استحالة البيع نابعة من استحالة تصفية الدولة ومقوماتها على هذا النحو، وان فعلوا ستتلاشى الدولة أكثر

وهذه المعضلة تطرح أسئلة، أولها، هل يتوقع المودعون ان تقف الطبقة السياسية ومصرف لبنان الى جانبهم ضد المصارف؟ الجواب يكمن في تضامن تلك الاطراف مجتمعة منذ ما قبل الأزمة وخلالها حتى تاريخه. ما من مؤشر يشي بتفكك التضامن (الاجرامي) حتى لو ظهر طرف سياسي من هنا أو هناك يدعي زوراً براءته أكثر من غيره من دم الصديق. أجل، في عهود الجميع تبددت الودائع.

إقرأ على موقع 180  هل تبقى بيروت ليبقى لبنان؟

سؤال آخر: كيف السبيل لإيجاد دولارات بعشرات المليارات لسدادها للمودعين الرافضين لـ”الليلرة”؟

 فالخطة الحكومية تدعي ان الخسائر تبلغ 57 مليار دولار (أكثر أو أقل قليلاً). على أساس التفاصيل التالية:

 – ما بقي من الودائع نحو 13 ملياراً في مصرف لبنان (وربما أقل).

– قيمة مخزون الذهب 17 ملياراً.

 – يبقى من قيمة سندات “اليوروبوندز” التي بحوزة المصارف المحلية نحو مليارين بعد اجراء “هيركات” بنسبة 75 في المائة من قيمتها الاسمية البالغة 8 مليارات.

– قروض البنوك الممنوحة للقطاع الخاص تبلغ 26 ملياراً سيبقى منها 15 ملياراً بعد احتساب المتعثر والمنعدم السداد.

 النتيجة: 13+17+2+15=47 مليار دولار، مقابل 104 مليارات هي قيمة الودائع.

104-47= 57 مليار دولار هي الخسائر المقدرة والتي يجب توزيع أجزاء أساسية منها على عدد من الأطراف، على أن الخلاف يتمحور حول من يتحمل أكثر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين.

عندما يقول الساسة (وبإجماع منقطع النظير) إن ودائع الناس مقدسة ولا تفريط فيها، فانهم يكذبون كما يتنفسون، لأن الادعاء يعني بيع الذهب وأصول الدولة لسداد بعض (وليس كل) الودائع لأصحابها. استحالة البيع نابعة من استحالة تصفية الدولة ومقوماتها على هذا النحو، وان فعلوا ستتلاشى الدولة أكثر.

إذاً، ماذا وراء الأكمة؟ وراءها أن هناك في السلطة من يعتقد أن رياض سلامة “سيُدبّرها بمعرفته”، كما فعل دائماً. هو ينشد المستحيل او المستعصي في الاصلاح الجذري وعودة الثقة كاملة، داخلياً وخارجياً، وانطلاق الاقتصاد من جديد بوثبات نمو تسمح باعادة تكوين الودائع تدريجياً.. هراء أم حلم؟ نحن أمام مستحيل + صعب + مشروط + ضرب مندل + افتراض نزول وحي الرحمن على المتصارعين + تضحيات سخية طوعية من الجميع + تشمير كل سواعد “حي على خير العمل”!

أما بعض الواقع الآن فلا يشي إلا بالآتي: انت تطعن في قانون الانتخاب وانا أسقط التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. انت تسقط الـ”كابيتال كونترول” وأنا أذكرك بهدرك مليارات الكهرباء وفسادها. أنت تريد المساس بكياني “الميثاقي” المزعوم وأنا أعطل الحكومة والبلد. أنت تريد الامعان في هيمنتك ومصادرتك للقرار الوطني وأنا أطلب اللامركزية الموسعة الإدارية والمالية او الفدرالية. أنت تستقوي بخارج وأنا استنهض نقيضه. أنت تحمل السلاح وترفض تسليمه وأنا سأعود الى التعامل مع الشيطان لو اقتضى الأمر لحماية نفسي من صلفك.. أو دوننا التقسيم.. “خلاص”!

في المحصلة، الودائع ليست أولوية لديهم الا للمناورة. معظمها تبخر الى غير رجعة ولن يستطيع المودعون اجبار المصرفيين على الدفع من جيوبهم وثرواتهم وفقاً لميزان القوى القائم. ولن يستطيع المودعون جرد ثروات السياسيين ومعرفة من اين لهم هذا بغية استرجاع حقوق منهم ومحاسبتهم على ما سرقوا. ولن يستطيع المودعون تشكيل حزب واحد يسقط هيمنة من سلبهم أموالهم، فما تجمعه حقوق الافراد تفرقه حقوق الطوائف.

تغيّر وجه لبنان، وربما سيتغير إلى الأبد بعدما سقطت اساطير الديموقراطية والليبرالية والإقتصاد الحر والقضاء العادل ودولة المؤسسات وحكم القانون.. سقطت بضربات الأمر الواقع. فاللبنانيون في غابة. القوي يفترس الضعيف. الاعتراف بذلك يعني التسليم بنهاية قصة لبنان الكاذبة.. والبدء بكتابة قصة جديدة أكثر واقعية بكثير من الدموع والآلام وعذابات الأنام.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  لبنان يفتح أبوابه أمام "الرفيق سبوتنيك"