في ماهيّة الإسلام .. النبي الأُمّي يقرأ ويكتب (20)

تقول السرديّة الإسلاميّة التقليديّة إنّ النبي محمّد كان أمّيّاً، وتُعَرّف ذلك بمعنى أنّه كان جاهلاً بالقراءة والكتابة. ما أصل هذه الفكرة، وهل مصدرها القرآن أم خيال العلماء؟ وهل هدفت إلى تعريفنا حقاً بالنبي، أم هناك غرضٌ آخر من وراءها؟

اختلف العلماء والمؤرّخون المسلمون حول كثير من عقائد الإسلام وتاريخه، وأكثر الإختلاف نجده في كتب التفسير. هناك مواضيع بدأ النقاش حولها في فترة مبكرة جدّاً (القرن الأوّل والثاني من الإسلام)، أو ظهرت في مراحل متأخّرة. هناك أمور تغيّر موقف العلماء منها عمّا كان في القرنين الأول والثاني (كما في موضوع عصمة النبي الذي عالجته في مقال سابق). هناك أيضاً أمور اختفى الخلاف حولها مع الوقت وحلّ محلها نوعٌ من الإجماع (مثل موضوع تجميع القرآن الذي عالجته أيضاً في مقال سابق). من الأمور التي لم ينتهِ الخلاف حولها هي أمّيّة النبي.

إصرار العلماء المتأخّرين على أنّ النبي محمد كان جاهلاً بالقراءة والكتابة هو مغاير لما يقوله القرآن في هذا الموضوع. مثلاً، تقول سورة الأعراف (الآيتان 157-158):

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

لنضع جانباً موضوع أنّنا لا نجد في التوراة أو الإنجيل ذكر لنبيّ أمّي لا يعرف القراءة والكتابة. اتّخذ بعض العلماء المسلمين من عبارة  “النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ أساساً لأميّة النبيّ. لكن الآيات النادرة من التوراة أو الإنجيل التي استشهدوا بها – مثل الآيتين 17 و18 من الإصحاح 18 من سفر التثنية لا تقول ذلك: فقالَ ليَ الرّبُّ: “أحسَنوا في مَا قَالُوا. سأُقيمُ لهُم نبـيّاً مِنْ بَينِ إخوتِهِم مِثلَكَ وأُلقي كلامي في فمِهِ، فيَنقُلُ إليهِم جميعَ ما أُكَلِّمُهُ بهِ ..”. حتّى الأخبار التي اخترعها البعض (ومن بين هؤلاء صحابة وتابعون) والتي ليس لها أي أساس توراتي أو إنجيلي، والتي بزعمهم تنقل “المضمون الحرفي” لذكر النبيّ محمّد في التوراة والإنجيل لا تشير هي ايضاً إلى أنّه لا يعرف القراءة والكتابة (يمكن مراجعة بعض هذه الأخبار عند الثعلبي مثلاً، في تفسيره للآية 157 من سورة الأعراف).

الموضوع الأهمّ هو معنى عبارة “النبيّ الأمّي” في القرآن، وللإجابة عليها، علينا النظر في استخدام مماثل في القرآن لكلمة “أمّي”، علّ ذلك يكون منطلق فهمنا لها، ونجد ذلك في أربع حالات:

– “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ. فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ(سورة البقرة 78-79).

– “فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ: أَأَسْلَمْتُمْ؟ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ، وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ، وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” (سورة آل عمران 20).

– “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ! وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (سورة آل عمران 75).

– “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ” (الجمعة 2).

لنبدأ بالآية 20 من سورة عمران. عبارة “وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ” تشير إلى مفارقة بين من أوتوا الكتاب وبين الأميّين. هذا لا يشير بتاتاً إلى أنّ الأميّين لا يعرفون القراءة والكتابة، وأنّ أهل الكتاب يعرفون القراءة والكتابة. المفارقة واضحة بين من لهم كتاب من الله (لذلك سُمّيوا أهل الكتاب)، ومن لم يحصل له ذلك بعد (ويسمّيهم القرآن بالأمّيّين). من هنا، عبارة وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ”، وهذا خطاب موجه إلى بعض أهل الكتاب الذين لا يتبعون ما يقوله الكتاب، وليس ذلك عن عدم قدرة على قراءة الكتاب، بل كون علمهم به هو نتيجة لظنّ وأمنية لما يقرؤون فيه، أو لتحريف له كما تقول الآية التالية لها: “فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ..”، وهي دليل قاطع على أنّ الأمّيّة هنا ليست في القدرة على القراءة والكتابة بل في عدم الإمتثال لما يقوله الكتاب أو إختراع وحي آخر ليس له علاقة بالكتاب.

كذلك الأمر في الآية 2 من سورة الجمعة: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ..“. هذه العبارة تعني أنّ الأمّي من لم يكن له بعد كتاب أو رسول من الله، وليس هناك دليل في القرآن أنّها تعني من لا يعرف القراءة والكتابة.

حتّى في سورة العنكبوت (الآيتان 47-48)، نجد الخطاب أدناه:

“وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ، فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ. وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.”

وهذا إنّ دلّ على شيء، إنما على أنّ النبي لم يكن مُلمّاً بالوحي وكتابته قبل أن ينزل القرآن عليه. هذا التحديد الدقيق لا يعني بتاتاً أنّه لم يكن يجيد القراءة والكتابة.

ما نجده في التراث الإسلامي المتأخّر عن جهل النبي محمد بالقراءة والكتابة هو رأي أسقطه العلماء على النبي لأنّهم تصوّروا أن معرفته بالقراءة والكتابة ستثير الشكوك حول القرآن، وربطوا صدقه كنبي بذلك. ونتج عن ذلك سرديّة حول أميّة النبي تنقاد إلى ضرورات العقيدة لا إلى حقائق التاريخ

ويمكن لنا أيضاً أن نضيف إلى ذلك أنّ ما نعرفه من المصادر الإسلاميّة يشير إلى براعة كثير من الصحابة بالكتابة والقراءة (أمثال أبو بكر وعلي بن أبي طالب ومعاوية وزيد بن ثابت). إذاً، عندما يخاطب القرآن محمّد وأصحابه ويصفهم بالأمّيّين، لا يمكن لهذه العبارة أن تعني أن هؤلاء لا يعرفون القراءة والكتابة. من هنا نرى تفاهة ترداد العديد من علماء التراث أنّ العرب لقّبوا بالأمّيّين لأنّهم لم يعرفوا القراءة والكتابة!

إقرأ على موقع 180  لماذا إصرار إسرائيل على حرمان المقدسيين من أرضهم وحقوقهم؟

إذا نظرنا في كتب التفسير، نجد خلافاً كبيراً حول معنى كلمة “أمّي” وأصلها. إن دلّ ذلك على شيء، إنما على حيرة وضياع عند الكثير من الصحابة والتابعين الذين تنطّحوا لتفسير القرآن عن غير علم، فحاروا وحيّروا. إذ لو كان رأيهم مبنياً على علم، لما كان هناك من خلاف بينهم. مثلاً، في موضوعنا هذا، نجد البعض يقول بأنّ كلمة “الأمّي” تشير إلى الجهل بالقراءة والكتابة. غيرهم يفترض أنّها مأخوذة من “الأمّة”؛ آخرون يصرّون على أنّها أتت نسبة إلى أمّ القرى، أي مكّة؛ والبعض يذهب إلى تعريفها بعدم وجود وحي بعد.

يبدو أنّ ارتباط عبارة “الأمّي” بعدم وجود وحي ورسول بعد هي الأكثر انتشاراً في العصر الأوّل، كما نجد مثلاً في تفسير الطبري عندما ينقل عن الصحابي عبد الله بن عبّاس قوله: “الأمّيّون: العرب كلّهم، من كَتَب منهم ومن لم يَكْتب، لأنَّهم لم يكونوا أهل كتاب”. وفي مكان آخر، ينقل الطبري عن عبد الرحمن بن زيد (ت. 798) قوله: “إنما سميت أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم الأمّيّين، لأنّه لم ينزل عليهم كتاباً”. لكن رأي الطبري الشخصي، وكثير من المفسّرين المتأخّرين، أنّ “الأمّي عند العرب هو الذي لا يكتب”. الأمر ليس بهذه السهولة. من الواضح أنّ عبارة “أمّي” في أماكن أخرى في القرآن لا تعني بتاتاً الجاهل بالقراءة والكتابة، لذلك نجد الطبري يناقض نفسه حين يقول في مكان آخر يجبره السياق عليه: الأمّيّون هم “الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب”.

لماذا هذا التناقض حول شيء يبدو واضحاً وبديهياً في نصّ القرآن؟

الجواب هو أنّ متطلّبات العقيدة أعمت بصيرة أمثال الطبري. الإقرار بأنّ النبي كان عالماً بالقراءة والكتابة ستقود برأيهم إلى نوع من الشكّ بأنّه هو من كتب الوحي وزعم أنّه من الله. إذاً، من أجل الدفاع عن قدسيّة القرآن المطلقة، أُجبر النبي أن يصبح جاهلاً بالقراءة والكتابة.

ونجد مثلاً لذلك أيضاً عند الشيعة الإثني عشريّة، والتي كان إعتقاد بعض علمائها في المرحلة الأولى أنّ النبي كان ملمّاً بالقراءة والكتابة. مثلاً، يقول القمّي (ت. 940) في تفسيره للآية 2 من سورة الجمعة نقلاً عن الإمام جعفر الصادق (ت. 765): “كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسولاً [من قبل]، فنسبهم [الله] إلى الأمّيّين”. وينقل الصفّار (ت. 903) في كتابه “بصائر الدرجات” عن الإمام محمّد الجواد (ت. 835) أنّه قال: “والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو بثلاثة وسبعين لساناً. وإنما سمي الأمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من أمّهات القرى، وذلك قول الله تعالى في كتابه: ” لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” (سورة الشورى 7).” لكن مع الوقت، تغيّر موقف علماء الإثني عشريّة من موضوع أمّية النبي، وخلق هذا الأمر مشكلة لهم عالجوه بحلّ يرضي قناعتهم الجديدة ويحفظ ماء وجه أئمّتهم. في تفسيره للآية 48 من سورة العنكبوت – وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ”، يقول الشيخ الطبرسي (ت. 1154) – نقلاً عن الشريف المرتضى (ت. 1044): “هذه الآية تدلّ على أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. أمّا بعد النبوّة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالماً بالكتابة والقراءة، وظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة دون ما بعدها”.

إذاً، وجد الشريف المرتضى مخرجاً لبقاً للتناقض بين الرأيين، وحدّد فترة “أمّيّة” النبي بما قبل الوحي.

ويمكننا مقارنة فكرة أمّيّة النبي بمعتقد أنّ مسيح بني إسرائيل يجب أن يكون من نسل داود، فكان همّ المسيحيّين الأوائل التأكيد على أنّ عيسى – حتى يكون المسيح المنتظر – هو من نسل داود عبر أبيه يوسف النجّار (وهو ما نجده في إنجيل متّى وإنجيل لوقا)؛ كون مريم كانت من نسل هارون. لكن في ما بعد، خلق هذا الأمر مشكلة ضخمة للمسيحيّين القائلين بأنّ عيسى المسيح هو ابن الله وليس له أب آدمي. لم يكن لهم قدرة على تغيير ما كتبه المسيحيّون الأوائل في الأناجيل، فكان المخرج في “توضيح” علاقة المسيح بيوسف.

إذاً، ما نجده في التراث الإسلامي المتأخّر عن جهل النبي محمد بالقراءة والكتابة هو رأي أسقطه العلماء على النبي لأنّهم تصوّروا أن معرفته بالقراءة والكتابة ستثير الشكوك حول القرآن، وربطوا صدقه كنبي بذلك. ونتج عن ذلك سرديّة حول أميّة النبي تنقاد إلى ضرورات العقيدة لا إلى حقائق التاريخ.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إسكات السيّد الحيدري.. غفلة تكتيكيّة أم خطأ استراتيجي؟