لا يريد الإحتلال الفرنسي للجزائر الذي دام نحو 132 عاماً، أن يغادر الذاكرة الفرنسية أو الجزائرية على حدّ سواء، خصوصاً حين تلوح في الأفق بعض المساعي لمعالجة هذا الملف الشائك والمعقّد والمحزن، وقد جرت محاولات لإبرام “معاهدة صداقة بين البلدين” في إطار مشروع العدالة الإنتقالية الدولية، التي تقتضي كشف الحقيقة كاملةً، فما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟ وكيف حصل؟
لا بد من الإشارة أولاً إلى أن المساءلة على ما حصل يجب أن تأتي في إطار تسوية شاملة تقوم على جبر الضرر المادي والمعنوي والتعويض الشخصي للضحايا وأسرهم وإصلاح العلاقات بين البلدين وإرسائها على أسس جديدة أساسها الإحترام المتبادل وحق تقرير المصير، خصوصاً بعد مصالحة تاريخية وفقاً للقواعد الآمرة للقانون الدولي المعاصر الواجبة الأداء والتنفيذ، والتي يقال عنها باللاتينية (Jus Cogens). يتطلّب ذلك أيضاً إعترافاً من جانب الفرنسيين على نحو واضح وصريح واعتذاراً رسمياً، خصوصاً أن جرائم قد ارتُكبت ومجازر قد وُثّقت بحق مئات الآلاف من الجزائريين، مقابل علاقات جديدة أساسها التسامح والتعايش والتواصل الإنساني في إطار الذاكرة المشتركة.
ولعلّ مناسبة هذا الحديث هو الأزمة الفرنسية – الجزائرية التي اندلعت مؤخّراً على خلفية تصريحات أدلى بها إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي في 30 سبتمبر/أيلول 2021 خلال لقائه مجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية وفرنسيين من المعمّرين السابقين في الجزائر، حين خاطبهم قائلاً “إن الجزائر قامت بعد إستقلالها العام 1962 على إرث الماضي، مستغلّة ذكريات الحرب الدموية”. وفي كلام خارج الدبلوماسية قال ماكرون إن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون “رهينة نظام متحجّر”، وأنه محاصر “بسبب هيمنة العسكر على السلطة وصناعة القرار”، وطعن ماكرون بوجود هويّة جزائرية أصلاً قبل إحتلال فرنسا للجزائر العام 1830، وحاول أن يغمز الجزائريين من قناة أنهم يتناسون فترة الحكم العثماني للجزائر (1514 – 1830).
خشية فرنسا من منافسة الصين وروسيا، الدولتان اللتان لهما علاقة تاريخية مع الجزائر منذ استقلالها ومع دول أفريقية عديدة، وهو ما يؤثر على مصالح فرنسا في القارة الأفريقية، ناهيك عن العلاقات الألمانية – الجزائرية الآخذة بالتطور، الأمر الذي أثار حساسية الفرنسيين أيضاً
وكانت ردّة الفعل الجزائرية إزاء تصريحات ماكرون شديدة حيث رفضت التدخّل في الشؤون الداخلية، بل اعتبرها الرئيس تبّون “لا مسؤولة وسطحية ومغرضة”، وتحمل مفهوماً قائماً على “الهيمنة المبتذلة” للعلاقات بين الدول، وهو نسخة تبريرية للإستعمار على حساب النظرة التحرّرية التي تؤكد شرعية الكفاح الوطني، إذْ لا يمكن لأي شيء أن يغفر لقوّات الإستعمار الفرنسي جرائم الإبادة الجماعية ضدّ الإنسانية، والتي لا تسقط بالتقادم. وعلى إثرها، استدعى تبّون، السفير الجزائري في باريس للتشاور معه وقرّر لاحقاً عدم عودته إلى مركز عمله ما لم تعتذر فرنسا.
خمسة أسباب تقف وراء إستفزاز الذاكرة المشتركة:
أولها؛ تأييد فرنسا للحراك الشعبي الجزائري الذي أجبر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على تقديم إستقالته في 2 نيسان/ إبريل 2019، وهو الحراك الذي استمرّ لأسابيع طويلة وعلى نحو متعاظم ومتجدد للمطالبة بالإصلاح منذ شباط/فبراير 2019، وعلى الرغم أن التأييد كان إعلامياً وغير رسمي، إلاّ أن الحكومة الجزائرية شعرت بعدم الإرتياح، بل بضيقٍ منه، الأمر الذي يُفَسّر في جزء منه رد الفعل النفسي الذي حفّز الذاكرة التاريخية ضدّ إدارة ماكرون، على خلفية الإرتكابات الفرنسية.
ثانيها؛ تطورات الملف الليبي حيث اختلفت توجهات الجزائر عن التوجهات الفرنسية، الأمر الذي أحدث عدم رضا فرنسي ونوع من عدم التفاهم بين البلدين، خصوصاً في الموقف بشأن الدور التركي في ليبيا، والذي اقترب سياسياً من الجزائر وإن اختلف في شقّه العسكري وإرسال المرتزقة، وهو ما عارضته فرنسا بشدّة وأدّى إلى تصدّع العلاقات الفرنسيّة – التركية، لا سيّما مطالبة فرنسا، تركيا بتقديم إعتذار بشأن مذابح الأرمن في مطلع القرن العشرين، والتي ما تزال تركيا ترفض الإعتراف بها.
ثالثها؛ الإنقلاب الذي حصل في مالي، والذي حسبه الفرنسيون بتدبير وإيحاء ودعم غير مباشر من الجزائر، وهو ما يمكن أن يلحق ضرراً بليغاً بمصالح فرنسا الحيوية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء الجزائرية وهي مجاورة للنيجر وموريتانيا والسنيغال وغينيا وبوركينو فاسو، وأنها المصدر الأساسي لتوريد اليورانيوم إليها والذي تستخدمه في العديد من الصناعات الحربية والمدنية.
رابعها؛ خشية فرنسا من منافسة الصين وروسيا، الدولتان اللتان لهما علاقة تاريخية مع الجزائر منذ استقلالها ومع دول أفريقية عديدة، وهو ما يؤثر على مصالح فرنسا في القارة الأفريقية، ناهيك عن العلاقات الألمانية – الجزائرية الآخذة بالتطور، الأمر الذي أثار حساسية الفرنسيين أيضاً.
خامسها؛ موضوع الهجرة الذي أُثير مؤخراً بطريقة إستفزازية، فمن جهة هناك ضغوط لإعادة مهاجرين غير شرعيين، ترفض الجزائر عودتهم، واندلع الخلاف للتفريق بين المهاجر الخطر والمهاجر المعارض، وهو تفريق له بعد سياسي. ومن جهة أخرى، تخفيض منح التأشيرات للجزائريين ووضع ضوابط للحد من ذلك، وهذا الأمر شمل المغاربة والتونسيين، وأثار حساسيات وردود فعل ضد الإجراءات الفرنسية. ولعلّ إقدام ماكرون على مثل هذا الإجراء يأتي في إطار توازنات وضغوط داخلية، وذلك قبل أشهر من الإنتخابات الفرنسية، وتنازلاً لليمين واليمين المتطرّف.
يحتاج طي صفحة الماضي الإستعماري الفرنسي إلى شجاعة فرنسية وإرادة سياسية وموقف أخلاقي عالي التجرّد والموضوعية والحساسية الإنسانية، لكي “يعترف الأبناء عمّا اقترفه الآباء”، لإغلاق هذا الملف والتطلّع إلى المستقبل، كما يحتاج إلى شجاعة جزائرية وسمو أخلاقي يتّجه نحو التسامح من جانب “الأبناء لما أصاب الأجداد والآباء والأجيال التي تلتهم من أذى”، دون نسيانه، ليبقى ماثلاً في ذاكرة الأجيال
وإذا كانت هذه خمسة أسباب وراء اندلاع الأزمة، سواء بشكل منظور أو غير منظور، فهناك خمسة مطالب تحفّز الذاكرة الجزائرية باستمرار:
أولها؛ قضية المفقودين التي ما تزال عالقة بما فيها استعادة رفات شهداء المقاومة الجزائرية، حيث سيصادف خلال الفترة القريبة المقبلة مرور 60 عاماً (17 أكتوبر/تشرين الأول 1961) على إطلاق النار على متظاهرين جزائريين في فرنسا وسقوط أعداد كبيرة من القتلى بينهم.
ثانيها؛ إستعادة الأرشيف الوطني الجزائري والذي تم الإستحواذ عليه من جانب فرنسا. وعلى الرغم من المطالبات الجزائرية إلاّ أن الأمر ظلّ في إطار الوعود والمماطلات وعدم التقدم بجدية لإنجاز هذا الملف، وكانت فرنسا قد شرّعت قانوناً في العام 2006 أدرجت فيه الأرشيف كجزء من الأملاك العمومية.
ثالثها؛ دفع تعويضات عن ضحايا الألغام الفرنسية في الجزائر، والتي راح ضحيّتها عدّة آلاف، فهي ما تزال تقتل الجزائريين على الرغم من تدمير ملايين منها. كما تطالب الجزائر بتعويض ضحايا التجارب النووية التي أجرتها فرنسا في منطقة رقان (جنوبي الجزائر) خلال فترة بين 1952-1962 فما زالت إشعاعاتها النووية مؤثرة حتى الآن وتسببت في تشوهات خلقية وسرطانات وأمراض مستعصية، إضافةً إلى تلويث الهواء والماء. وكان صديقنا الراحل عبد الكاظم العبودي الذي عمل في الجزائر ونال الجنسية الجزائرية قد وثّق جرائم فرنسا النووية في الصحراء الجزائرية.
رابعها؛ تقديم إعتذار رسمي للجزائريين من جانب فرنسا، إضافة إلى تعويضات مادية ومعنوية عن الأضرار التي لحقت بالجزائريين جرّاء الإحتلال الفرنسي. فبعد التصريحات التي أثارت أزمة دبلوماسية بين البلدين حاول ماكرون تجاوزها بإصدار بيان عن قصر الإليزيه يدعو فيه للتهدئة ويأسف “للجدل وسوء الفهم اللذين نجما عن التصريحات التي نشرت..”. ويُعتبر ذلك البيان بمثابة تراجع مدروس، وهو أقرب إلى الإعتراف بالخطأ والإقرار بتحمّل المسؤولية، حتى وإن لم يكن بصورة مباشرة. وربما يكون تكتيكاً قُبيل الإنتخابات الفرنسية في ربيع العام 2022، خصوصاً حيث المنافسة حامية الوطيس مع اليمين الشعبوي المتطرّف. وعلى الرغم من ترحيب جزائري بالبيان الفرنسي، جاء على لسان وزير الخارجية رمضان لعمامرة، لكن العلاقات ما زالت فاترة ولم تعد إلى مسارها الطبيعي.
خامسها وآخرها؛ يحتاج طي صفحة الماضي الإستعماري الفرنسي إلى شجاعة فرنسية وإرادة سياسية وموقف أخلاقي عالي التجرّد والموضوعية والحساسية الإنسانية، لكي “يعترف الأبناء عمّا اقترفه الآباء”، لإغلاق هذا الملف والتطلّع إلى المستقبل، كما يحتاج إلى شجاعة جزائرية وسمو أخلاقي يتّجه نحو التسامح من جانب “الأبناء لما أصاب الأجداد والآباء والأجيال التي تلتهم من أذى”، دون نسيانه، ليبقى ماثلاً في ذاكرة الأجيال، درساً وعبرةً للمستقبل وللعلاقة بين البلدين والشعبين، فضلاً عما يمكن أن يمثّله لعموم العلاقات الدولية، وذلك في إطار عدالة إنتقالية دولية تسوّي المشكلات التاريخية العالقة، وفقاً للإعتبارات الإنسانية والقانونية والمصالح المشتركة وأهداف السلم والأمن الدوليين.