من ضمن ما أوردته الصحافة الروسية حول احتمالات الحرب من عدمها، نشرت صحيفة “سفوبودنايا بريسا” مقالة في السادس والعشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي جاء فيها “يقولون إن العدوان الروسي على أوكرانيا سيحصل، يذكرنا ذلك بما قاله الغرب في العام الماضي، إن الحرب ستبدأ في كانون الثاني/ يناير، لكن الوقت ينفد، ولم يحدث شيء، الحقيقة أن الجميع بغنى عن الحرب الآن، باستثناء الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وحتى كييف لا تحتاجها”.
وفي الحادي والثلاثين من الشهر الماضي، نشرت صحيفة “زافترا” مقالة بعنوان “سري للغاية.. لن تنشب الحرب” ورد فيها “تمطرنا وسائل الإعلام الغربية دون انقطاع بوابل من التقارير الإعلامية المرعبة والخطيرة حول نقل قوات ضخمة إلى الحدود مع أوكرانيا، وبرغم نفي المسؤولين الروس يومياً عدم وجود نية كتلك، إلا أن الغرب يصر على اتهام روسيا لذر الرماد في العيون، فالأمر ليس حرباً أوكرانية ولا هجوماً روسياً على أوكرانيا، وإنما فضيحة أميركية هدفها دق الأسافين بين روسيا وألمانيا، وبين روسيا وشركائها الأوروبيين”.
في حالة الغزو الروسي المفترضة لأوكرانيا، لا تبدو نوايا الغرب بعيدة عن تكرار تجربة “المقاومة الأفغانية” في أوكرانيا، ففي الأخيرة جماعات سكانية مدعومة من “كنيسة كييف” على استعداد لمواجهة الجنود الروس، بأشكال متعددة، ومن ضمنها “حرب العصابات” على طريقة الحرب الأفغانية
وإذ استمر تحديد تواريخ الحرب الموعودة، مرة في الرابع من شباط/ فبراير، ومرة في السادس منه، واظبت الآراء والتحليلات الروسية على تقديراتها التي تستبعد وقوع الحرب، وحيال ذلك ورد في مقالة منشورة في صحيفة “سفوبودنايا بريسا” بتاريخ الخامس عشر من شباط/ فبراير الحالي “تدرك السلطات الروسية والأوكرانية جيداً أن فلاديمير بوتين لا يريد القتال ولن يفعل ذلك إلا إذا وقع حدث استثنائي، وسوف يحاول في جميع الأحوال حل المسألة سلمياً، ولا بد من أن نتذكر أنه حتى الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا عمداً والمروحية التي أسقطتها أذربيجان في ظروف غامضة لم تؤد إلى رد عسكري من روسيا”.
ومما جاء في مقالة منشورة في صحيفة “زافترا” في الثامن عشر من شباط/ فبراير الحالي “لا زالت واشنطن ترى أن روسيا تستعد لخلق ذريعة للهجوم على أوكرانيا، والسؤال الذي يراود المرء في كل هذا: هل يصدّق المسؤولون الأميركيون تلك الفرضية التي اختلقوها اختلاقاً بشأن الغزو الروسي؟ ألا يدرك هؤلاء أن حرباً لا يمكن أن تنشب استناداً لمصلحة الجميع في القارة الأوروبية”؟
تلك العينات الروسية، إما تميل نحو استبعاد الحرب، وإما تنزاح نحو ترجيح عدم وقوعها، وفي الحالتين فالحرب العاجلة لا تقرع الأبواب، إلا إذا حدث ما هو غير متوقع ومن خارج حسابات المنطق، تماماً مثل ما حدث في الحرب العالمية الأولى، حين اغتال القوميون الصربيون ولي عهد الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية الأرشيدوق فرانز فرديناند في الثامن والعشرين من تموز/ يوليو 1914، فأعلن النمساويون والمجريون الحرب على صربيا، وتعهدت روسيا بحماية الأخيرة، فردت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، أو كما حدث في الحرب العالمية الثانية عندما اجتاح النازيون الألمان بقيادة أدولف هتلر الأراضي الروسية من دون سابق إنذار في الثاني والعشرين من حزيران/ يونيو 1941، علما أن ألمانيا النازية وروسيا السوفياتية كانتا تؤطران علاقتهما ضمن معاهدة عدم اعتداء، ومع ذلك غزا هتلر روسيا “بحثاً عن حماية المجال الحيوي لألمانيا”، كما يقول في كتابه “كفاحي”.
الحدث الإستثنائي أو غير المتوقع، والذي يدفع نحو الحرب، يبقى دائماً خارج فضاء العقل، وأما ما يقوله العقل، والمقصود العقل الإستراتيجي للرئيس فلاديمير بوتين، إن لكل فكرة أثمانها، وفكرة الحرب باهظة، ولذلك تبدو مستبعدة للأسباب التالية:
ـ إن غزو أوكرانيا، يعيد إلى الأذهان حقبة الإجتياح الروسي لأفغانستان في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1979، ولم تعد خافيةً التداعيات الضخمة التي خلّفتها الحرب الأفغانية ـ الغربية على النظام السوفياتي السابق، وكانت سبباً رئيسياً من أسباب تفككه، وفي حالة الغزو الروسي المفترضة لأوكرانيا، لا تبدو نوايا الغرب (الولايات المتحدة تحديداً) بعيدة عن تكرار تجربة “المقاومة الأفغانية” في أوكرانيا، ففي الأخيرة جماعات سكانية مدعومة من “كنيسة كييف” على استعداد لمواجهة الجنود الروس، بأشكال متعددة، ومن ضمنها “حرب العصابات” على طريقة الحرب الأفغانية التي امتدت لسنوات عدة، الأمر الذي يعني ان روسيا قد تدخل في حرب استنزاف طويلة الأمد.
ـ لا يمكن تشبيه اجتياح أوكرانيا بإجتياحي هنغاريا عام 1956 (ربيع بودابست) أو تشيكوسلوفاكيا عام 1968 (ربيع براغ)، فآنذاك كان الإتحاد السوفياتي في ذروة قوته، ومع ذلك فإن هذين الإجتياحين كشفا عمق الفجوة الواقعة بين أنصار الإتحاد السوفياتي الإيديولوجيين في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبين الإتجاهات القومية والوطنية في هذين البلدين، وهذه الفجوة بالذات أدت إلى اشتداد مناصبة العداء للروس والشيوعية معاً، وهو ما تجلى في التسعينيات الماضية، حين انقلبت تلك الأقوام على الأحزاب اليسارية الحاكمة واندفعت مهرولة نحو الإتحاد الأوروبي وحلف “الناتو”.
ـ يدرك بوتين أن صافرة انطلاق الحرب في جيبه، ولكن صافرة ختامها او نهايتها لا تملكها روسيا ولا غيرها من الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة التي غزت فيتنام ومن ثم أفغانستان وبعدهما العراق، وقد خرجت منها بأذيال الخيبة، وفي ظل استغراق الإدارات الأميركية المتعاقبة في حروب متمادية، نمت الصين وتعملقت حتى غدت تقارع الأميركيين في اقتصادهم وصناعاتهم وعملتهم الخضراء ومجالات نفوذهم في آسيا وأفريقيا، وربما في وقت آتٍ في مجالهم الحيوي في أميركا اللاتينية.
الحديث عن الصين، يفضي إلى مقارنة وضعها الحالي بما كانت عليه الولايات المتحدة قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت دولة قوية بلا شك، ولكنها دون النفوذ الإنكليزي والفرنسي والألماني بدرجات ومراتب، وجراء تحول القارة الأوروبية إلى ميادين موت وخراب في الحربين المذكورتين آنفا، باتت الولايات المتحدة القوة الإقتصادية والعسكرية الأولى عالمياً، وغدا الأوروبيون تحت جناحها، وهذا ما ينطبق على الصين في هذه الآونة، حيث استراتيجية النأي عن الحروب العسكرية تشكل أبرز المعالم الصينية، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن أية حرب قد تندلع حول أوكرانيا سيكون المعنيون بها ثلاثة أطراف، روسيا وأوروبا والولايات المتحدة، فيما ستكون الصين بمنأى عنها، فلا مصالح استراتيجية لها في أوكرانيا ولا أمنها القومي مهدد، وأكثر من ذلك، فحرب طويلة حول أوكرانيا سيجعل روسيا تحت رحمة الصين التي لها عينان تحدقان نحو سيبيريا وكازاخستان.
كان تروتسكي من دعاة استمرار الحرب العالمية الأولى، وحين عاد إلى موسكو محاولاً إقناع لينين بذلك، قال له الأول: يجب أن تتوقف الحرب وقد صوّت الجنود بأقدامهم، ولما سأله تروتسكي متى جرى التصويت، أجاب لينين: لقد هربوا من الحرب لأنهم لا يريدونها
ومن هذا المنظور، يمكن الإطلالة على أسباب قناعة الخبراء الإستراتيجيين الروس، بمن فيهم كتاب الرأي، فضلا عن المواقف الرسمية الصادرة عن الكرملين ووزارة الخارجية والمستبعدة للحرب، فلا تجربة أفغانستان مغرية، ولا اجتياحا هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا، ولذلك لمَ الحرب؟
لا حرب يقول الروس، ولكن لا يعني ذلك إسدال الستار على الأزمة مع أوكرانيا، فثمة ملفات استراتيجية وتاريخية وثقافية سوف تبقى عالقة بين موسكو وكييف، وستطل برؤوسها من حين إلى آخر، وبالمستوى الساخن نفسه، ومن هذه الملفات أن روسيا لن تسمح بإنضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”، وستقارع موسكو حول خط الغاز الشمالي إلى أوروبا، وحول الشخصية التاريخية “يوروسلاف الحكيم” المتوفي عام 1054م، والذي تعتبره رائد توحيد القبائل السلافية وممهد السبيل أمام ظهور الدولة الروسية، في حين تعتبره كييف رمزها الأول.
وما من شك، أن اعتراف روسيا بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك في حوض الدونباس، يشكل هو الآخر مظهراً من مظاهر استمرار الأزمة مع أوكرانيا، ولكن هذا الإعتراف يمكن أن يتعايش معه العالم كما تعايش مع نماذج مماثلة، على رأسها ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، و”جمهورية شمال قبرص” التي أعلنتها تركيا بعد العام 1974 وإقليم جبل طارق في إسبانيا العائد للسيادة الإنكليزية منذ عام 1714.
في الختام واقعتان:
- في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو 1914 سأل قيصر ألمانيا رئيس أركانه هيلموت فون مولتكه: هل الوطن في خطر؟ فرد عليه: نعم، عندها أعلن مولتكه الحرب على روسيا.
- في آذار/ مارس 1918، كانت الحرب العالمية الأولى قد شارفت على نهايتها، وانعقد مؤتمر للتفاوض بين البلاشفة والألمان، وكان تروتسكي من دعاة استمرار الحرب، وحين عاد إلى موسكو محاولاً إقناع لينين بذلك، قال له الأول: يجب أن تتوقف الحرب وقد صوّت الجنود بأقدامهم، ولما سأله تروتسكي متى جرى التصويت، أجاب لينين: لقد هربوا من الحرب لأنهم لا يريدونها.
روسيا ليست بخطر في هذه الأيام حتى يعلن رئيس أركانها الحرب على أوكرانيا، ثم مَن قال إن فلاديمير بوتين يريد الحرب؟