(…) “منذ البداية، شدد (إيغور إيفانوف) على أن الولايات المتحدة لا تفهم روسيا. وتساءلت أمامه كيف يمكن ذلك وكوندوليزا رايس، التي كانت رئيسة مجلس الأمن القومي (الأميركي) آنذاك، نالت شهادة الدكتوراه عن الاتحاد السوفياتي. فقال لي إيفانوف: هذه هي المشكلة بالضبط، هي ربما تعرف الاتحاد السوفياتي، وليس روسيا. روسيا لا تؤمن بالأيديولوجيا الشيوعية، بل بالمصالح فقط.
حينها، ادّعى إيفانوف ووزير الخارجية سيرغي لافروف أن لروسيا ثلاثة طلبات من الولايات المتحدة:
الأمر الأول، ألّا تتدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، وألاّ تحكم على مستوانا الأخلاقي، مثلما لا نحكم نحن على العلاقات بين السود والبيض في أميركا.
الأمر الثاني، ألّا تحاول الولايات المتحدة جرّ دول الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى حلف الناتو، المنظمة المعادية للروس علناً.
الأمر الثالث، أن تتعامل الولايات المتحدة معنا باحترام، وألّا تضعنا أمام وقائع وخطوات أحادية الجانب.
غيورا إيلند: لقد ضيّعت الولايات المتحدة فرصة جذب روسيا إلى جانبها في ما يتعلق بالموضوع النووي الإيراني، وما ربحته من سياستها الاستفزازية في أوروبا الشرقية ليس واضحاً. لكن من الواضح أن إسرائيل هي التي خسرت أيضاً
عموماً، اعتقد بوتين آنذاك، كما يعتقد الآن، بأن الولايات المتحدة لم تحترم قط هذه المصالح الروسية الثلاث، بل عملت الإدارات الأميركية خلال السنوات العشرين الأخيرة على المسّ بهذه المصالح عمداً. وهناك عشرات الأمثلة، نشير إلى اثنين منها:
-في سنة 2005، زار ديك تشيني، الذي كان نائباً للرئيس الأميركي جورج بوش الإبن آنذاك، عاصمة لاتفيا (ريغا). وهاجم في خطابه بوتين شخصياً لعدم وجود ديموقراطية في روسيا.
-في سنة 2008، حاولت جورجيا ضم محافظتين مستقلتين (أبخازيا وأوسيتيا)، أغلبية سكانهما ليست من الجورجيين. فسارع جو بايدن، الذي كان نائباً للرئيس الأميركي آنذاك، إلى زيارة تبليسي، ووقف إلى جانب الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، أكثر شخص يكرهه بوتين في العالم، ووعد بتقديم مساعدة سياسية وحتى عسكرية. وتساءل بوتين لماذا جورجيا مهمة إلى هذا الحد بالنسبة إلى الأميركيين.
بالعودة إلى سنة 2004، سألت الروس: “ماذا يمكن أن تفعلوا إذا لم تحترم الولايات المتحدة طلباتكم الثلاثة”؟ الجواب حصلت عليه في أيلول/سبتمبر من ذلك العام. إذ طلب مني إيفانوف القدوم بسرعة إلى موسكو للبحث في موضوع إيران. فذهبت إلى موسكو على رأس وفد إسرائيلي والتقيت إيفانوف ووزير الدفاع ورئيس اللجنة الروسية للطاقة النووية، الذين قالوا لي إن روسيا تريد أن تقترح صفقة على إيران: إقامة منشأة لتخصيب اليورانيوم بمشاركة اقتصادية روسية – إيرانية، لكن يجب أن تكون المنشأة في روسيا، وأن تبقى السيطرة التكنولوجية للروس فقط. علاوة على ذلك، تقوم المنشأة بتخصيب اليورانيوم على درجة 4% فقط، وتنتج الوقود المطلوب لإنتاج الكهرباء، لكن بعد الاستخدام، لا يمكن زيادة التخصيب لإنتاج قنبلة. قلت لهم عظيم، لكن ماذا تريدون منا في المقابل؟ الجواب الروسي كان بسيطاً. كل ما نريده دعم الولايات المتحدة ودول الغرب للـ”اقتراح الروسي”، رسمياً وعلنياً. لقد كان من المهم جداً لبوتين أن يكون في القيادة، وأن يحصل على اعتراف غربي. وغني عن القول إن الولايات المتحدة رفضت الاقتراح الروسي بازدراء.
صحيح أن بوتين ديكتاتور، ومن دون شك هو “الشخص الشرير” فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وماذا عن الولايات المتحدة وهي التي كانت ثمِلة بقوتها منذ سنة 1991، واستمتعت بإذلال روسيا، عبر سلسلة من الخطوات الأحادية الجانب، من نصب صواريخ متقدمة في بولندة، إلى دعم عدائية جورجيا، ووصولاً إلى جذب المزيد من دول الاتحاد السوفياتي، سابقاً، إلى الناتو؟
لقد ضيّعت الولايات المتحدة فرصة جذب روسيا إلى جانبها في ما يتعلق بالموضوع النووي الإيراني، وما ربحته من سياستها الاستفزازية في أوروبا الشرقية ليس واضحاً. لكن من الواضح أن إسرائيل هي التي خسرت أيضاً”.(المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).
***
“الحرب (الروسية ـ الإيرانية) ستستمر. وليس من الواضح إلى أين ستصل، لكن من الواضح تماماً أن مَن نجح في الاستفادة منها: إيران.
كيف؟ لأن بوتين وبايدن وكل الذين يتدخلون في أمور غيرهم خلقوا سيناريو لم يكن الإيرانيون يحلمون به: طاغية نووي يسيء إلى دولة نزعت سلاحها النووي، بعد أن صدّقت، ببراءة، التعهدات الاحتفالية التي باعتها إياها ثلاث دول نووية كبرى. الآن في فيينا، تجلس هذه الدول الكاذبة وتطلب من إيران التخلي عن جهودها في تحويل نفسها إلى دولة نووية كبرى.
الوفد الإيراني سيبتسم ويقول: “تريدون منا أن نصبح أوكرانيا. نتخلى عن جهدنا للانضمام إلى ناديكم في مقابل وعود بأن تتصرفوا معنا بصورة حسنة، صحيح؟ أضحكتمونا. لقد تعلمنا هذا الأسبوع مَن تكونون، وأن تعهداتكم لا تساوي شيئاً، وما الذي يحدث لدولة لا تملك قنبلة”.
الإيرانيون على حق. الدليل على ذلك المصير القاتم الذي واجهته دول غير نووية، مثل سوريا والعراق وفيتنام والكويت (وهناك المزيد). في المقابل، روسيا والولايات المتحدة والهند وكوريا الشمالية وباكستان، الدول النووية حتى رأسها، لم تسقط شعرة من رؤوسهم على الرغم من شناعتهم. في عالم خبيث وواهن، يبدو أن أفضل دفاع ضد الأشرار القتلة هو وجود بعض القنابل في الخزانة. لا شك في أن إيران استوعبت هذا الدرس جيداً. ولا شك في أنها ستستخدمه بصورة ناجعة.
ذات مرة، قبل أعوام، حلم العالم بـ”توازن رعب” نووي يحفظ السلام في العالم. اتضح الآن أنه هراء ساذج (أو خبيث). ربما حان الوقت للتفكير في رؤيا جديدة. مثلاً حصول الجميع على سلاح نووي. من لوكسمبورغ، وصولاً إلى كندا، ومن سان مارينو حتى الكونغو، ومن فلسطين حتى البرازيل. الكل يملك قنبلة، وليعلم الجميع بأن عليهم ألّا يتعاملوا باستخفاف معهم”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).