جو بايدن يحاول الآن أن يكون رونالد ريغان القرن الحادي والعشرين، فيسحب التجربة الريغانية في أفغانستان على أوكرانيا، معتمداً على عقوبات غربية غير مسبوقة على روسيا.. وعلى تزويد كييف بـ”أسلحة فتّاكة” في مقدمها صواريخ “جافلين” المضادة للدروع التي بحسب التقارير الغربية حالت حتى الآن، دون إقتحام الدبابات الروسية للعاصمة كييف أو للمدن الكبرى، وبدأ الأوكرانيون يطلقون عليها لقب “القديسة جافلين”. وإلى “جافلين” التي صارت رمزاً أساسياً من رموز الحرب، تُرسل واشنطن أيضاً صواريخ “ستينغر”، إلى الطائرات المسيرة من الطراز “الإنتحاري”، إلى منظومة صواريخ “إس-300” المضادة للطائرات السوفياتية/الروسية الصنع. ويبدو أن بايدن لن يترك حجراً إلا ويقلبه بحثاً عن هذه الصواريخ، وكأنه يريد أن يهزم روسيا بسلاحها.
وكي لا يترك بايدن الجمهوريين يزايدون عليه في حب أوكرانيا، بلغت المساعدات العسكرية الأميركية لكييف في غضون الأسابيع الأخيرة أكثر من ملياري دولار.
ولهذه الخطوات صلة مباشرة بسعي الرئيس الأميركي إلى إعادة ترميم شعبيته التي إنهارت بعد الإنسحاب من أفغانستان، وبفعل زيادة التضخم في الداخل الأميركي في سنة الإنتخابات النصفية، التي كانت التوقعات ترجح فوزاً ساحقاً للجمهوريين فيها، مقدمة لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2024. وأتت أوكرانيا لتشكل حبل النجاة لبايدن والديموقراطيين، الذين يعتبرون أن في إمكانهم قطف ثمار التعبئة الواسعة ضد روسيا، في صناديق الإقتراع في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
كل الإجراءات التي يتخذها بايدن الآن تقوم على إفتراض أن روسيا وقعت في الفخ الأوكراني، وأن أمامها سنوات من الإستنزاف العسكري معطوفاً عليها العقوبات الغربية، وهذا كفيل بجعلها تواجه كارثة إستراتيجية مشابهة لتلك التي تلقتها بتفكك الإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمن
وكلما إقترب موعد الإنتخابات النصفية، لن يتردد بايدن في تقديم المزيد والمزيد من المساعدات لأوكرانيا والتصعيد أكثر في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى حد وصفه بـ”مجرم حرب”، عاكساً ما ردّده دائماً في خطاباته من هذه الحرب هي “حرب بوتين”، في إشارة إلى أنه لا يستهدف روسيا كبلد وإنما قيادتها، التي سارت بها إلى الحرب.
وفي ذروة المواجهة مع روسيا، لا ينسى بايدن الصين التي كان يعتبرها همه الأساسي منذ دخول البيت الأبيض، لذا فهو يكثر من إطلاق التحذيرات من مغبة إقدامها على إنقاذ روسيا من ورطتها في أوكرانيا، من طريق تقديم أي مساعدة عسكرية أو إقتصادية لها، ويطالبها بأكثر من ذلك، وهو التعبير عن إدانة علنية للغزو الروسي والخروج من المنطقة الرمادية التي تتظلل بها الصين منذ 24 شباط/ فبراير الماضي. ويضع بايدن الميزان التجاري المختل لمصلحة الصين بنحو 360 مليار دولار، فضلاً عن الإستثمارات الصينية في سندات الدين الأميركي والتي تفوق التريليون دولار، على المحك. وفي الخلاصة إما أن تكون الصين مع الغرب فتنقذ إقتصادها أو تختار روسيا فتتحمل العواقب. هذه خلاصة المكالمة الهاتفية عبر الفيديو يوم الجمعة الماضي بين بايدن والرئيس شي جين بينغ، والتي سبقها إجتماع الساعات السبع في روما بين مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان والمسؤول عن السياسة الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني يانغ جيشي.
ومن الأوراق الرابحة في يد بايدن، هو الموقف الأوروبي الموحد خلفه في المواجهة مع روسيا. ولإجراء مقارنة سريعة في ما يتعلق بالتبدل الذي طرأ على هذا الموقف، لا بد من الإشارة إلى أنه عندما زار بايدن أوروبا في حزيران/ يونيو من العام الماضي، لقي إستقبالاً فاتراً من زعمائها، لأن الحلفاء كانوا لا يزالون تحت صدمة الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، مما غذى الشكوك لديهم بمدى جدية بايدن في وضع شعاره “أميركا عادت” موضع التنفيذ، بالإستناد إلى الإستياء الذي تولد لديهم من قرار الإنسحاب المتعجل من أفغانستان والإجلاء الفوضوي الذي رافقه.
هذا كله قاد زعماء أوروبيين وفي مقدمهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل والممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، إلى إعادة إثارة مسألة “الإستقلال” دفاعياً عن الولايات المتحدة، لا سيما بعد الشرخ الكبير الذي أصاب العلاقات بين ضفتي الأطلسي في ظل رئاسة دونالد ترامب.
وعندما إقترح بايدن على حلفائه في بروكسيل العام الماضي أن ينضموا إليه في حملة إحتواء الصعود الصيني، وجد صدوداً وتردداً، كيف لا وبكين هي الشريك التجاري الأول للإتحاد الأوروبي. وبالكاد تمكن بايدن من إقناع قادة مجموعة الدول الصناعية السبع بإطلاق مبادرة بمئات مليارات الدولارات لمواجهة ما يربو على تريليون دولار تنفقها بكين على مبادرة “الحزام والطريق” التي تشمل ما يربو عن 60 دولة.
بعد أوكرانيا، سرعان ما تبددت أجواء الشك وعدم اليقين بين أميركا وأوروبا، وتوحد الجانبان على نحوٍ لم يعهداه منذ الحرب الباردة. وإستبق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قدوم الرئيس الأميركي إلى بروكسيل، بتبييض صفحة حلف شمال الأطلسي، بالقول إن أوكرانيا كانت بمثابة “صدمة كهربائية” أيقظت الحلف من موته السريري، في إستدراك لما قاله عام 2019. والمستشار الألماني أولاف شولتس يستقبل بايدن بإنفاق دفاعي سنوي يزيد عن 110 مليارات دولار (أي ضعف الموازنة الدفاعية لروسيا تقريباً)، والتفكير بشراء مقاتلات “إف-35” الأميركية. وبالكاد تختلف لهجة جوزيب بوريل عن لهجة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، وإذا بالفوارق تذوب بين تكتل إقتصادي وحلف عسكري.
إما أن تكون الصين مع الغرب فتنقذ إقتصادها أو تختار روسيا فتتحمل العواقب. هذه خلاصة المكالمة الهاتفية عبر الفيديو يوم الجمعة الماضي بين بايدن والرئيس شي جين بينغ
ويذهب الأوروبيون أبعد من ذلك، فهم نزولاً عند رغبة بايدن، بدأوا التفتيش عن بدائل للنفط والغاز الروسيين، وشرعوا في وضع الجداول الزمنية التي يفترض أن يحين معها موعد “الفطام” عن موارد الطاقة الروسية، والتعبير لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي يتصرف أيضاً وكأن “بريكست” لم تكن، بينما كان حتى الماضي القريب يتبادل التهديدات مع فرنسا على خلفية حقوق الصيد.
وفتحت الدول الأوروبية أبوابها للملايين من اللاجئين الأوكرانيين من دون تذمر أو شكوى، ولم تكن هذه هي الحال مع اللاجئين الأفغان الفارين من وجه طالبان العام الماضي، أو قبلها مع اللاجئين السوريين والعراقيين. وبصرف النظر عما إذا كانت ثمة دوافع عنصرية، فإن أمر العمليات الأميركي يقضي بإستقبال الأوكرانيين وإكرام وفادتهم، كي لا يتسنى للرئيس الروسي إستخدام اللاجئين سلاحاً في الحرب على أوكرانيا.
وتتسابق الدول الأوروبية على فتح برلماناتها أمام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليتحدث أمامها ويشرح قضيته ويكرر طلبه من حلف شمال الأطلسي بفرض منطقة حظر للطيران فوق بلاده، ومن الإتحاد الأوروبي تسريع عملية إنضمام كييف إلى الإتحاد. ويبدو الأمر أحياناً وكأن زيلينسكي مقتنع فعلاً بأن الغرب مستعد للموت من أجل أوكرانيا وليس العكس.
الموقف الأوروبي الموحد الذي يتجه نحو زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، يُسعد ولا شك بايدن، لأنه يتيح له الإستمرار في حشد ما يكفي من القوات التقليدية في المحيطين الهادىء والهندي في مواجهة الصين، بينما يتولى الأوروبيون تعزيز قواتهم على الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي.
طبعاً، كل الإجراءات التي يتخذها بايدن الآن تقوم على إفتراض أن روسيا وقعت في الفخ الأوكراني، وأن أمامها سنوات من الإستنزاف العسكري معطوفاً عليها العقوبات الغربية، وهذا كفيل بجعلها تواجه كارثة إستراتيجية مشابهة لتلك التي تلقتها بتفكك الإتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمن.
هل في إمكان الولايات المتحدة الوصول إلى غايتها؟ ذلك يتوقف على الميدان الأوكراني قبل كل شيء.