“الحجة الأساسية التي طرحتها وسائل الإعلام ضد الشاباك تتركز على ما سُمِّي إهمال نشاط تنظيم داعش في المناطق، وفي إسرائيل، بصورة سمحت للمهاجمين في الخضيرة وبئر السبع بالتحرك “من تحت الرادار”. تأكيداً لهذه الحجة أن إبراهيم أغبارية، أحد منفّذي هجوم الخضيرة، اعتُقل في سنة 2016، بسبب محاولته الانضمام إلى تنظيم داعش في سوريا، ومحمد أبو القيعان، منفّذ هجوم بئر السبع، اعتُقل في العام عينه أيضاً، بسبب نيته تشكيل خلايا إرهابية للانضمام إلى صفوف داعش في سوريا.
في الحالتين، كان يتعين على الشاباك الاستمرار في مراقبة هؤلاء النشطاء، حتى بعد إطلاق سراحهم، بحسب وسائل الإعلام. لكن حتى الآن، لم يتم العثور على صلة ملموسة مباشرة بين منفّذي الهجمات الثلاثة وبين داعش. حتى في بيان التنظيم الإسلامي الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم، اكتفى بالتعبير عن تقديره وثنائه على المهاجمين، وشدد على أن المقصود هو حرب دينية “من أجل الإسلام والله”، وليس نضالاً وطنياً “قذراً”.
صحيح أن الشاباك اعتقل في الأسبوع الماضي عشرات السكان في الشمال للتحقيق معهم بشبهة تأييد داعش، أو بسبب تعبيرهم عن تضامنهم مع الهجمات. لكن بحسب مصدر من الشاباك، المقصود ردة فعل آلية لا تعتمد على معلومات محددة، أو على تقدير أن داعش فتح فرعاً له في إسرائيل أو في المناطق، أو أن التنظيم قرر تحريك نشطاء نائمين. وحتى الآن، فرضية العمل هي أن ما يجري الحديث عنه هو مبادرات فردية، وليس عمليات تنفّذها تنظيمات تحاول منافسة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، أو تنظيمات أُخرى عابرة.
داعش كلمة تثير الرعب. الأعوام التي سيطر فيها التنظيم على مناطق كبيرة في العراق وسوريا قدّمت للعالم أساليبه في القمع الوحشي. الفيديوهات التي صورها قسم الدعاية في التنظيم أظهرت مشاهد مرعبة، من قطع الرؤوس، وحرق أشخاص وهم أحياء، وإعدامات جماعية، والاعتداء على نساء بالجملة، وتجنيد أولاد للحرب، وكل الفظائع الأُخرى. وبعكس التنظيمات الأُخرى، يعتمد داعش على أيديولوجيا ورؤية هدفها إقامة دولة إسلامية. ولقد نجح في إقامة نموذج من الدولة الإسلامية وحكمها أربعة أعوام.
وفتح التنظيم فروعاً له في عدد كبير من الدول الإسلامية، وجذب إليه عدداً من مؤيدي تنظيم القاعدة الذي لم تسمح له مصادره المادية بأن يكون سخياً، وخصوصاً بعد ضرب قيادته عقب اغتيال أسامة بن لادن في أيار/مايو 2011، ووفاة نائبه أيمن الظواهري، الأمر الذي لم يساعده في توحيد صفوفه.
في منظومة الأدوات المترابطة التي تدير توازُن الرعب بين غزة وإسرائيل والضفة، فإن هجمات الأفراد، أو تلك المنسوبة إلى داعش، حتى لو لم تكن فعلاً كذلك، تخدم فكرة المقاومة المسلحة من دون أن تضطر “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” إلى دفع الثمن
وعلى الرغم من طرد داعش من الأراضي التي سيطر عليها، فإن التنظيم لا يزال يحمل شعار “الدولة الإسلامية”. لكنه، في الواقع، أصبح منذ سنة 2019 تنظيماً لا يختلف في بنيته عن “القاعدة”: جزء من فروعه قُلِّص أو أُغلِق؛ جزء آخر لا يزال يعمل ويقوم بهجمات تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، لكنه لا يسيطر على أراضٍ بصورة مستمرة. على سبيل المثال، تواصل ولاية سيناء، الفرع المصري من التنظيم، خوض حرب قاسية ضد القوات الأمنية المصرية في شمالي سيناء ووسطها. في العراق وسوريا، تراجعت وتيرة الهجمات، لكن التنظيم لا يزال يحصد ثمناً دموياً باهظاً.
في أفغانستان، يخوض التنظيم حرباً ضد طالبان، ويهدد بتصدير هجماته إلى إيران التي كانت محصّنة من هذه الهجمات طوال أعوام. جهاز التعبئة الدولي للتنظيم، الذي نجح في أوقات الذروة في تجنيد عشرات الآلاف من المتطوعين، تقلص كثيراً، ويقدَّر أن لدى قيادة التنظيم ما بين 25 إلى 30 مليون دولار في الإجمال. وهذا المبلغ صغير نسبياً، مقارنة بالمليارات التي كانت لديه في منتصف العقد الماضي.
نسْبُ هجمات إرهابية في إسرائيل أو في المناطق إلى داعش، يجب ألّا يثير خوفاً مختلفاً عن الهجمات التي تُنسب إلى تنظيمات أُخرى، مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. الفارق بينهما يكمن في العنوان المسؤول. بينما يوجد للتنظيمات الفلسطينية عناوين واضحة – القيادتان العسكرية والسياسية (وفي حالة “حماس”، فإنها تتحمل المسؤولية المدنية عن إدارة أراضيها)، بينما بالنسبة إلى مهاجمين عرضيين توجد شبهة في انتمائهم إلى داعش، لا يوجد عنوان، أو تنظيم، أو بنية تحتية، أو قيادة معروفة. هذا الفارق يجعل من الصعب التصدي له، بينما فيما يتعلق بـ”حماس” و”الجهاد”، تستطيع إسرائيل استخدام الضغط المدني والعسكري من أجل خلق الردع، حتى لو لم يكن ناجعاً دائماً، أما بالنسبة إلى نشطاء عرضيين، فلا يوجد قناة للرد.
الفارق بين التنظيمات يبرز أيضاً في القدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية ضد مهاجمين عرضيين، كما أثبتت عملية يوم السبت ضد نشطاء “الجهاد الإسلامي” الذين أُطلقت النار عليهم وهم في طريقهم لتنفيذ هجوم. ثمة شك في أنه كان يمكن الحصول على معلومات دقيقة عن المهاجمين لو تحركوا بصورة مستقلة، ولم يكونوا أعضاء في تنظيم.
لا خلاف بشأن أهمية الكشف عن الانتماء التنظيمي للمهاجمين. لكن من السهل جداً ضمّ نشطاء داعش إلى مجموعة من التنظيمات والحركات الدينية الراديكالية التي يُطلق عليها اسم التنظيمات “السلفية”، والاستنتاج من ذلك، بصورة خاطئة، أن العمل ضدهم يمكن أن يُستخدم كأداة دفاعية ناجعة ضد إرهاب داعش. لا يشكل السلفيون مجموعة واحدة. والتيارات الأكثر طهرانية بينهم، والتي تُعتبر الأكثر تديّناً، تعارض النشاطات السياسية أو العسكرية، وتدعو إلى الاهتمام بالتفسير “الصحيح” للنصوص الإسلامية.
هناك تيار آخر سياسي – ديني لا يعارض المشاركة في الحياة السياسية، لكنه يبتعد عن العنف، وهناك التيار الجهادي – السلفي الذي يعتبر النضال المسلح وسيلة حيوية من أجل تحقيق أيديولوجيته. بسبب هذه المرونة الفكرية لهذه التيارات، سيكون من الصعب تقدير حجم المهاجمين المحتمَلين، وأيضاً حجم التيار الجهادي. التمييز بين هذه التيارات انتهجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي نجح في تقريب التيارات السلفية السياسية منه، بينما يخوض حرباً لا هوادة فيها ضد الإخوان المسلمين وداعش.
محاولة الهجوم المنظّم التي قام بها “الجهاد الإسلامي” يُمكن أن تقوّض شبكة العلاقات بين “الجهاد” وبين “حماس”، وبينهما وبين مصر
هذا الفارق يعرفه الشاباك جيداً، الذي لا يسارع إلى الاستجابة لكل دعوة إلى مهاجمة تنظيمات دينية إسلامية، أو جمعيات دينية فقط، لأنها ذات توجهات دينية راديكالية. نشاط هذه الجمعيات والمنظمات هو تحت رقابة دائمة وهادئة – من طرف الشاباك، وأيضاً من السلطة الفلسطينية. والاثنان يجدان شريكاً لهما لدى “حماس” في غزة، والتي تخوض بنفسها صراعاً ضد السلفيين ومؤيدي داعش، كجزء من اتفاقات التعاون بينها وبين مصر. صحيح أن “حماس” أشادت بالعملية البطولية في الخضيرة، لكنها في الوقت عينه، لجمت نشاطات تنظيمات راديكالية في داخل غزة، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى تقويض سيطرتها على القطاع، وأن يقوّض أيضاً توازُن الردع الهش القائم بينها وبين إسرائيل في هذه الأثناء.
في منظومة الأدوات المترابطة التي تدير توازُن الرعب بين غزة وإسرائيل والضفة، فإن هجمات الأفراد، أو تلك المنسوبة إلى داعش، حتى لو لم تكن فعلاً كذلك، تخدم فكرة المقاومة المسلحة من دون أن تضطر “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” إلى دفع الثمن. في المقابل، محاولة الهجوم المنظّم التي قام بها “الجهاد الإسلامي” يُمكن أن تقوّض شبكة العلاقات بين “الجهاد” وبين “حماس”، وبينهما وبين مصر.
وبينما قبلت “حماس”، ولو بصورة غير صريحة، الفصل الذي طالبت به مصر، بين أنشطتها في غزة وبين أنشطتها في الضفة وفي القدس الشرقية، فقد رفض “الجهاد الإسلامي” هذا الفصل، الأمر الذي يمكن أن يجرّ “حماس” إلى منافسة عنيفة في مواجهة إسرائيل، وإلى مسار تصادُم مع مصر. إذا حدث هذا التطور، فإن “تهديد داعش” سيكون الأمر الأخير الذي ستضطر إسرائيل إلى التخوف منه”.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية