هي ملحوظة تحمل جزءاً من الحقيقة، ربما بالشكل المفرغ من محتواه التفصيلي، لكن الشاهد هنا، هو فكرة اللجوء ذاتها، التي سرعان ما تسمى وبحق، أزمة لاجئين. وعبر السطور القادمة، سنزور بعض جنبات أزمة اللاجئين الأوكرانيين، لنتعرف على حجمها، ولنفهم لماذا يعد تصدير اللاجئين الأوكرانيين، سلاح فلاديمير بوتين الأخطر ضد أوروبا. والأهم هو التعرف على سلاح ضغط لا ينتبه إليه كثيرون في بلادنا، واللبيب بتصدير هكذا أزمة من الإشارة يفهمُ!
وحتى لا يلومني القارىء، لا بد من الإشارة إلى أن الشعب الأوكراني لا ذنب له في ما يحصل، ولا كلمة له في القرارات مهما شارك بأصواته في صناديق الإقتراع، ولا قبل له بمواجهة مثل هكذا ظروف. لكن الدرس يتطلب منا تنحية مشاعر القلب، لمصلحة ومضات العقل.
بلغ عدد النازحين داخل أوكرانيا من المناطق التي اقتطعتها روسيا، أي منطقتي الدونباس وشبه جزيرة القرم، ما يقدر بنحو 1.5 مليون أوكراني. تحرك هؤلاء النازحون من مناطق شرق وجنوب شرق أوكرانيا التي سيطرت عليها القوات الروسية منذ 2014، باتجاه الغرب نحو مناطق أخرى بالبر الرئيسي لأوكرانيا، وشكّل هؤلاء أزمة بالفعل، ولكنها في نهاية الأمر، أزمة أوكرانية داخلية، لن تزعج أوروبا التي وجدت نفسها مطالبة بتقديم مساعدات إنسانية للدولة الأوكرانية.
ومع بداية العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022، تحولت مشكلة النزوح الداخلي، إلى مشكلة نزوح إلى خارج حدود أوكرانيا، متحورة بطبيعة الحال، إلى أزمة لاجئين بالملايين، وقد اختلفت التقديرات حول حجمها، تبعاً لأغراض من يتبنى هذا أو ذاك من الأرقام.
إستقبلت الحدود البولندية النسبة الأكبر من اللاجئين الأوكرانيين، بأعداد تخطت 2.7 مليون لاجئ. بينما لم تتجاوز أعداد هؤلاء النازحين عند حدود الدول الأخرى المجاورة لأوكرانيا مئات الآلاف، أعلاها كان من نصيب رومانيا، مولدوفا، المجر وروسيا الاتحادية ذاتها، التي قارب عدد اللاجئين الأوكرانيين فيها النصف مليون لاجىء.
لم يقتصر النزوح الأوكراني على دول الجوار فحسب، بل تخطاها نحو دول لا حدود لها مع أوكرانيا، وأبرزها من حيث الأعداد: ألمانيا، جمهورية التشيك، بلغاريا، وإيطاليا.
في مقالة سابقة، قمنا بتوضيح سبب السعادة البالغة لإسرائيل، بإستقبالها لاجئين أوكرانيين (من أبناء الطائفة اليهودية على وجه التحديد). بينما يمثل توجه 22 ألفاً من اللاجئين الأوكرانيين نحو بيلاروسيا، أي إلى أحضان لوكاشينكو، علامة دالة على الاضطرار الذي دفع بهؤلاء الأوكرانيين إلى روسيا أو إلى أحضان حليفتها “الروثينية البيضاء” بيلاروسيا.
وتتواتر الأخبار الأوروبية على مدار الساعة عن المساعدة التي تقدمها المجتمعات الأوروبية من أجل تأقلم اللاجئين الأوكرانيين في دول أوروبية مختلفة، وهو جهد حميد لا يستحق التهجم ولا التهكم مهما اختلفت الآراء. جهود تسكين حكومية، أهلية ومن قبل شركات مثل موقع Airbnb الشهير، لإيواء واحتواء وإعاشة لاجئين خسروا مستقرهم في وطنهم، محاولين إيجاد حياة في دول أوروبية أخرى، سواء أكان ذلك بصفة مؤقتة أو دائمة.
بينما على جانب أقل إشراقاً، وإذا ما قمنا بتقريب عدسات التدقيق، تظهر مشاكل يواجهها النازحون الأوكرانيون في عدد من الدول التي لجأوا إليها، ففي نهاية الأمر، يستحيل وسط مشكلة كهذه، أن يتصور أي عاقل أن الصورة وردية تفوح منها رائحة الزهور.
مشاكل كاشفة، مثل تعرض اللاجئين الأوكرانيين من العرق الغجري لمعاملة سيئة وعدم ترحاب في المجر، مما اضطر عشرات الآلاف منهم للعودة إلى بلادهم. تمييز عنصري ذو خلفية تاريخية، ضد أوكرانيين غجر، لا يحمل معظمهم هويات داخل بلدهم ذاته، فكيف بهم حين يحاولون الانتقال إلى دولة أخرى. بينما رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، صاحب التوجه غير المؤيد للهجرة (وبالتالي اللجوء)، يفتح ذراعيه للاجئين الأوكرانيين، بعدما انتشرت أخبار عن سياسات حزبه اليميني المتطرف، الكارهة للأجانب وغير المرحبة بالمهاجرين، وتواتر أنباء عن المعاملة السافرة التي طالت لاجئين أفغان، مغاربة، سوريين، عراقيين، هنود ونيجيريين، وأي “غرباء”. ثم فجأة وتحت الضغط الدولي، ولأغراض المتاجرة السياسية مع حلول موعد الانتخابات البرلمانية المجرية في بدايات نيسان/إبريل 2022، تحولت سياسة عدم الترحاب، إلى سياسة أذرع مفتوحة عندما حان وقت اللجوء الأوكراني. والجميع يتذكر مشكلة اللاجئين الشهيرة التي حدثت على الحدود المجرية-الصربية عام 2015.
دعونا ننتقل إلى لقطة أخرى، هذه المرة في جمهورية التشيك. لقطة فيديو صادمة، ستشاهد عبرها عدداً من اللاجئين الأوكرانيين يقطعون طريق مرور السيارات في أحد شوارع العاصمة براج على الأرجح، في محاولة للفت النظر، ودعوة التشيكيين بأن يقاطعوا المنتجات البترولية والغاز الطبيعي المستورد من روسيا. ويظهر في اللقطة رد فعل وصل إلى حد العنف والسحل بيد مواطنين تشيك، يحاولون إزاحة هؤلاء اللاجئين المزعجين من طريق سياراتهم. وقد أطلق البعض على مثل هذه الحركات التظاهرية “MicroMaidan”، إشارة إلى أنها صورة مصغرة لفوضى المظاهرات والمواجهات التي وقعت بأوكرانيا في شتاء 2014.
يسهل تصور حجم الأزمة، عندما تعلم أن دولة مثل مولدوفا، بتعداد سكاني يقدر بـ 2.7 مليون مواطن، استقبلت ما يقارب 400 ألف لاجئ أوكراني، عبر منهم 300 ألف إلى رومانيا، بينما استقر فيها 100 ألف. وقد استغل هذه النقطة الصحافي الأمريكي بيل ماكيبن في مقاله بجريدة “ذا نيويوركر”، قائلاً: “الولايات المتحدة هي دولة يسكنها 330 مليون شخص، بمتوسط دخل للفرد يبلغ 4 أضعاف معدل دخل الفرد بدولة مولدوفا، مما يجعل عرض إدارة جو بايدن، المعلن في الشهر الفائت، باستقبال 100 ألف أوكراني، يبدو أقل من أن يوصف بالكريم”، بينما نقلت لنا وكالة “رويترز” مدى معاناة نظام الرعاية الصحي في مولدوفا، لوقوعه تحت ضغط تزايد أعداد اللاجئين الأوكرانيين بها، ما جعل وزيرة الصحة آلا نيميرنكو تستنجد بالاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة لمساعدة بلادها.
في الوقت نفسه، تفتح إسرائيل بوابة خلفية، في مطار شيزيناو، بالعاصمة المولدوفية، ليعبر من خلالها اللاجئون الأوكرانيون متجهين صوب إسرائيل بإجراءات مسهلة، لتستفيد “ديموجرافياً”.
أما في بولندا التي استقبلت أكبر عدد من اللاجئين الأوكرانيين، فتظهر آراء محللين قريبين من أرض الواقع، مدى صعوبة تحمل الدولة وحدها عبء استقبال وإعاشة اللاجئين الأوكرانيين، وتتنافس مع الجهود الحكومية، الجهود الأهلية للمتطوعين البولنديين، والمغتربين الأوكرانيين الذين يقدمون المعونة، بل ويفتحون بيوتهم لاستقبال الأسر الأوكرانية النازحة فيها. وأظهرت تقارير موثوقة عدم قدرة الكثير من مدن بولندا على استقبال أي زيادات في أعداد اللاجئين. والأخطر هو أن هذا الترحاب البولندي “الاضطراري”، يتم في دولة انتخبت 44.3% من قاعدة المصوتين بها، حزب القانون والعدالة، ليكون الحزب الحاكم في بولندا ـ وهو حزب يميني ذو توجه قومي متشدد، وهو بطبيعته حزب معادٍ للأجانب والمهاجرين. مما جعل بعض المحللين يحذرون من مغبة انقلاب هذا الترحيب باللاجئين في المستقبل القريب، إلى أزمة سياسية، نتيجة ضغط وجود لاجئين أجانب، يمثلون عبئاً كبيراً على الاقتصاد البولندي.
بينما اتضح أيضاً أمام جميع دول الجنوب والشرق من غير “البيض”، الفارق الواضح بين رد فعل الحكومة البولندية الأمني المتشدد بحشد عشرات الآلاف من أفراد حرس الحدود أثناء الأزمة البيلاروسية-البولندية، وبين الترحاب غير المعتاد منها تجاه لاجئي أوكرانيا. ثم تطلب أمريكا بعد ذلك من دول عربية، أفريقية، أو غير بيضاء، الاصطفاف وحشد مواقفها لشجب كل ما تفعله روسيا في أوكرانيا!
الأخبار التي تتداول في كبريات صحف العالم عن محاولات مقاطعة بولندا لواردات الطاقة الروسية، والضغط الواقع على ألمانيا بالتقريع والتهديد بالعقوبات عليها بسبب عدم توقفها عن استيراد الغاز الروسي، ما هي إلا نماذج دالة على مدى توتر الأمور، وتضارب المواقف مع المصالح، وهو الأمر الذي يبدو أنه سيُبقي أوروبا في حالة اضطراب سياسي واقتصادي لفترة لن تكون قصيرة.
إننا إذا اخترنا استكمال طريق الاستشهاد بنماذج توضح مدى فداحة “أزمة اللاجئين الأوكرانيين” في أوروبا، ربما سنحتاج إلى مجلد.
فقد كانت هذه مجرد أمثلة متفرقة للقطات مقربة، لعلها تفيد في توضيح الصورة على أرض الواقع، وتعبر عن تعقيدات أوسع وأشمل في دول أوروبية أخرى عديدة.
هل ترى معي عزيزي القارىء، الصداع الأوروبي المسمى بأزمة اللاجئين، ومدى تعقيداته، وتأثيره على التيارات والتوجهات السياسية داخل دول أوروبية مختلفة، وتحوله إلى قضية انتخابية فارقة يحاسب على أساسها الناخب الأوروبي أحزابه.
مع العلم أن تلك الأمثلة لم تتخط حدود أوروبا الشرقية من البلطيق إلى البلقان، نحو أوروبا الغربية التي لن تجد مفراً من تحمل نصيبها من العبء. نماذج تثبت لكل من يتشكك في أن أخطر صادرات روسيا هي.. “اللاجئين”.
أوروبا تدرك تدريجيا مدى الخسارة الاقتصادية والضغوط الاجتماعية التي وقعت على دولها بسبب محاولات إرضاء الولايات المتحدة، ما أدى وسيؤدي إلى بروز إشارات متناقضة بين سياسيين يتبنون القضية وبين قطاعات سياسية عريضة تتمترس أبعد باتجاه التيار اليميني الشعبوي القومي (المتطرف)، فيخيف ذلك الأمر كل سياسي/ة في الإنتخابات ويؤثر على القطاعات الأخرى داخل حدود الدولة ذاتها.
مهما بلغت العقوبات الأمريكية/الأوروبية ضد روسيا من مدى، في النهاية يبدو أن أوروبا كعادتها التاريخية لا تعاقب إلا نفسها. بينما أمريكا تزايد في كل الأوقات، إسرائيل تستفيد على أية حال، والبقية يشاهدون، وعليهم أن يتعلموا الدروس، خاصة “نحن”.
تحياتي.