تقارب دمشق وأنقرة.. فرصة الدولة السورية الواحدة بمشاركة الجميع

تُمثّل الإشارات المتبادلة بين الحكومتين السورية والتركية منعطفاً في مسار التوازنات الإقليمية الجديدة. وبرغم أن هذه الإشارات لم تقترب بعد من مستوى التطبيع الكامل، وبرغم أنه من غير المتوقع أن تُفضي إلى تحركات سريعة في هذا الاتجاه، إلا أن مثل هذه التحركات ستؤثّر حتماً على مسار الحل السوري، وهذا من شأنه أن يُشكّل حرجاً كبيراً للقوى السورية المعارضة على تنوعها. فتركيا شكّلت داعماً أساسياً للمعارضة، سياسياً وعلى الأرض، في حين ظلّ الداعمون الغربيون مُتردّدين.

لا شكّ أن أيّ تقارب تركي سوري مرهون بجدولة الانسحاب التركي من الشمال السوري وانتقال الوضع الراهن إلى ترتيبات مُعدّلة عن اتفاق أضنة القديم. بالمقابل، لا بدّ أن يُوفّر ضمانات لإيجاد بيئة مناسبة لعودة اللاجئين وعدم تهجير المزيد من الرافضين لعودة سيطرة دمشق على مناطقهم. وقد يتضمن التقارب نوعاً من التوافقات على تفعيل المسار السياسي لرسم ملامح حل مقبول. مثل هذه المقاربات ستنعكس على المعارضة السورية التي كانت وما تزال تتطلع إلى عملية سياسية شاملة، وأيضاً على المجتمع السوري في تركيا وشمال سوريا برمته.

ولا شكّ أيضاً أن التقارب هذه المرة مختلفٌ عما جرى في أيار/مايو من العام الماضي، قبيل الانتخابات التركية. فالأمر يبدو اليوم أكثر استراتيجية لرجب طيب أردوغان، وهو الذي يُريد حلولاً جذرية تُعيد إليه ولحزبه (العدالة والتنمية) التوازن بعد خسارة الانتخابات البلدية، حيث أدرك من بعدها أنه بحاجة إلى إنجازات كبيرة على صعيد الأمن، الاقتصاد، واللاجئين، تحضيراً لانتخابات العام 2028.

ولا شكّ أيضاً، أن خيارات دمشق في ممانعة التطبيع مع تركيا، تضيق في ظل تصاعد العنف في المنطقة، والحاجة إلى حلفاء جدد للموازنة بين القوى الإقليمية بعد حدث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى)، وفي ظل تدهور مستمر في الاقتصاد بات يضع مؤسسات الدولة السورية على حافة الانهيار.

إذاً، ومن دون شكّ أيضاً، يحتاج الطرفان إلى بعضهما البعض، ولكن ما حدود هذا التقارب؟ ما هي مخاطره ومكاسبه على كل منهما؟ والسؤال للمعارضة السورية ربما: هل هذا التقارب هو خطر خالص عليها؟ وهل من مكاسب محتملة لها فيه؟ وهل يتعين عليها محاولة رفض المسار أم ركوب موجته؟

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن استمرار خيار العداء بين تركيا وسوريا إلى ما لا نهاية، لم يعد ممكناً لجارتين تربطهما حدود تصل إلى 900 كلم، وبعد أن تخلى أردوغان علناً ومعه أغلب الدول التي دعمت المعارضة عن رغبتهم بإسقاط النظام السوري برئاسة بشار الأسد. ولكن لفهم سرعة التقارب ومداه لا بد أولاً من قراءة متأنية لحاجة كل طرف إلى مثل هذا التقارب:

بقاء الوضع السوري الراهن في حالة مستمرة من “الستاتيكو” لم يعد ممكناً. وعلى كل من يراهن على أن ينساه العالم في زاوية الشمال السوري أن يُعيد التفكير بذلك بعد 7 أكتوبر. الفرصة الوحيدة هو أن تتجاوب القوى السورية المعارضة، بواقعية وشجاعة، وربما الكثير من المغامرة، مع المشهد السياسي اليوم حتى تكون جزءاً من الحل بدل أن تكون ورقة مقايضة

أولاً؛ الإشكالات الأمنية المشتركة:

يحتاج الطرفان إلى إيجاد حل لمعضلة شمال شرق سوريا. ربما أدرك الطرفان أن لا مجال لتصفية مشروع الإدارة الذاتية بشكل نهائي، غير أن تشكيل استراتيجية مشتركة، بدل استراتيجيتين منفصلتين وربما متعارضتين، لن يفيد أياً منهما. بالتأكيد مثل هذا الاستراتيجية ستُشكّل ضغطاً على “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، مما قد يدفعها إلى حلول أكثر عقلانية وأقل مغامرة، تندمج عبرها بالدولة السورية تدريجاً وعبر حلول تحفظ لها إمكانية تحقيق بعض مطالب الكرد، ومكونات شمال وشرق سوريا الأخرى. هذه مصلحة مشتركة ولا ريب، فدمشق و”قسد” تُدركان حتمية التحاور بينهما، وتُدركان أن ذلك لن يتم من دون حل سياسي يُوفّر بعض الضمانات للقوى المحلية ويُوفّر لدمشق موارد اقتصادية لإدارة المنطقة. قد لا تكون دمشق و”قسد” جاهزتين لمثل هذه المقاربة، وخصوصاً في ظل ضبابية الموقف الأمريكي في عام انتخابي، ولكن برأينا يُمثّل التقارب التركي ـ السوري، فرصة لتحفيز حل واقعي يسمح بعودة الدولة السورية ومؤسساتها لتلك المنطقة مع توفير ضمانات أساسية للجميع مما قد ينزع فتيل اندلاع جديد للعنف لا أحد يريده.

ثانياً؛ المدخل الاقتصادي:

تتطلب حركة الاقتصاد بين أوروبا وتركيا والخليج المرور عبر سوريا، وتوقفها لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، حرم كلاً من سوريا وتركيا من عائدات كبيرة قد تشكل رافعة مهمة في تحفيز السلام بينهما. لن يحدث مثل هذا الأمر من دون تقارب فعّال، إذ لا تكفي بعض التنسيقات اللوجستية، بكفالة الحليف الروسي المشترك. هناك حاجة إلى إجراءات إدارية وبيروقراطية وأمنية تتطلب تخاطب الدولتين. قد يُوجد مثل هذا الحافز مقاربات محلية على الأرض تشبه مقاربات الوضع في درعا بعد 2018، بنسخ مطورة عنها، ومن دون تغيير كبير في الوضع العسكري في شمال سوريا مرحلياً. هذه فرصة للجميع، لعودة الدولة السورية الواحدة ومؤسساتها المدنية، مع توفير ضمانات حماية للجميع.

ثالثاً؛ إشكالية اللاجئين:

تحتاج الحكومة التركية إلى إعادة عدد مؤثر من اللاجئين السوريين، مما يُفقد المعارضة التركية أحد أوراق ضغطها السياسي عليها. تُدرك تركيا أنها لن تقدر على إعادتهم جميعاً وأن عودتهم إلى شمال سوريا مسألة شبه مستحيلة، في ظل الاكتظاظ السكاني فيها، والذي ينذر بانفجارات اجتماعية ستنعكس أمنياً على تركيا. عليه؛ هي بحاجة إلى مخاطبة السلطة السورية، لضمان عودة آمنة إلى كل المناطق السورية. المخاطبة هنا تعني عودة نسبة من اللاجئين، وتعني أيضاً توفير متطلبات إسكانهم، وتشغيلهم، وهنا سيتعين على الطرف التركي، وربما الوسيط الروسي، وبعض الداعمين العرب المشاركة في التخطيط وتغطية بعض فواتير إعادة إعمار سوريا. ومن دون ذلك لا مصلحة للسلطات السورية في عودة أعداد كبيرة من اللاجئين. غير أن مثل هذه الترتيبات تصطدم بعقبات كبيرة، ليس أقلها “قانون قيصر” الأميركي، والامتثال المفرط للعقوبات، ناهيك عن صعوبات لوجستية جمة لا يسهل تجاوزها من ناحية توفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين. وهذه فرصة لاستخدام الحافز الاقتصادي بشكل إيجابي للتفاوض على إطار سياسي يضمن حماية مقبولة للجميع!

إقرأ على موقع 180  الإنسحاب الأمريكي من سوريا.. "بروباغندا" أم حقيقة؟

إذاً فالمصلحة المشتركة كبيرة، والعقبات كبيرة أيضاً، ولكن التاريخ يُذكّرنا بأن “المصالح تصالح” كما يقول المثل الشامي، والمصالح تجعل الطرفين قادرين على تذليل العقبات.

تحتاج القوى السورية المعارضة إلى فتح خطوط الحوار مع جميع الأطراف العسكرية والسياسية والمدنية، من دون استثناء، لبناء توافق الحد الأدنى الذي يُوفّر أفضل شروط للاستفادة من التقارب التركي مع سوريا

رابعاً؛ عقدة الفصائل المسلحة:

تبقى عقدة كبيرة لا يمكن تجاوزها حالياً، برأينا، من دون حل سياسي كبير. هذه العقدة هي عقدة الفصائل المسلحة في إدلب وشمال حلب. وللسلطات السورية خياران في حال أرادت المصالحة: الأول؛ إما أن تُصالح بعودة إدلب لها، وهنا عليها التعامل مع فصيل مدرب، مؤدلج، عديده عشرات الآلاف في إدلب أولاً، وفصائل حلب، وفوضى السلاح فيها ثانياً، وملايين السكان فيهما، بما يمثلونه من عبء اقتصادي واجتماعي وسياسي. الخيار الآخر، أن تُصالح وتُبقي شمال حلب وإدلب تحت سيطرة النفوذ التركي، وهذا ما لن توافق دمشق عليه أياً كان الأمر.

وإذا افترضنا أن التقارب السوري ـ التركي سيتطلب حلاً موازياً للشمال الشرقي إضافة للشمال الغربي فنحن نتكلم عما لا يقل عن 40% من السكان المتواجدين على الأراضي السورية اليوم، جُلّهم يخشى عودة المنظومة الأمنية إلى مناطقهم، ناهيك عن التحديات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي ستواجه دمشق معهم. لن تتخلى السلطة السورية عن شمال البلاد، لكنها تدرك أن هذا التمسك، يتطلب منها تنازلات كبيرة، قد تصب في مصلحة الوصول إلى حل سياسي مرضٍ ليس فقط للمعارضة، ولكنه قد يكون مسار الإنقاذ الوحيد الممكن لكل السوريين، وبما يضمن وحدة البلاد ويوجد إطاراً من الاستقرار المطلوب إقليمياً.

من جهة أخرى، ينبغي القول إن سوريا، بالنسبة لتركيا، ليست كمصر، وبالتالي احتمالات تخلي تركيا عن المعارضة السورية السياسية بشكل كامل ضعيفة، كونها ستحتاج لورقة ضغط لضمان تطبيق التوافقات التي تُقرُّ مع الجار السوري. وهذا قد يتيح للأطراف السورية المعارضة التعامل مع مثل هذا التقارب كفرصة للتفاوض على تفسيرات منطقية للقرار الدولي الرقم 2254 تبنى وفق موازين القوى على الأرض لا التمنيات والرغبات، وبما يمنع المزيد من الألم السوري مع احتمال لمساحة عمل سياسية في سوريا موحدة وآمنة.

في الخلاصة؛ تحتاج القوى السورية المعارضة إلى فتح خطوط الحوار مع جميع الأطراف العسكرية والسياسية والمدنية، من دون استثناء، لبناء توافق الحد الأدنى الذي يُوفّر أفضل شروط للاستفادة من التقارب التركي مع سوريا. بقاء الوضع السوري الراهن في حالة مستمرة من “الستاتيكو” لم يعد ممكناً. وعلى كل من يراهن على أن ينساه العالم في زاوية الشمال السوري أن يُعيد التفكير بذلك بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. الفرصة الوحيدة هو أن تتجاوب القوى السورية المعارضة، بواقعية وشجاعة، وربما الكثير من المغامرة، مع المشهد السياسي اليوم حتى تكون جزءاً من الحل بدل أن تكون ورقة مقايضة فيه لا أكثر ولا أقل!

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  تحديات وفرص "الأمن القومي الإسرائيلي".. تقييد قوة حزب الله!