إنتهت حفلة الإنتخابات النيابية وَوُلد برلمان 2022، بلا ضابط يتحكم بأكثرية حاسمة، بل مجموعة أكثريات عبارة عن أقليات في آن معاً. برلمان هو نتاج قانون مشوّه وإنتفاضة مقيمة ـ ضائعة وحريرية مُعلقة ـ منتظرة وإغتراب ثأري بلا رجعة. برلمان سيتحول عبئاً على جميع اللاعبين فيه، يوماً بعد يوم، إلى حد ترحمهم على أنظمة رئاسية أو ملكية.. ولا بأس بفراغ صار صديقاً للبنان ولكل اللبنانيين!
لكل قراءته في برلمان 2022، من فؤاد السنيورة الذي تحدث في تقريره للسعوديين عن “هزيمة مدوية” مُنيَ بها حزب الله.. إلى سمير جعجع الذي يستجدي دول الخليج الضغط مُجدداً على سعد الحريري لوضع نوابه الثمانية تحت رايته، لعله بذلك يُحصّن “إنتصاره” غير المُبين، ناهيك بوليد جنبلاط الذي أتقن هذه المرة لعبة توازنات الداخل، ففاز بأكثر مما كان ينتظر وأدخل ما كان يحتسب، وأخرج من كان يجب إخراجه لعل الرسائل تصل!
بكل الأحوال، كيف سيتم تسييل أصوات نواب أرخبيل 2022 في إستحقاق تسمية رئيس الحكومة المقبل؟
لو أصر رئيس الجمهورية ميشال عون على موعد الإستشارات النيابية المُلزمة، يومي الأربعاء والخميس الماضيين، لكان مرسوم تكليف نجيب ميقاتي قد صدر في نهاية هذه الإستشارات، لكن “الرسالة السياسية” القاسية الدلالات التي بلغته من ثنائي حزب الله وحركة أمل، جعلته يتريث ويُعدّل المواعيد، لعل فترة الأسبوع الفاصلة عن الأسبوع المقبل، تأتي إليه بـ”خبر سعيد” ليس فيه اي حرف من حروف ميقاتي..
لماذا هذه الحدّة العونية وتحديداً الباسيلية في التعامل مع تكليف ميقاتي مجدداً؟
للمسألة أكثر من بعد؛ فرئيس حكومة تصريف الأعمال، مارس التقية السياسية مع تكليفه الأخير طوال ثمانية أشهر. كان يُضمر شيئاً ويُعطي من حلاوة لسانه كل ما يشتهيه باسيل ويطيب له. نام ميقاتي وباسيل في سرير واحد ومن حولهما ظلال تعيينات تسرح وتمرح وأحلام زهرية تُحلّق في سماء “علاقتهما” المستجدة، قبل أن يتبين مع الأيام، أنها مجرد “سراب عابر”، وبوظيفة زمنية محددة، برغم “إستشعار” نبيه بري المبكر لأمر ما فبركه الرجلان خلسة، ولطالما كان يُمني نفسه بأن يقبض عليهما بالجرم المشهود، غير أن لبنان كان يتعرف على مدى الأشهر الحكومية المنقضية على حرفة سياسية جديدة: حرفة تضييع الوقت والفرص وإعطاء الإشارات المتناقضة وتركيب الطرابيش في الداخل والخارج في آن معاً.. إلى أن طوى الله أمر تجربة حكومية لم تكن إلا كسابقاتها.. لولا إنجاز يتيم هو إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها، بكل ما أتت به من تناقضات ومفارقات.
الآن، تغيّرت المقاربة الميقاتية عما كانت عليه قبل أقل من سنة. عهد ميشال عون إنطوى فعلياً. فرصة تصريف الأعمال مفتوحة على مصراعيها، سواء أعيد تكليفه أم تفوق أحد آخر عليه، وهو أمر مستبعد حتى الآن. لا بد من نقلة ما من موقع التقية إلى موقع الهجوم. “موقعة الكهرباء” هي أفصح إشهار علني بإنتهاء المساكنة مع باسيل. بذلك، لا يُعوّل ميقاتي على “الراحلين”، بل يُراهن على “الباقين” أمثال “الثنائي” وجنبلاط وسليمان فرنجية وسعد الحريري وغيرهم ممن كان بإمكانهم أن يوفروا له ليل الخميس الماضي حوالي الستين صوتاً، مقابل تشتت الأصوات الباقية، على “ميني مرشحين” لرئاسة الحكومة، حاول بعضهم جس نبض عواصم معينة، لكنه وجد أن باريس، كما واشنطن والقاهرة، على حماستهم لميقاتي، مع تطور مستجد وغير مسبوق وهو عدم ممانعة الخليجيين ولا سيما السعوديين لإعادة تكليف ميقاتي، وهذا يعني أن أسماء من عيار نواف سلام لم تعد موجودة في حسبان أحد، لا عربياً ولا غربياً ولا حتى في أقبية معراب!
هذا وحده يُفسر سر قوة أو إستقواء ميقاتي، وهذا يدلُّ على أن ثمة مصلحة للأخير بخوض إشتباك سياسي مفتوح مع باسيل الطامع بحكومة سياسية وبحقائب دسمة وتعيينات في 29 وظيفة فئة أولى بالحد الأدنى قبل الحادي والثلاثين من تشرين/أكتوبر المقبل، موعد إنتهاء الولاية الرئاسية.
لن يتجرأ أحدٌ من المسؤولين اللبنانيين على الهمس بالرقم 29 أمام الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين بدءاً من يوم غدٍ (الإثنين). كل ما قيل حتى الآن، هو مجرد مناورات. على الأرجح، سيفضي المشهد إلى إعلان تمسك لبنان بكل المنطقة المتنازع عليها (860 كلم2) تحت سقف الخط 23 مع قابلية لتعويم الخط المتعرج بشرط أن يعطي حقل قانا كاملاً للبنان
حسابات رئيس التيار الوطني الحر لا يبدو أنها متطابقة مع مواصفات يشتهيها حلفاء آخرون ولا سيما حزب الله للرئاسة الثالثة. صحيح أن حزب الله يُنكر أنه كان يريد الفوز بأكثرية برلمانية، لكن الأصح أنه حتى لو حصدها لم يكن يرغب بلبس هذا الثوب، بل رميه في أحضان من يُخفف وطأة حصار دولي وعربي وتبعات ملف معيشي قابل للتدحرج. لذلك، لا مرشح موحداً لرئاسة الحكومة لكل من حزب الله، أمل والتيار الوطني الحر، أقله حتى الآن، وهو الأمر الذي يُذكرنا بما حصل عشية تكليف ميقاتي، عندما شنّ التيار الحر حملة على “مرشح الشيطان الأكبر” (ميقاتي)، قبل أن يتبين أن باسيل قرر أن يعطي أصواته لنواف سلام الذي كان يحظى وقتذاك بدعم أميركي ـ خليجي، لولا أن حزب الله إستدرك ونظّم “تفاهماً ما” إنتهى مفعوله مع صدور نتائج الإنتخابات النيابية!
إنها السياسة على الطريقة اللبنانية. فيها ما فيها من بهلوانيات وتشقلبات وخيانات. تسويات من تحت الطاولات أو فوقها. زدْ على ذلك أن حدود لبنان تمددت منذ العام 2005، تاريخ خروج سوريا منه. صارت له حدوده الأوروبية والأميركية والعربية والإيرانية والتركية. صار رهن إشارة مجموعة ضباط (بدل الضابط الواحد الأحد) ولو كانوا برتبة سفراء. هل يكون مفاجئاً أن نسمع جنبلاط يترحم يومياً على أيام غازي كنعان؟
بكل الأحوال، ميقاتي هو الأوفر حظاً لرئاسة الحكومة، ولو أن اللعبة الداخلية يمكن أن تحتمل مفاجآت، لكن الموقف الخليجي والفرنسي والأميركي، لا يكتفي بتسهيل إعادة تكليف ميقاتي بل ينصح بإنضمام أكبر طيف لبناني إلى حكومة جديدة لن يوقع ميشال عون مراسيمها حتماً إلا بمواصفات محددة لن تأتيه أو بعد إعتذار ليس مسموحاً تقديمه في إنتظار ما سيأتي من تطورات في لبنان والإقليم (مثلاً؛ هل يقبل باسيل بحكومة يشاركه فيها جعجع بنصف عدد الوزراء المسيحيين وماذا إذا طالب الأخير بوزارة الطاقة فقط؟).
النقطة الأهم التي تحظى بإهتمام الخارج هي رئاسة الجمهورية. بعد ثمانين يوماً من الآن، يُصبح مجلس النواب مُرشحاً للإنعقاد، بموجب المادة 73 من الدستور التي تنص على الآتي: “قبل موعد انتهاء ولایة رئیس الجمهوریة بمدة شهر على الأقل أو شهرین على الأكثر یلتئم المجلس بناء على دعوة من رئیسه لانتخاب الرئیس الجدید وإذا لم یدع المجلس لهذا الغرض فانه یجتمع حكما في الیوم العاشر الذي یسبق اجل انتهاء ولایة الرئیس”.
هل يتوفر النصاب الدستوري من الجلسة الأولى، إذا قرر النواب السياديون (سواء الـ13 أو التقليديون وعددهم قد يصل إلى الثلاثين مجتمعين) عدم مقاطعة جلسة إنتخاب الرئيس مهما كانت نتائجها؟ ومن سيكون عندها الأوفر حظاً (لو وضعنا باسيل وجعجع خارج المعادلة)؟
بكل الأحوال، إذا أعيد تكليف ميقاتي، ما هي المهام التي تنتظر حكومة تصريف الأعمال حتى إنتخاب رئيس جديد؟
دعونا نكتفي بتناول ملف ترسيم الحدود البحرية وقول الآتي: لن يتجرأ أحدٌ من المسؤولين اللبنانيين على الهمس بالرقم 29 أمام الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين بدءاً من يوم غدٍ (الإثنين). كل ما قيل حتى الآن، هو مجرد مناورات. على الأرجح، سيفضي المشهد إلى إعلان تمسك لبنان بكل المنطقة المتنازع عليها (860 كلم2) تحت سقف الخط 23 مع قابلية لتعويم الخط المتعرج بشرط أن يعطي حقل قانا كاملاً للبنان، ليتبين لاحقاً أن هوكشتاين إعتمد صيغة مختلفة جعلت المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم يؤكد له من الدوحة وقبل توجهه إلى بيروت، أن كل أهل السلطة في لبنان غير موافقين على إقتراحه.
هذا الإنقلاب الأميركي (بمضمون إسرائيلي) يطرح أسئلة تتصل بالمكامن في حقل قانا، وهي متوسطة نسبياً وبعوائد مالية متواضعة أيضاً، ولماذا قرّر الإسرائيلي أن يقتطع مئات الكيلومترات من هذا الحقل، وهل للأمر صلة بخط الأنابيب الذي سيربط إسرائيل بتركيا بعد طي مشروع الأنبوب المتوسطي من شمال فلسطين المحتلة إلى أوروبا، بسبب إستحالته تقنياً (يصل عمقه إلى 4000 آلاف متر ولا تقنيات متوفرة حتى الآن لهكذا أعماق).
المؤسف أن حزب الله وتحديداً أمينه العام السيد حسن نصرالله سيجد نفسه مُحرجاً أمام طبقة سياسية ستعطي، عاجلاً أم آجلاً، الضوء الأخضر للإسرائيلي للتنقيب في كامل حقل كاريش، بينما كان هو يُحذر الإسرائيليين من الإقدام على مثل هكذا خطوة، وذلك “تتويجاً لبنية عسكرية ـ لوجستية متكاملة للرصد والرد وتحمل كل إرتدادات ذلك، براً وبحراً وجواً”!
عندما كُلّف ميقاتي في أيلول/سبتمبر الماضي، وعد بنزول الدولار إلى 12 ألفاً ومجيء الكهرباء 12 ساعة وإقرار موازنة 2022 وتوقيع الإتفاق مع صندوق النقد وإجراء الإنتخابات. أمرٌ واحدٌ لم يأتِ على ذكره نهائياً أمام الصحافيين: الرهان على “البينغو” (BINGO).
لننتظر ما سيحمله هوكشتاين ولكن للأسف مع فرضية خسارة اللعبة، فالمكتوب يُقرأ من عنوانه. مبروك “البينغو” للأمين العام الجديد لجمعية المصارف فادي خلف ولكل نظرياته الخنفشارية عن إعادة تكوين الودائع من خلال المداخيل النفطية والغازية.. للبحث صلة.