المواقف ذاتها في المؤتمرين القومي العربي والقومي ـ الإسلامي. لكن أحدهما يركز على قضايا قومية يخلو منها الآخر، والثاني يركّز على قضايا إسلامية يخلو منها الآخر. صارت الثقافة العربية سلعة تقدم كالمتاجرة بالمفرّق. مع فارق بسيط هو مراعاة المشاعر العربية في الواحد مقابل مراعاة قضية فلسطين في الآخر، على اعتبار أنها قضية إسلامية. لكنهما يضعان القضية، كل قضية، فوق الوجود، مع إعطائها الأولوية عليه. على الوجود أن يخدم القضية، وهذه القضية هي في النهاية ما يراه المؤتمرون صحيحاً ومفيداً للفريق العربي الحاكم الذي ينتمون إليه.
هم جميعاً وثقافتهم عدة شغل عند الأنظمة، فالنظام العربي منقسم، ويموّل كل فريق منه طرفاً في النزاع العربي بالمال والسلاح. ولا مانع في العادة أن يستعين فريق بقوى خارجية. كثرت هذه حتى أصبحت المنطقة ساحة لحرب عالمية. فهي حروب موضعية لكنها ذات طابع عالمي في الوقت ذاته. وهي حروب عربية-عربية جديدة الطابع والأسلوب. تتغيّر فيها الأحلاف، لكن الهدف دائماً هو استمرارية هذه الحروب.
منذ ثورة 2011، تضامنت الأنظمة العربية، وقضى تقسيم العمل بينها بانحياز فريق في السلطة الى طرف في النزاع دون الآخر. المجتمعات العربية رفعت شعار”الشعب يريد إسقاط النظام”، والمنظومة العربية تدافع عن وجودها واستمراريتها. توزّع المال والسلاح على الأطراف، وتدعم هذا الفريق أو ذاك بما يضمن استمرار النزاعات المسلحة. هي حروب أهلية لكنها ليست حروباً بين الناس، بل حروباً بين الناس والمنظومة الحاكمة. تحويلها الى حروب أهلية ليست مسألة مستحيلة، لما في هذه المنطقة من تنوّع وتعددية إثنية، وقبلية، ومذهبية، وقومية. اللغة العربية توحد هذه المنطقة. هي في آن واحد لغة القرآن، والفصحى، والعاميات. لغة القرآن ثابتة لأسباب دينية، أما العاميات فهي تقترب من الفصحى، والعكس صحيح، بسبب وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
استخدام تعبير الأمة العربية الإسلامية، على تناقضه، هو جزء من عدة الشغل الثقافية. فالأمة تعبير قرآني يشمل جميع المسلمين في كل الأرض. وعندما نقول أمة إسلامية فذلك يشمل كل المسلمين بعد ظهور الإسلام. أما تعبير الأمة العربية، فقد ظهر في القرنين الأخيرين للدلالة عما هو موجود في الوعي، كأمر يجب أن يتحقق في المستقبل، أو هو أمر راهن متجل في وعي الكثيرين.
أما ضرورة “وحدة الأمة بجناحيها القومي والإسلامي”، فلا ندري كيف سيتوحّد بلدان من أقصى افريقيا وأقصى أسيا الشرقية، وهما لا يتكلمان لغة واحدة! فهذا مما لا يعقل. و”دور الأمة” يعني أن تكون أداة لمن بيدهم الأمر، وهم في هذه الحالة مشايخ الدين الذين لا يختلفون كثيراً عن مشايخ القومية في بنيتهم الفكرية، وفي أن جمهور الأمة يجب أن يؤدي الدور المطلوب منه. فالناس بنظرهم أداة لا هدف لها يجوز التعبير عنه. والهدف موضوع في خدمة الطاغية. وكل البلدان الإسلامية والعربية يحكمها الطغاة الذين يجب أن تقدم إليهم خدمات ثقافية. هم يطلبونها أو يفرضونها.
أما القضية الفلسطينية، فهي جاهزة لتكون جوهرية. القضية جوهر الوجود العربي والإسلامي، وتحقق صموداً واستمرارية. ومع ضرورة الحوار بين أطرافها المتناقضة، وبرغم ما يقترفه المستوطنون الإسرائيليون من ضم للأراضي الفلسطينية، المنفخة الذاتية هي أن نخسر الأرض بالتدرّج وندعي النصر في الوقت ذاته، وننكر الهزيمة في آن معاً. نعم نقاتل ونناضل لكن من موقع المهزوم!
الإقرار بالهزيمة ليس من أجل الاستكانة والاستسلام بل من أجل أن نجد طرقاً وأساليب في المقاومة غير ما تعودنا تكراره منذ قيام إسرائيل. أما آن لنا أن نسأم الأساليب التي تؤدي بنا الى النتائج عينها المزرية؟ ومع ذلك نرفع فرشوخة أصابعنا بالنصر كما كان أبو عمار يفعل!
مهمتهم الأساسية هي التزوير وإظهار الهزيمة نصراً. لا يستطيعون الاعتراف بالهزيمة، فهذا يسيء لصورة الزعيم. مطلوب منهم سطحية التفكير، لذلك لديهم العقل المستريح، يضاف الى ذلك الاستعلاء على الآخرين. هم وحدهم يواجهون “أميركا”. لا أحد غيرهم يتمتّع بهذا المجد. ومتى كان في المواجهة هزيمة، فإن بنيتهم الفكرية تُحوّل الهزيمة الى نصر ولو على سبيل الخداع
الدور الذي يدعيه رجال الدين المسلمون أكبر بكثير مما يسمح به علمهم، ومعرفتهم؛ بعضهم من السنة يدعون “وراثة الأنبياء”، وبعضهم من الشيعة يدعون ولاية الفقيه. حبذا لو تواضعوا قليلاً وفكوا تحالفهم مع الطغاة، معتبرين مهمتهم الأساسية والوحيدة هي الدين والتعبّد، انسجاماً مع الناس لا تسلطاً عليهم. وهم تبعاً لذلك يشكلون حلفاً لا تنفصم عراه مع الطغاة. وهم في الآن ذاته جزء هام من عدة الشغل الثقافية للطغاة. إذ لهم اليد الطولى في تبرير الوضع القائم، والانصياع للحكام، ومحاربة من يعاديهم بتهمة التكفير والإرهاب. الأكثر من ذلك، مع الارتداد الى مزاج ديني الهوى لدى العامة، يوفر رجال الدين الزاد الايديولوجي للأصولية. إن كلامهم عن البطولة والصمود هو في الحقيقة مدح للأنظمة، وإن اختلفت هذه الأنظمة في ما بينها تبعاً لدواعي تقسيم العمل بين أطرافها.
تختلف ايديولوجيا الإسلام السياسي عن الايديولوجيا القومية، فلماذا مؤتمر يجمعهما؟ فهل في الأمر حوار جدي بين أصحاب الايديولوجيتين؟ هذا ما لم نره في المؤتمر. أم أن المؤتمر هو من جملة بعض التظاهرات السياسية لإطلاق شعارات يريدها فريق من المنظومة الحاكمة الإسلامية. وهل القوميات الإسلامية الأخرى غير العربية تجد تعبيراً لها في المؤتمر؟ هل يؤمن الإسلاميون الحاضرون في المؤتمر بالقومية العربية؟ أم أنهم لا يميزون بين القومية العربية والإسلام السياسي، على أساس أن الطرفين لديهم داعم واحد في الحرب الأهلية العربية-العربية، ومهمة المؤتمر أن يكون واجهة لشيء ما؟
يتمتع القوميون العرب وممثلو الإسلام السياسي بالبنية الفكرية ذاتها. إذ يتمتّع كل فريق منهم بأفكار قليلة، وكثير من النضالية المبنية على المنفخة والمبالغة في الانتصارات، هذا في وقت أن ما يتحقق على الأرض هو خسارة مزيد من المواقع وكثير من الأرض الفلسطينية. بنية عقلية تُحوّل الهزائم انتصارات وتُورّط عدداً قليلاً من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين في معارك لا شأن لهم بها. وتنتهج سياسة “الصمود” على صعيد دول عربية ممانعة، لكن لا ترد بشيء على اعتداءات إسرائيل. همها الأوّل السيطرة على شعبها لا النضال من أجله. كما هي حكومات قمعية أو تدعم حكومات استبدادية قمعية، فهي تعتبر أن الشعب أو الأمة اداة. يجب السيطرة عليها وقيادتها بدلاً من تمثيلها. لا مكان عندهم للسياسة بمعنى مشاركة الناس في المجال العام، وتحولهم الى مواطنين في دولة حديثة. همهم الأول والأخير هو الحفاظ على السلطة في أيديهم ولو كان على حساب الشعب ومصالحه. وجود الناس ليس مهما. المقدس لديهم هو القضية التي يرونها هم مناسبة. يبالغون في دعمهم لأنظمة الاستبداد. حتى أنهم توقفوا عن المطالبة بالتمثيل وأخذ رأي الناس. على الناس أن يأخذوا رأيهم ويكونوا أوفياء لهم ولمقاومتهم. فاشية أخرى. البنية المشيخية هي في صميم هيكلية الوعي لدى هؤلاء القوميين العرب وهؤلاء الإسلاميين.
ثقافة بائسة. الأفكار قليلة. ضيق الأفق خانق. تظاهر بالروح النضالية. المطلوب منهم أن يكونوا عدة ثقافية للأنظمة التي صادرت الثقافة، وتريد مسوّقين لها. ليس منهم من هو قادر على القيام بدراسة أو بحث فيه إبداع فكري، إذ أن الإبداع ممنوع لأنه يتعلّق بالحرية، وهذه ملغاة. تنتشر الأصولية والمزاج الديني أمام أعينهم للحلول مكان عقلانية باقية من المراحل السابقة، ولا حيل لهم في مواجهة الأمر مع الأصوليين. يلعبون لعبة السلطة، ومدى الاستفادة منهم، دون نقاش فكري لأي شيء. عمق التفكير عدوهم. شمولية الوعي ملغاة: ممنوع أن يفكروا إلا بالتفاصيل. وحتى في هذه يؤدون الوظيفة المطلوبة منهم. ما يعتبرونه قضية هو أمر مرسوم لهم. ما يعتبرونه تحررا هو الترداد الببغاوي لأوامر السلطة الحقيقية. ينتهون الى خلاصة واحدة وهي نظرية المعاداة لأميركا لا للرأسمالية، لبلد بعينه لا للامبريالية. السياسة في وعيهم هواجس أو قصاصات ورق تنتقد الغرب وسياسته، يقتطعونها من الجرائد الغربية. يتابعون سياسة الغرب كي يكتشفوا السلبيات، والسلبيات عند العرب كثيرة. لكن يصعب عليهم تكوين نظرة شاملة عن الغرب والتطوّر الدولي؛ هذا ما يحتفظ به أرباب المنظومة الحاكمة.
الأسهل بالنسبة إليهم هو المواجهة الثقافية مع الغرب لا المواجهة السياسية، ناهيك بالمواجهة العسكرية. البلدان العربية التي تتعرّض لهجمات اسرائيلية أو أميركية لا يدافعون عنها، رغم أن الاعتداءات شبه يومية، وتدمير الدولة عملية مستمرة.
ادعاء المواجهة الثقافية أنتج كوارث على الصعيد الوعي، إذ أن مصادرة الأنظمة للثقافة ساهمت في إنتاج فكر سطحي ونظام تعليمي رث. وآثار ذلك سوف تظهر لدى الأجيال القادمة. يعلّمون التلامذة الجواب لا السؤال. فهذا ممنوع، إذ هو موضع شبهة. كما أن الفقه يُستنبط من بطون كتب التراث. الأفكار القليلة حول الأوضاع الراهنة، المحلية والعالمية، تُستنبط من فكر الطاغية الزعيم. هي مشيخية قومية ودينية. والأمر سيان. مشايخ الدين يلبسون العمامة. أما عند مشايخ القومية، فالعمامة مختفية. يلبسون “قبعة الإخفاء” كما يُقال في اللهجة الدارجة.
مهمتهم الأساسية هي التزوير وإظهار الهزيمة نصراً. لا يستطيعون الاعتراف بالهزيمة، فهذا يسيء لصورة الزعيم. مطلوب منهم سطحية التفكير، لذلك لديهم العقل المستريح، يضاف الى ذلك الاستعلاء على الآخرين. هم وحدهم يواجهون “أميركا”. لا أحد غيرهم يتمتّع بهذا المجد. ومتى كان في المواجهة هزيمة، فإن بنيتهم الفكرية تُحوّل الهزيمة الى نصر ولو على سبيل الخداع. نعرف أن الامبراطورية الأميركية عدوانية، وأنها تتدخّل في كل قطر عربي ضد مصالح المجتمع أو ما يسمونه الأمة. ونعرف بالملموس أن إسرائيل عدوانية. تتصاعد في عدوانها من أجل إذلالنا. لكن الرد عليها مؤجّل الى “اللحظة المناسبة”. نختلف وإياهم على شروط مقاومة الامبراطورية وإسرائيل. هذا عدا عن عدوانيات الامبراطوريات العظيمى من أهل المنطقة.
العداء ضد الامبريالية واجب على كل ذي حس إنساني. المطلوب أن يركّز العداء على عقلانية تسأل قبل أن تجيب. والمطلوب أيضاً مشاركة الناس في القرار، وألا يتحوّل هؤلاء المناضلون الى أعداء الناس.