تظاهرات 2022 هي الصدع الثاني بالنظر إلى التأثير البنيوي الذي تحمله على الأفراد والمجتمع والدولة، فهي لم تأتِ من فراغ أصم، إنما بُنِيَت على خط زلازل متصاعد على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، بما في ذلك عملية التفتيت التدريجي للمظلّة الواسعة التي كانت تحمي الثورة.
هذا التفتيت تمثل بتحييد شخصيات واتجاهات وتيارات وحتى قيم مشتركة، إلى جانب اهتزاز الثقة بقبض الدولة على خيوط اللعبة. هذه الأمور لا تمرّ مرور الكرام في بلد لا يزال يصف نفسه بالمملكة، ومع شعب خريطته الجينية مبرمجة على مدى القرون الماضية على التمرّد بمجرّد الشعور بأن الحكم – بغض النظر عن أسلوبه – في حالة انعدام للوزن.
إسقاط الطائرة الأوكرانية في كانون الثاني/يناير 2020 كان واحدًا من هذه اللحظات التي صنعت هكذا انطباعًا. الصاروخ الذي قتل 176 شخصًا معظمهم من الإيرانيين أو من أصول إيرانية في الطائرة المنكوبة أشعل حينها كل الجمر المدفون تحت الرماد. الغضب في الشوارع كان جذره اللحظي سوء إدارة الأزمة واستسهال التعاطي معها بالأخطاء حينًا، وإخفاء الحقيقة حينًا آخر، فضلًا عن شراء الوقت، علّ الساحر يُخرِجُ من تحت كمّه أرنبًا يسمح بتخطي ما يمكن وصفه بلحظة حقيقة إيرانية لم تكن على البال ولا على الخاطر.
صحيح أنه للنظام جمهوره الذي يعوّل عليه. هؤلاء مقتنعون حتى النخاع بالثورة المستمرة، وهم ليسوا بقلّة؛ لكنّ المعضلة الحقيقية هي أنّ الانقسام الإيراني في هذه اللحظة أصبح أكثر عامودية من أي وقت سبق
الذين نزلوا حينها وغيرهم ممن في البيوت كانوا حتى لحظة الصاروخ يتعاطون بعيدًا عن ولاءاتهم وكرههم وحبهم للنظام بنوع من الثقة بأنه في نهاية المطاف ممسك بخيوط اللعبة. والفُرْسُ بطبعهم، في حبهم وكرههم، يقدّرون الحاكم القوي، لذا يقدّرون كورش الكبير وإسماعيل الصفوي وشاه عباس الأول ونادر شاه ورضا بهلوي والإمام الخميني أكثر بكثير مما يحترمون الشاه حسين الصفوي وملوك القاجار الأواخر ومحمد رضا بهلوي، لأن من هم محل تقدير أمسكوا بالخيوط حتى ولو كانت النتيجة في النهاية أنّ بعضهم اختنق بها.
مشهد الطائرة المدمرة وخطاب الاستحالة العلمية ومن ثم الربط بالمؤامرة الغربية والحرب النفسية لم يكن بعيدًا عن مشهد الانتقام لاغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني، الذي ينظرُ إليه جزء وازن من الإيرانيين على أنه أسطورة عسكرية. حمل الرد رسالة إيرانية برؤوس عدة، تخللها شذرات مما سبق في قضية إسقاط الطائرة.
التهديدات التي سبقت ورفع السقف إلى مستوى المبالغة في تصوير الرد، ترك شعورًا لدى الناس أن كابوسًا سيحل على المنطقة والولايات المتحدة، وبالتالي فإن دم سليماني سيكلّف غاليًا. لكنّ الرد لم يكن كذلك. لم يُثبِّت معادلة ردعية واضحة، ودم صاحب أكبر جنازة في إيران الحديثة لم يمت في مقابله جندي أميركي واحد. كما في حادثة الطائرة، لم تصارح المؤسسة شعبها وذهبت نحو المبالغة وتقديم أرقام افتراضية لقتلى الأميركيين من دون دليل. في زمن المنصات المفتوحة والتواصل الاجتماعي، الدعاية المقولبة لم تعد تنفع، والشعور بعدم الثقة يتحوّل إلى حالة جمعية، بغض النظر عمن يؤيد الفرد أو ومن يعارض.
مشهد جنازة سليماني كان صورة عما يمكن للشعب الإيراني أن يتفاعل به لحظة تعرّض بلاده للأذى. حالة سليماني الشخصية، ومبدأ أن تغتال الولايات المتحدة قائدًا عسكريًا إيرانيًا، وتهديد واشنطن المباشر لطهران، كلها أمور صنعت مشهد الجنازة الأسطورية التي حملت بين جنباتها إكسير تجدد الثورة الإيرانية في شقها الدفاعي في مواجهة أي محاولة للهيمنة الخارجية، لكن النتيجة كانت خيبة أمل لدى المؤيدين، وشعورًا لدى المعارضين بأن النظام ليس كما يُصوَّر، أو على الأقل هو مثقلٌ بمشاكله إلى درجة عدم القدرة على الحركة حتى في مواجهة أعتى أعدائه.
قبل ذلك، سرقةُ الأرشيف النووي وبعدها اغتيال العالم محسن فخري زاده في وضح النهار، وما بينهما وما بعدهما من استباحة أمنية لشوارع ومنشآت إيرانية، ساهمت في إعادة تشكيل نظرة من يشعرون بالظلم أو عدم التمثيل أو العيش تحت قوانين لا تعنيهم ولا يعترفون بها. كل هذا صنع حالة تمرّد على سلطة لم تعد في نظرهم بذات الهيبة التي كانت عليها في السابق.
عمَّقَ هذه الحالة عاملٌ طال حياة كل الإيرانيين، وهو انهيار العملة أمام الدولار الأميركي، وخسارة الطبقة الوسطى مدّخراتها بفعل الضغوطات الاقتصادية الأميركية. لم تستطع حكومة الرئيس السابق حسن روحاني ولا الحكومة الحالية برئاسة إبراهيم رئيسي صياغة حل يعيد للناس جزءًا مما فقدوه. هكذا مجددًا، تعاظمت حالة فقدان الثقة، لا سيما مع حملة إعلامية خارجية منظمة هدفت للإضاءة على مكامن الفساد في الدولة وربط أزمات الداخل الاقتصادية بطموحات إيران الخارجية.
الصدع الثاني عميق وممتلئ بأسباب الشقاق، حافّته الظاهرة غياب اللغة المشتركة بين هذه الفئات المجتمعية والنظام، ثم يأتي التحوّل المجتمعي على مدى العقود الأربعة بين التديّن وثقافة التديّن، والتدين الظاهري أو المصلحي والعلمنة المتدثّرة بسلوكيات التديّن، وصولًا إلى التمرّد على الفكرة بين هذه الفئات
لم يكن لدى الدولة سرديتها الإستراتيجية المقنعة لهؤلاء، بل ولم يكن لديها وسيلة التواصل الجامعة التي يمكنها من خلالها تقديم هذه السردية في حال وجودها. عمّق ذلك غياب مجتمع مثقفين ومفكرين مسموعين، كالذي ساهم في صناعة جماهيرية الثورة في نهاية زمن الشاه، وفي تثبيت هذه الجماهيرية في السنوات الأولى عندما كانت تعصف بها الأزمات. صحيح أنه للنظام جمهوره الذي يعوّل عليه. هؤلاء مقتنعون حتى النخاع بالثورة المستمرة، وهم ليسوا بقلّة؛ لكنّ المعضلة الحقيقية هي أنّ الانقسام الإيراني في هذه اللحظة أصبح أكثر عامودية من أي وقت سبق.
المساحات المشتركة ضمُرت على امتداد خط زمني طويل شهد تفريغًا للمجتمع المدني الذي كان يومًا ما عماد الثورة ونصلها في مواجهة التحديات. ولأن إيران الجمهورية الإسلامية قامت على ثنائيات متعددة منذ انتصار الثورة، كان لسقوط الثنائية السياسية في البلاد المتمثلة بالتيارين الإصلاحي والأصولي وقعًا على سياق الأحداث، لا سيما وأنّ بعض الشخصيات الأصولية التقليدية، دينيًا وسياسيًا، وجدت نفسها خارج المعادلة وبحكم من وقع عليهم الحرم الثوري لمجرّد كونهم أكثر اعتدالًا من اللازم أو أقل التزامًا بالتعليمات مما يجب.
امتدَّ هذا التأثير إلى إيمان بعض المتقدمين سنًا من الشباب بجدوى الانخراط السياسي، ولدى الأكثر شبابًا، كان التأثير يدفعهم نحو الانفصال عن أصل الثورة وصناعة بديل متخيّل للبلد الذي يعيشون فيه.
اعتقال مهسا أميني ووفاتها المثيرة للجدل جعلا هؤلاء يستشعرون الخطر على فكرتهم المتخيّلة، فخرجوا وأخرجوا معهم آخرين معبئين بكل الأسباب المذكورة أعلاه. هم في الشارع اليوم وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يرفعون شعار: “زن، ازادى، زندگی”، أو: “امرأة، حرية، وحياة”. الاتفاق على شعار موحد بين المعترضين يؤكد مجددًا أن حركة 2022 تختلف عن حركات السنوات الأخيرة، وهذا ما يجعلها ناقوس خطر مدوٍيًا في بلد يواجه عقوبات دولية قاسية ومستقبلًا اقتصاديًا غير واضح، وهو الشعار الذي يتحوَّل إلى قضية، وإذا أضفنا إليه سلسلة من الأحداث المرتبطة به – كاعتقال ناشطات حقوقيات مثل نسرين ستوده وغيرها، وظهور حركة نساء شارع انقلاب والتي تمظهرت في خلع سيدات حجابهن في الشارع – كل هذا يُنبئ بمرحلة مختلفة على مستوى التحرّكات الشعبية في إيران. يزكي الأمر أن الحركة رأس حربتها النساء في بلد تشتهر النساء فيه بقوة الشخصية والعناد.
الصدع الثاني عميق وممتلئ بأسباب الشقاق، حافّته الظاهرة غياب اللغة المشتركة بين هذه الفئات المجتمعية والنظام، ثم يأتي التحوّل المجتمعي على مدى العقود الأربعة بين التديّن وثقافة التديّن، والتدين الظاهري أو المصلحي والعلمنة المتدثّرة بسلوكيات التديّن، وصولًا إلى التمرّد على الفكرة بين هذه الفئات. التمرّد بدوره كان تدريجيًا حتى وصل إلى لحظة مهسا أميني المحمّلة بكل ما سبق.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“
(**) الجزء الأول: وفاة مهسا أميني تُشعل “حجاب الأزمة“!