قرار “أوبك+”.. برسائل إستراتيجية متعددة

كان للإعلان، الذي أصدرته منظمة "أوبك +"، بشأن تخفيض الإنتاج النفطي، بمقدار مليوني برميل يومياً، صداه العالمي، الذي حمل رسالة موجَّهة إلى جميع الدول، مفادها أن هناك بيئة استراتيجية دولية جديدة، في طور التشكل والولادة، وتدفع في اتجاه تشكُّل منظومات إقليمية متعددة ومتداخلة، على مستوى معظم مناطق العالم، على نحو يدفع إلى التساؤل عن ارتدادات ما يحدث على منطقة غربي آسيا، وعن موقع سوريا فيها

تأتي أهمية الإعلان المذكور من أهمية المتفقَين، وهما روسيا والسعودية، في انقلاب واضح للرياض على الاتفاقية الأميركية السعودية، والتي تمت على متن المدمرة كوينسي، بين روزفلت وعبد العزيز آل سعود عام 1945. وإن كان هذا الأمر لا يعني الافتراق بين واشنطن والرياض، لكنه يُدلّل على هامش، في طور التوسع، لكل الدول التي ارتبطت بالسياسات الأميركية وخدمتها، بعد خروج بريطانيا غداة الحرب العالمية الثانية، من غربي آسيا وأفريقيا وغيرهما من المناطق، وحلول الولايات المتحدة مكانها.

وعدا عن الدوافع الذاتية والشخصية للسياسات الخليجية بصورة عامة، والسعودية على نحو خاص، فإن السياسات الأميركية ساعدت، إلى حدّ كبير، على تغيير رؤى سياسية متعددة، وخصوصاً بعد العقوبات الواسعة جداً على روسيا والاستيلاء على أموالها، بالإضافة إلى أموال رجال الأعمال الروس، على نحو أعطى انطباعاً راسخاً، أن هذه السياسات سوف تتكرر مع كل المخالفين للسياسات الأميركية، كسيف مُصْلَت يمكن استخدامه في أي لحظة.

وقد وفَّرت الحرب في سوريا الفرصة الكبرى لروسيا، كي تكون اللاعب الدولي الكبير في منطقة غربي آسيا، وأصبحت البديل المحتمل عن الولايات المتحدة، في حال استطاعت الانتصار في حربها في أوكرانيا، وهذا اقتضى منها وضع سياسات خاصة للمنطقة، والعمل على بناء شبكة علاقات تحالفية، مع كل الأطراف المتنافسة أو المتناقضة فيها، كي تخدم الاستراتيجية الروسية في المواجهة مع الغرب، بعد أن فشلت كل محاولات الشراكة معه، بالإضافة إلى جملة المكاسب الاقتصادية الهائلة المنتظرة.

وعلى الرغم من أنها تقود عملية التغيير، دولياً وإقليمياً، في هذه المرحلة، فإنها لا تمتلك سلطة الدولة العظمى، التي تستطيع فرض قراراتها وسياساتها على حلفائها، وهي في أمسّ الحاجة إلى كل الأطراف الإقليمية، إمّا من أجل مساندتها، وإمّا من أجل تحييدها، في الحد الأدنى.

فهي، بعد أن حققت مصالحها في سوريا، إن كان عبر وصولها إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، أو بسيطرتها على ممر الطاقة الأهم لمنافسيها، وخصوصاً الغاز القطري أو غاز شرقي المتوسط، فإنها في حاجة إلى إيران المعادية لـ”إسرائيل”، والمنافسة لتركيا والسعودية، وهي تمتلك موقعاً جيوسياسياً فريداً، يسمح لروسيا بالوصول إلى الهند، التي تشكل حلماً لها منذ بدايات القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى ضرورة تحالفها معها كثاني أهم احتياطي للغاز العالمي بعدها، بل ذهبت العلاقة بينهما إلى مدىً أبعد من الشراكة في الحرب السورية؛ إلى الشراكة غير المعلنة في الحرب الأوكرانية، بعد ما يحكى عن دخول الطيران المُسيَّر الإيراني فيها، ودخول إيران عضواً رسمياً في منظمة شانغهاي، وانتظار التوقيع على الاتفاق الاستراتيجي بينهما لمدة 20 عاماً.

روسيا بحاجة إلى “إسرائيل”، التي تستطيع التأثير في الاقتصاد الروسي الداخلي، بواسطة رجال الأعمال الروس، المزدوجي الجنسية، بالإضافة إلى الأقلية الروسية الكبيرة داخل “إسرائيل”. والأهم من ذلك هو الغاز في شرقي المتوسط، وهذا ما دفعها إلى السماح بضرب مواقع الجيش السوري وحلفائه، بإنذار وتنسيق مسبّقين

كما أن روسيا بحاجة إلى تركيا، المنافسة التاريخية لها ولإيران ولمصر وللسعودية، إن بسبب سيطرتها على المضائق البحرية بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، أو نتيجة منعها من استغلال الوجود الإسلامي التركي في أغلبيته داخل روسيا، أو الخشية من تحريك سكان دول آسيا الوسطى، الذين يربطهم بتركيا الدين والقومية، ولدى سكانها القابلية على التحرك وفق هذين العنوانين، في الفضاء الأوراسي، نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية وانتشار الفقر بينهم.

وهي في حاجة إلى السعودية، المنافسة لإيران وتركيا ومصر، والتي أثبتت، بعد اتفاقها معها عام 2016، أنها تستطيع تقويض العقوبات الغربية، عبر ضبط أسعار النفط وتدفقاته، على نحو يحمي تسويق النفط الروسي، وتحصيل مكاسب مالية كبيرة، توفّر لموسكو أسباب الاستمرار في مواجهة الغرب، مثلما هي في حاجة إلى حركة أنصار الله في اليمن، التي تدافع عن نفسها في الحرب التي شنَّتها عليها السعودية، منذ أكثر من 7 أعوام، وتشكّلت هذه الحاجة بعد أن أثبتت حركة أنصار الله قدرتها على البقاء، وتحولها إلى قوة كبرى، تستطيع السيطرة على مضيق باب المندب، الذي يشكّل مع قناة السويس، الممرَّين البحريَّين الأهم في العالم، بالإضافة إلى مخزونات النفط والغاز الواعدة في اليمن، وهذا ما رأيناه من صواريخ برّ بحر روسية فيها.

كما أنها في حاجة إلى الإمارات العربية المتحدة، التي ترتبط بعلاقات بـ”إسرائيل”، العدو الأول لسوريا، وهي في الوقت ذاته الصديقة لسوريا وإيران أيضاً. وعدا عن التحوّل في السياسات الإماراتية، عبر محاولة إقامة علاقات توازن بكل الأطراف الإقليمية المتنافسة والمتناقضة، فإنها انتقلت إلى تحقيق هذا التوازن على المستوى الدولي، بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، وهي تحقق الملجأ الآمن لرجال الأعمال الروس، ولرؤوس أموالهم.
‏وهي في حاجة أيضاً إلى قطر، التي ‏تُعَدّ الدولة الثانية الآن بعد روسيا في إنتاج الغاز، وتشكل خطراً، في المدى البعيد، على إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، ولسائر أنحاء العالم. وهي تحتاج إلى شكل من أشكال التنسيق معها لضبط أسواق الغاز العالمية، والسيطرة على الأسعار، ‏وهذا ما دفع قطر إلى الامتناع عن تزويد دول الاتحاد الأوروبي بالغاز السائل خشية إغضاب روسيا.

إقرأ على موقع 180  هل تنجح إيران في إعادة صياغة مسار فيينا؟

وهي في حاجة إلى “إسرائيل”، التي تستطيع التأثير في الاقتصاد الروسي الداخلي، بواسطة رجال الأعمال الروس، المزدوجي الجنسية، بالإضافة إلى الأقلية الروسية الكبيرة داخل “إسرائيل”. والأهم من ذلك هو الغاز في شرقي المتوسط، وهذا ما دفعها إلى السماح بضرب مواقع الجيش السوري وحلفائه، بإنذار وتنسيق مسبّقين. وفي الوقت نفسه، تستقبل وفود حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، بل تقبل تزويدهما بصواريخ الكورنيت من مخازن الجيش السوري. وذهبت، أبعد من ذلك، عبر تزويد حزب الله بثمانية صواريخ برّ بحر من طراز “ياخونت”، لتهديد منصات الغاز الإسرائيلية، بحسب ما سربت صحيفة “يديعوت أحرنوت” عام 2018.

‏كل هذه الأطراف الإقليمية أدّت، وما زالت، دوراً أساسياً في الحرب السورية من منطلقات متعددة، وهي كلَّها أطراف متنافسة أو متناقضة اندفعت في اتجاه الاشتراك في الحرب لأسباب خاصة بها، ولأسباب ترتبط بالمشروع الأميركي الإسرائيلي، أو مواجهته، والذي عمل على تدمير المنطقة، وخصوصاً سوريا، بسبب أهميتها الجيوسياسية، والتي توضّحت أهميتها بعد الحرب الأوكرانية، وتأثيرات حروب الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي، الذي كان من المفترض أن يكون وضعه مغايراً، لو قبلت سوريا مرور أنابيب الغاز القطرية عبرها إلى تركيا.

ضمن هذه البيئة الاستراتيجية القلقة، والتي لا يمكن حتى الآن التنبّؤ بمآلاتها، وخصوصاً بعد ارتباطها بنتائج الحرب النهائية في أوكرانيا، تعيش سوريا وضعاً قلقاً، على الرغم من استعادة السيطرة على قرابة 65% من الأراضي المحتلة، وتوقف أغلبية العمليات العسكرية الكبرى، والذهاب نحو الحل السياسي الإقليمي، والذي يقتضي النظر إلى مصالح الدول المتداخلة في الحرب السورية، وفقاً للرؤية الروسية، التي تستند إلى ضرورة استقرار منطقة غربي آسيا بأكملها، وخروج الولايات المتحدة منها، وبناء منظومة إقليمية جديدة جامعة لكل الدول.

وهو أمر صعب التحقّق، وأقرب إلى الاستحالة، بوجود كيان وظيفي غريب عن المنطقة، يُمثّل امتداداً للمشروع الغربي، ولن يزول إلّا بانكسار الغرب، وإقراره بأن هناك عالماً جديداً تقوده القوى الآسيوية، لتبقى المأساة السورية مستمرة، في انتظار ما تتمخّض عنه مسارات الحروب المتنقلة، وتدمير النظام الذي تشكَّل بعد الحرب العالمية الثانية. والأمر يحتاج إلى مراكمة أوراق القوة في الداخل السوري، بالتغيير العميق للخروج من المأزق الاقتصادي في الحد الأدنى، استعداداً للمرحلة المقبلة، والتي قد تأخذ أعواماً.

(*) بالتزامن مع “الميادين

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  ترامب أو بايدن: منظور دمشق وطهران‎