يرى الاتجاه الأول أن التاريخ يعيد نفسه، فالحربان العالميتان الأولى والثانية ارتبطتا بمجموعة من الظروف الدولية والإقليمية مثل الثنائية القطبية، والأزمات الاقتصادية، وصعود النعرات القومية، وأن هذه الظروف متوافرة فى البيئة الدولية المعاصرة فى ظل الأزمة الروسية الأوكرانية واتجاه العالم للتحول إلى حلفين كبيرين، أحدهما يشمل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، والآخر يشمل دول حلف الشمال الأطلسى (الناتو) والولايات المتحدة، فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة مرشحة للتصاعد خلال الأشهر القليلة القادمة وخاصة مع تفاقم أزمة الطاقة فى أوروبا، وتصاعد الحركات الشعبوية وخصوصا فى أوروبا والولايات المتحدة وهى الحركات التى تشبه تصاعد النعرات القومية الأوروبية وخاصة فى مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية (١٩١٩ــ١٩٣٩)!
الظروف الاقتصادية غير المستقرة فى الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا، تجعل الرأى العام هناك، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات السياسية والاقتصادية والقيادات العسكرية داخل هذه الدول، متحفظة على أى قرار من شأنه المجازفة فى شن حرب على روسيا أو الصين وجعل ذلك الخيار هو الأخير بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى
لكن وبرغم اعتراف الاتجاه الثانى بكل هذه الأزمات، إلا أنه يرى أن فرصة نشوب حرب عالمية ثالثة ضعيفة وذلك بسبب عدة أسباب، أهمها مقدار التشابك الدولى والذى يجعل هناك قدرا كبيرا من الاعتمادية المتبادلة وعدم القدرة على الانعزال وهو ما يُقلل من فرص نشوب حروب دولية على نطاق واسع! يرى هذه الاتجاه أيضا أن الظروف الاقتصادية قد تكون أحد أهم الأسباب التى ستمنع قيام حرب عالمية ثالثة، حيث إن قدرة القادة السياسيين على إهدار الموارد فى حروب عسكرية على حساب الإنفاق العام على التعليم والصحة والأمن الداخلى هى قدرة محدودة!
***
الحقيقة أنه وبرغم أن مسألة توقع التغييرات المستقبلية فى العلاقات الدولية هى عملية شديدة التعقيد وعادة ما تعوزها الدقة، إلا أنه وبالنظر إلى تاريخ الصراعات الدولية فى القرن العشرين يمكن رصد ستة عوامل تساعد على وقوع الحروب العالمية وهى:
أولاً: تندلع الحروب العالمية عادة فى حالة القطبية الثنائية، أو فى حالة الرغبة فى التمرد على هيكل النظام الدولى القائم سواء من الناحية العسكرية، السياسية، أو الاقتصادية، كمحاولة تغيير نظام القطبية الأحادية إلى قطبية ثنائية أو متعددة أو العكس!
ثانياً: تندلع الحروب العالمية فى حالة تزايد حالات الشك واللايقين نتيجة لغياب المعلومات أو ضعف التنسيق والتعاون بين الدول مما يخلق غيابا للثقة المتبادلة ومن ثم يعزز فرص الصراع.
ثالثاً: تندلع الحروب العالمية حينما تغيب قواعد القانون الدولى عن التطبيق، بحيث يعلم القائد السياسى أن فرص نجاح أو فشل الحرب مرتبطة بقدراته العسكرية والتكنولوجية لا بمواجهة عواقب قانونية تفرضها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو ما شابه!
رابعاً: تندلع الحروب العالمية نتيجة لحسابات سياسية وعسكرية خاطئة، تدفع أحدهم بالمخاطرة فى اتخاذ قرار الحرب، وعادة ما يكفى خطأ واحد فقط فى حسابات الحرب حيث يتكلف العالم ثمنا باهظا لهذه الأخطاء!
خامساً: تندلع الحروب العالمية حينما تتضاءل فرص الضغوط والمعوقات الداخلية فى التأثير على قرار الحرب الذى يتخذه القائد السياسى، فتكون قرارات الحروب وتقديرات مخاطرها هى قرارات فردية للحاكم الفرد وبضعة أشخاص أو حتى مؤسسات لصيقة به ولا تستطيع معارضته أو الضغط عليه!
سادساً: تندلع الحروب العالمية حينما يغيب الردع، أى عندما يعتقد صاحب قرار بدء الحرب أنه لن تكون هناك ردة فعل من العدو بنفس الحدة أو القدرة التى قد تؤدى إلى هزيمة الجيش المعتدى! والمثال الأبرز على ذلك هو امتلاك القنبلة النووية من قبل العديد من القوى العالمية والإقليمية، والتى يعتقد أنها السبب فى عدم وقوع حرب عالمية ثالثة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى أثناء الحرب الباردة، وما اشتملت عليه الأخيرة من حروب بالوكالة بدلا من شن الحروب بشكل مباشر بين الأطراف المتصارعة!
***
قدرات روسيا والصين على حشد تأييد شعبى لسياستهما العالمية وخاصة إذا ما اندلعت حرب عالمية، تظل محل شك
بمراجعة هذه العوامل الستة التى توافرت خلال الحربين الأولى والثانية، نجد أن فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة مفترضة ضعيفة، ليست مستحيلة، ولكنها ضعيفة!
سبب ضعف فرضية حرب عالمية ثالثة مع الإقرار بعدم إمكانية استبعادها تماما له العديد من الأسباب، السبب الأول أننا وحتى اللحظة لسنا أمام ثنائية قطبية، فرغم تصاعد النفوذ الاقتصادى للصين، ورغم تصاعد الأطماع العسكرية فى روسيا، إلا أن كلتا الدولتين لم يحصلا بعد على مكانة دولية تمكنهما من مواجهة جبهة الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا (حلف الناتو) حتى اللحظة، فالصين ما زالت تركز على الجوانب الاقتصادية لصعودها ونفوذها الدولى، ومقدراتها العسكرية برغم خطورتها لكن ما زالت لا تشكل تهديدا حقيقيا للمقدرات العسكرية والتكنولوجية للدول الغربية!
ومن ناحية ثانية، فرغم أن حسابات بوتين لم تكن دقيقة حينما قام بغزو أوكرانيا، وهو بلا شك خطأ استراتيجى، إلا أن رد فعل الدول الغربية ما زال يحافظ على الحد الأدنى من الرشادة فى رد الفعل، بحيث تحرص دول الناتو على عدم التورط فى الحرب مع روسيا وتكتفى بدعم أوكرانيا دون الدخول فى مواجهة مباشرة مع الروس!
ومن ناحية ثالثة، فإن قدرات روسيا والصين على حشد تأييد شعبى لسياستهما العالمية وخاصة إذا ما اندلعت حرب عالمية، تظل محل شك! صحيح أنه لا روسيا ولا الصين يمكن اعتبارهما دولا ديموقراطية، وبالتالى فمن غير المتوقع أن تلعب مؤسسات أو أشخاص آخرين داخل النظامين الصينى أو الروسى دورا فى تغيير سياسات الرئيسين «شى جين بينج» أو «فلاديمير بوتين» بخصوص الحرب، إلا أن الرأى العام الروسى المعارض للحرب على أوكرانيا من ناحية، وكذلك احتمال دخول الصين فى مقامرة كبرى حال اندلعت حرب عالمية كانت بكين متورطة فيها بشكل مباشرمن ناحية ثانية، يعنى أن هناك فرصة حقيقية لتمرد الأقاليم الغربية للصين والتى تملك عوامل تاريخية وسياسية وثقافية ستشجعها على محاولة الانفصال عن بكين حال اندلاع مثل هذه الحرب!
ومن ناحية رابعة، فإن الظروف الاقتصادية غير المستقرة فى الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا، تجعل الرأى العام هناك، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات السياسية والاقتصادية والقيادات العسكرية داخل هذه الدول، متحفظة على أى قرار من شأنه المجازفة فى شن حرب على روسيا أو الصين وجعل ذلك الخيار هو الأخير بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى!
***
فرصة نشوب حرب عالمية ثالثة ضعيفة وذلك بسبب عدة أسباب، أهمها مقدار التشابك الدولى والذى يجعل هناك قدرا كبيرا من الاعتمادية المتبادلة وعدم القدرة على الانعزال وهو ما يُقلل من فرص نشوب حروب دولية على نطاق واسع
على الرغم من ذلك، لا يمكن استبعاد فرضية الحرب العالمية تماما لسببين هامين:
السبب الأول، أن منظومة القانون الدولى والتى طرحت بقوة فى السياسة الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت مهترئة وغير قادرة على الردع وخصوصا فى ظل الشلل الذى أصاب الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن الدولي! فالهيكل المنظم للعلاقات بين الدول وبعضها البعض وبين الدول وغير الدول أصبح هيكلا متهالكا شديد القدم لا يعكس حقيقة القوى الدولية والإقليمية على الأرض!
أما السبب الثانى والأخير، فهو أن الأزمات الاقتصادية الدولية إذا ما تفاقمت خلال السنوات القليلة القادمة ــ وهو أمر مرشح للحدوث ــ فستكون فرصة النعرات القومية والسياسات الفاشية على الصعود تدريجيا لاستغلال حنق الجماهير من ناحية، ولصرف النظر عن المشاكل الداخلية من ناحية ثانية، كبيرة مما قد يورط العالم فى مأساة لن يكون من الممكن الآن توقع عقباها!
(*) بالتزامن مع “الشروق“