الدبلوماسية المصرية.. أردية الذئاب والحملان

"لو لم تتقدم الصين باقتراح عقد مؤتمر لتهدئة التوتر بين إيران والسعودية لتقدمت به دولة من اثنتين: الولايات المتحدة ومصر".

سمعت خلال الأسبوعين الماضيين عديد التعليقات والآراء في حملة رأي حول هذا الموضوع تستحق في كثافتها وتنوعها صفة “غير المسبوقة”. أتحدث هنا عن الرأي في موضوع انعقاد اجتماع في بكين يضم مسئولين من ثلاث دول هي الصين وإيران والسعودية لمناقشة سبل تخفيف حدة التوتر في العلاقات بين الأخيرتين.

أظن أنني على امتداد سنوات لم أسمع تنوعا في الآراء والتعليقات حول موضوع واحد كالتنوع الذي سمعناه أو قرأناه حول هذا الموضوع. أظن أيضاً أنني منذ زمن لم ألاحظ غرابة خلال مناقشة موضوع من موضوعات السياسة الدولية مثلما لاحظت وأنا أستمع إلى التعليق الوارد نصه في صدارة مقالي هذا.

نعم فالتعليق غريب بالفعل ومفاجئ أيضا. غريب ومفاجئ لصعوبة توقع أو انتظار صدور اقتراح من هذا النوع من الصين بالذات في هذه المرحلة من مراحل صعودها المتأني والمتدرج، فضلا عن أن الاقتباس يفترض إمكان صدور هذا الاقتراح من واحدة من دولتين من الدول ذات الوضع الخاص جدا وفي ظرف خاص جدا وهما الولايات المتحدة ومصر.

***

بالنسبة للصين أستطيع أن أتفهم قدر الغرابة في اقتراحها هذا بالرجوع إلى إصرار حكامها عبر أربعة عقود أو أكثر، وأقصد بالحكام قادة الحزب الشيوعي الصيني، على التمسك بتوصية زعيمهم الملهم دينج شياو بينج. قضت التوصية بضرورة التمهل وعدم القفز فوق المراحل في رحلة صعود الصين نحو القمة إيمانا منه ومن أكثر خلفائه ومن قواعد الحزب في شتى أنحاء الصين بضرورة الاستعداد الجيد لمهام القطبية والتمهيد الواسع النطاق لكسب التأييد قبل الانغماس في مهام قيادة العمل الدولي. فجأة نرى الرئيس شي جين بينج ينتهز فرصة اجتماع ممثلي قواعد الحزب فيطلق مبادرة التوسط بين روسيا من ناحية وأوكرانيا وحلفائها من ناحية أخرى. وما هي إلا أيام معدودة ويلحق به اقتراح آخر يعرض التوسط بين إيران والسعودية. مهمتان شديدتا التعقيد وتُرتبان مسئوليات ضخمة على الوسيط في حالة النجاح كما في حالة الفشل.

ليس سرا ولا خافيا أن كثيرين من صناع الرأي المصري كانوا على امتداد فترة التشظي شرق الأوسطي محبذين لتبادل الوفود بين مصر وإيران وأن عددا غير قليل من الباحثين وأعرف بعضا من المتميزين منهم ظل ضاغطا من أجل تبادل التفاهم مع المجتمع الأكاديمي الإيراني لصالح الشعبين والاستقرار في الوطن العربي

هناك أكثر من وجه شبه بين الوساطتين. ففي كلاهما لا يوجد تاريخ يكشف عن اهتمام وثيق للصين بطبيعة وخلفية النزاع. وفي كلاهما تتخذ الصين موقف التأييد أو التعاطف مع أحد طرفي النزاع، وفي كلاهما تربط الصين بالطرف الآخر في النزاع مصالح ليست بسيطة أو هينة. الصين تتعاطف مع روسيا ولها مصالح واسعة مع حلفاء أوكرانيا وتتعاطف مع إيران ولها مصالح ليست بسيطة ولا هينة مع إسرائيل والسعودية وحلفائهما في الخليج وفي الغرب.

هناك أيضا حقيقة أن جهد الوساطة في الحالتين كالنتيجة المحتملة له يكفيان في حد ذاتهما للتأثير بعمق في منظومة العلاقات على مستوى قمة النظام الدولي في إحدى الحالتين وعلى مستوى التفاعلات الكلية للنظام الإقليمي العربي وبعض أزماته ومؤسساته الفرعية في الحالة الثانية. بل ومن الممكن في حال التقدم في الأخذ بالاقتراحين وتحقيق تقدم عن طريقهما أن تطرح الصين اقتراحا بوساطة ثالثة بين إسرائيل والفلسطينيين.

***

الاقتباس الوارد في مقدمة مقالي بدا كما سمعته غريبا ولكنه لم يخل من منطق يبرره. ففيما يتعلق باحتمال أن تكون الولايات المتحدة القطب المرشح للتدخل بوساطة أو بغيرها بين السعودية وإيران نعرف، أو نشعر على الأقل، أن واشنطن في الآونة الأخيرة بدت لنا، ولإسرائيل أيضا، كما لو كانت غيّرت نيتها وبعض موقفها من إيران، وهو الموقف شديد العداء لإيران الذي اتخذه دونالد ترامب الرئيس السابق والتزمته ولكن بوطأة أخف كثيراً إدارة الرئيس جو بايدن.

أكثرنا على علم بحقيقة وجوهر الذهنية الليكودية المتطرفة تجاه إيران ولا نجهل حقيقة وجوهر الجناح الأشد تطرفا في حكومة بنيامين نتنياهو. لكننا نقف شهوداً في الوقت نفسه أمام ثلاثة تطورات استجدت في الأيام أو الأسابيع الأخيرة. أول هذه التطورات الحملة المكثفة المدبرة بعناية في الولايات المتحدة لحشد الرأي ضد سياسات التطرف ونوايا نتنياهو المهددة للنظام الديموقراطي في إسرائيل. التطور الثاني يتعلق بمواقف واشنطن من حملة الشحن الإسرائيلية ضد إيران وسياسات أمريكا التي صارت تأخذ شكل مهادنة لإيران. يأتي ضمن هذا التطور رحلات نتنياهو إلى عواصم أوروبية ورحلات لم تتم في عواصم عربية يبغي من ورائها كسب تعاطف الرأي العام الأوروبي وربما قطاع من الرأي الرسمي العربي مع موقفه المخالف لموقف أمريكا. يظل الاحتمال قائما أن تكون محطته التالية أمريكا نفسها والرأي العام فيها منتهزا فرصة الظرف الانتخابي، وبين أهدافه إسقاط فرص البديل الديموقراطي في الوصول للبيت الأبيض واستعادة الفرصة الذهبية، وأقصد عودة ترامب للحل الإبراهيمي ليبث فيه طاقة دفع جديدة. التطور الثالث وتكشف عنه المصالح المتزايدة للعرب وبخاصة السعودية في الصين.

***

نشعر أيضا، بل نعلم من أصدقاء في مواقع نفوذ، عن رسائل شفوية ذات مغزى تتبادلها قيادات عربية تعبر فيها عن ارتياحها لميل الرأي العام في الإقليم لانتهاج سياسة حياد بين الشرق والغرب ونبذ سياسات يُشتم منها شبهة التبعية. هنا يجب أن نعترف أن أمريكا قد تكون في حاجة لفترة سماح تنظم فيها أوراقها وتعيد ترتيب أولويات المهام الخارجية. تريد أمريكا، كما في ظن البعض، استعادة قدرتها شبه المطلقة على تولي زمام المبادرة في ما يخص قضايا الشرق الأوسط، وهي القدرة التي كبلتها الأزمات المتساقطة من حرب أوكرانيا وسلسلة فشل متلاحق في ليبيا والسودان وإسرائيل والعراق والقرن الإفريقي. أميل بالفعل إلى احتمال أن تكون إدارة بايدن صارت مستعدة للترحيب في صمت بأي دولة ترتب تفاهماً بين إيران والمجموعة العربية.

إقرأ على موقع 180  حتى لا تكون ثورة غضب فاشلة

***

يبقى لنا في تعليقنا على الاقتباس التلميح أو الإشارة إلى دور لمصر كان متوقعا أو منتظرا أو ممكنا في مهمة الوساطة بين إيران والسعودية والخليج بعامة، دور تتحمل مسئولية القيام به الدبلوماسية المصرية. نلفت النظر بداية إلى أن المقصود في هذه السطور بالدبلوماسية المصرية ليس فقط جهاز وزارة الخارجية ولكن أيضا كافة الأجهزة والمؤسسات المصرية العاملة بصفة دائمة أو متقطعة في شئون خارجية وبشكل معلن أو من وراء أّستار وفي تكتم.

واجب علينا وهو حق للدبلوماسية المصرية أن نعترف لها بما حقّقته خلال قرن كامل من إنجازات وأن لا نغفل فترات ارتخاء استجابت فيها لصناع قرار في السياسة الخارجية المصرية فضلوا لمصر وضع الكمون. أعترف أنه من حسن حظ الدبلوماسية المصرية أن ولدت وسط أحداث كبار ولمهمة عظمى وهي السعي لتحقيق درجة أعلى من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، فاهتمت لعقود ثلاثة بمفاوضات جرت في مصر وفي مواقع دولية عديدة. أتيح لهذه الدبلوماسية ـ لوجودها في أكثر من مؤتمر دولي ولعلاقات أقامتها مع حزب المؤتمر الهندي وبحركات وطنية أخرى ـ أن تكون بين الدول المؤسسة للأمم المتحدة فينشأ بين دبلوماسييها فريق متأهل للعمل الدولي والإقليمي وتحملت النصيب الأكبر من مسئولية إنشاء الجامعة العربية ووضع ميثاقها ولفترة قصيرة كانت وزارة الخارجية المصرية موقع عمل للفريق واضع الميثاق والمؤسس للجامعة. يحسب أيضا لدبلوماسية مصر قبل الثورة دورها في تحقيق المصاهرة الملكية بين العائلتين الحاكمتين في مصر وإيران.

إلى جانب الاهتمام بالمفاوضات مع الإنجليز شاءت الظروف أن تشتعل في المنطقة حرب فلسطين، فاشتركت مصر بجنودها في الحرب وبدبلوماسييها في مؤتمرات الهدنة. سنوات لم تعرف فيها الهدوء. تنبهت إنجلترا وأمريكا إلى الغليان في المنطقة فقررتا إقامة حلف عسكري قاومته مصر التي شعرت بأن الحلف يبغي تطويق جهودها الدبلوماسية المتنوعة لتحرير الأراضي الخاضعة للاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا والبريطاني في الخليج وجنوب اليمن.

هذه الدبلوماسية استطاعت وبنجاح تحقيق أول تحول نوعي في منظومة العمل الدولي بالشرق الأوسط عندما أبرمت اتفاقية تزويد مصر بالأسلحة السوفييتية عن طريق تشيكوسلوفاكيا. ثم كانت المواجهة الدبلوماسية التي أعقبت حرب السويس تحت قيادة محمود فوزي (الصورة أعلاه خلف عبد الناصر) وحوارييه من الدبلوماسيين الشباب والأساتذة الجامعيين وصحفيين لامعين.

تاريخ طويل لن تفيه حقه سطور قليلة. ولكني حين أتأمل في بعض أحداثه أتأكد من أن الدبلوماسية المصرية عوملت في مراحل بإهمال وفي مراحل فرض عليها الكمون والسكون وفي مراحل حلت محلها اجتهادات لم تف بالغرض.

أميل بالفعل إلى احتمال أن تكون إدارة بايدن صارت مستعدة للترحيب في صمت بأي دولة ترتب تفاهماً بين إيران والمجموعة العربية

الغريب في حكايتها، أقصد حكاية الدبلوماسية المصرية، أنها تعود تتألق بعد كل كمون مفروض عليها. تنحسر ثم تنشط ثم تهدأ في دورات لانهائية. أحب دائما أن أضرب المثل بتاريخ الدبلوماسية المصرية في إفريقيا التي حققت في وقت من الأوقات إنجازا لم تحقق مثله دولة أخرى في العالم النامي قبل أن يفرض عليها، وأقصد على الدبلوماسية، الانحسار. ومع الانحسار أو بسببه فقدنا للأسف كثيرا مما كنا أنجزناه في مرحلة سابقة. حدث في فترات صعبة أن ارتدى الدبلوماسيون المصريون أردية الذئاب ثم عادوا حملانا. نجحوا كثيرا وفشلوا قليلا تحت هذه الأردية أو تلك، وفي نجاحهم حققوا لمصر والعالم العربي وإفريقيا الكثير. أعلم من أصدقاء أن لدى الكثيرين في العمل الدبلوماسي الاستعداد لمرحلة طويلة قادمة تستطيع فيها الدبلوماسية المصرية أن تبادر مستأنفة نشاطها الإيجابي والمؤثر.

ليس سرا ولا خافيا أن كثيرين من صناع الرأي المصري كانوا على امتداد فترة التشظي شرق الأوسطي محبذين لتبادل الوفود بين مصر وإيران وأن عددا غير قليل من الباحثين وأعرف بعضا من المتميزين منهم ظل ضاغطا من أجل تبادل التفاهم مع المجتمع الأكاديمي الإيراني لصالح الشعبين والاستقرار في الوطن العربي، وللأسف لم يجدوا من يحقق لهم هذه الرغبة. لذلك كنت وما زلت واثقا من أن إعادة ترتيب الأسبقيات في أجندة السياسة الخارجية المصرية سوف يعيد للدبلوماسية بعض أدوارها المشهود بها.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إيران عالقة على حبل رفيع بين قمم القوقاز