لم يكن لإيران نفوذ أو وجود سياسي أو عسكري في لبنان قبل عام 1980، كان الوجود الإيراني رمزياً ويتمثل بمجموعة من المعارضة الإيرانية تعمل في ظل الإمام السيد موسى الصدر، ومن بين أبرز هؤلاء السيد مصطفى شمران، الذي أصبح وزيراً للدفاع بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
كان الدخول الإيراني الأوسع للبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في مطلع حزيران/يونيو 1982؛ إذ اتخذت القيادة الإيرانية قراراً بإرسال لواء من الحرس الثوري إلى سوريا، ومنها إلى لبنان (سهل البقاع). وكانت مهامه محصورة بتشكيل تنظيم عسكري إسمه “حزب الله” (الثورة الإسلامية في لبنان)، حيث كانت الأرضية جاهزة لذلك من خلال تفاعل الشارع الشيعي في لبنان بقوة مع الثورة الإسلامية، إذ تشكلت لجان إسلامية مساندة للثورة في إيران، وهي عبارة عن تجمع شبابي وعلمائي انتشر في بعض المناطق الشيعية، ولجان المساجد في أحياء الضاحية الجنوبية، إضافة إلى مجموعات عسكرية مستقلة برزت كقوة مقاتلة تستظل أحياناً بغطاء “حركة أمل”، أو تقوم بنشاط مستقل، وأغلب نزاعها كان مع حزب “البعث” العراقي.
هذه التشكيلات مجتمعة كانت النواة التي عمل عليها “الحرس الثوري” في تشكيل فصيل عسكري مقاوم عُرف في البدء بـ”المقاومة الإسلامية”، ومن ثم “حزب الله”. وحرصت إيران على حصر مهامه بالجانب العسكري وابتعاده عن العمل السياسي، والانصراف إلى المقاومة وتوسيعها وزيادة فعاليتها.
نما حزب الله واتسع عدد عناصره على حساب “حركة أمل” التي كانت “قيادتها غارقة بالعمل السياسي”. ومع تمكن “حزب الله” من الإمساك بمنطقة البقاع الشرقي وانضمام عناصر قيادية من “أمل” لـ”حزب الله”، خطا الأخير خطوات أخرى باتجاه الضاحية الجنوبية في بيروت وباتجاه الجنوب أيضاً، وأصبح بفضل الدعم والمساندة الإيرانية قوة رئيسية منافسة لـ”أمل” في الساحة الشيعية، وقد أدى ذلك إلى قتال عنيف بين الحركة والحزب، ولم يتوقف إلا بعد ممارسة ضغوط سورية وإيرانية وإجراء مصالحة بين الطرفين في نهاية الثمانينيات الماضية.
عبد الحليم خدام: لم يكن الرئيس السوري حافظ الأسد قلقاً من النفوذ الإيراني، كما لم يكن في ذهنه ان إيران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها، ولم يكن في ذهنه أن لدى إيران طموحاً في التوسع الإقليمي وهي حليفة نتعاون معها في مواجهة النظام العراقي
كان القرار السوري الرسمي مسانداً وداعماً لـ”حزب الله”، ومبنياً على التحالف القائم بين دمشق وطهران، والذي كان يرى فيه الرئيس الراحل حافظ الأسد مصلحة استراتيجية لسوريا من زاويتين؛ الأولى، خلق التحالف بين البلدين توازناً مع غريمه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والثانية، شكّلت إيران سنداً لسوريا في مواجهة إسرائيل. لكن الموقف السوري عملياً، في مجمله يتعاطف مع “حركة أمل”، وكان الرئيس حافظ الأسد وحده يبدي التعاطف مع “حزب الله”، وأعطى توجيهاته للمؤسسات العسكرية والأمنية على هذا الأساس مستنداً موقفه إلى أن الحزب أصبح قوة المقاومة الرئيسية بعد تراجع دور “حركة أمل” والأحزاب الوطنية (الشيوعي ومنظمة العمل والقومي والتنظيم الناصري والبعث إلخ..)، وبالتالي يجب الاعتماد عليه في مقاومة إسرائيل واستنزافها في جنوب لبنان المحتل.
كان معظم الضباط السوريين يتعاطفون مع “حركة أمل” ولا يكنون وداً لـ”حزب الله”، باعتباره حزباً إسلامياً عقائدياً، وهم – أي الضباط السوريون – ما زالوا تحت وطأة الحوادث الدامية التي وقعت في سوريا بين النظام من جهة والإخوان المسلمين من جهة ثانية.
في البداية، لم تكن العلاقة بين الجيش السوري و”حزب الله” على ما يرام، وكان الامتحان الأخطر بينهما مجزرة “فتح الله” التي راح ضحيتها 22 شاباً من “حزب الله” في 24 شباط/فبراير 1987. حادثة تعدّدت الروايات بشأنها، غير أن نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام، يتبنى، بطبيعة الحال، الرواية التي تدعم الجيش السوري وتُحمّل المسؤولية لعناصر “حزب الله” ومفادها الآتي: “خلال تلك العملية، توجهت قوة (من ضمن خطة الجيش السوري لضبط الأمن في بيروت، وبطلب لبناني) إلى ثكنة لـ”حزب الله” في بيروت، تُعرف باسم “ثكنة فتح الله” (محلة البسطة)، وطلبت من أعضاء الحزب إخلاء المقر وتسليم أسلحتهم. وجرى نقاش لبعض الوقت، وفوجئت القوة بإطلاق نار شديد، ما أدى إلى مقتل بعض الجنود، فردت القوة بالمثل، ما أدى إلى مقتل 22 شخصاً، واستولت القوة السورية على الثكنة”.
إلا أن الرواية التي شاعت في أوساط إعلامية آنذاك، وضعت حادثة الثكنة في خانة انتقام أحد ضباط مخابرات الجيش السوري، ويدعى جامع جامع، من “حزب الله”، وذلك رداً على إهانات كان قد تعرض لها من المجموعة نفسها التي تشغل الثكنة المذكورة، الكائنة في برج أبي حيدر (البسطة)، شارع “المأمون”، عندما كان هذا الضابط السوري برتبة رائد من ضمن فريق المراقبين السوريين الذين دخلوا إلى بيروت في العام 1985، في أعقاب “حرب المخيمات”.
لكن المفارقة هنا، ان “حزب الله” تمكمن من استيعاب الموقف على فداحته، وطوى الصفحة نزولاً عند رغبة الجمهورية الإسلامية، إذ عنونت صحيفة “السفير” في اليوم التالي، موقف الحزب على الصفحة الأولى:”حزب الله: لن نُستدرج، قرارنا لولاية الفقيه”.
لكن لم يخلُ الأمر من عتاب عبّرت عنه القيادة الإيرانية للقيادة السورية من خلال سفيرها في دمشق، محمد حسن أختري، إلا أن الرئيس السوري ونائبه توليا شرح موقف سوريا وتخطيا المسألة، وعبّرا عن امتعاض سوريا العارم من تصريحات بعض القيادات الإيرانية. وردّد خدّام على مسامع السفير أختري أهمية العلاقة بين بلديهما، وطالب المسؤولين في إيران ألا يقارنوا بين “حزب الله” وسوريا، لأن المسؤولين في إيران يعرفون مواقف سوريا تجاه الجمهورية الإسلامية، وختم كلامه بسؤال؛ “هل من المعقول أن يكون وزن حزب الله لدى إيران أكبر من وزن سوريا؟ إذا كان الأمر كذلك، فالحقيقة أن الوضع مؤلم، ونحن نؤمن بأن العلاقة مع إيران أهم من مائة تنظيم. نحن نعتبر العلاقة مع إيران مبنية على تصور مشترك لمهامنا المشتركة ضد الإمبريالية والصهيونية”.
لم تعرف سوريا أهمية وموقعية “حزب الله” تجاه إيران آنذاك، حيث كانت تنظر إليه كتنظيم عسكري تابع لإيران وحسب، و”لم يكن الرئيس السوري قلقاً من النفوذ الإيراني، كما لم يكن في ذهنه ان إيران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها، ولم يكن في ذهنه أن لدى إيران طموحاً في التوسع الإقليمي وهي حليفة نتعاون معها في مواجهة النظام العراقي”، كما يقول عبد الحليم خدام في كتابه. ربما إيران نفسها، لم تتوقع ان يصبح “حزب الله” على ما هو عليه اليوم، بتحوله إلى حزب إقليمي ساهم في منع سقوط سوريا في مواجهة الإرهاب التكفيري.