القفزة الصّدريّة المُتجدّدة متى تُنقذ الشّيعةَ.. ولبنان؟

عندما أتأمّل في التّخبّط والتأزّم اللّذَين يعيشهما النّظام السّياسي والاقتصادي اللّبناني الحالي، بالإضافة إلى الموقع الأساسي - والاشكالي أيضاً، بالنّسبة إلى البعض - الذي تشغله البيئة الشّيعيّة ضمن هذه الأزمة وضمن هذا النّظام: تزدادُ قناعتي، أكثر فأكثر، بعمق وبصحّة وبذكاء الطّرح الذي أتى به الإمام السّيّد موسى الصّدر إلى شيعة لبنان، ومن خلالهم.. إلى جميع اللّبنانيّين.

كما رأينا في مقال سابق: هو طرحٌ عقائدي وثوري ومقاوم أوّلاً، واجتماعي وسياسي ولبناني صرف ثانياً. وهنا تكمن أهمّيّته، لأنّه يهدف ـ بصدق وبوضوح وبطريقة عمليّة وسلِسة ـ إلى ادماج الشّيعة اللّبنانيّين ضمن المجتمع اللّبناني أوّلاً. ويهدف، ثانياً، إلى السّير بجميع مكوّنات المجتمع اللّبناني نفسه نحو عقليّة المواطِن ونحو دولة المواطَنة، ولو بالتّدريج (أو التّدرّج) “الصّبور”، كما سبق وأشرنا.

من هنا، وباختصار، أعتقد أنّ على جميع اللّاعبين الأساسيّين ضمن البيئة الشّيعيّة، والمتّفقين حول الأغلبيّة السّاحقة من المواضيع العقائديّة والاستراتيجيّة، وعلى رأسهم حركة أمل وحزب الله وبيئة المجلس الإسلامي الشّيعي الأعلى (وحتّى بيئة المرجع الرّاحل السّيد محمّد حسين فضل الله).. أعتقد أنّ عليهم، جميعاً، أن يعيدوا قراءة التّموضع الشّيعي الرّاهن فيما يخصّ مستقبل النّظام اللّبناني، وفي ضوء ورشة عمل جدّيّة تتمحور حول تجديد “الطّرح الصّدري” وتكييفه مع الواقع الرّاهن.

علينا جميعاً أن نكون متمكّنين من الإجابة بجدّيّة على الأسئلة الجوهريّة التي يطرحها علينا الصّادقون من باقي اللّبنانيّين حاليّا، وأن نخرج ربّما من سياسة التّأجيل المدروس، أو محاولة كسب الوقت، أو عدم الإعلان المتقَن (أو أنّ هذا الذي يظهر، حسب اعتقادي، لأغلب الأطياف اللّبنانيّة الأخرى):

  • كيف نرى مستقبلَ النّظام السّياسي اللّبناني وبصراحة؟
  • ما الذي نريدهُ تحديداً في هذا الإطار؟ هل نحن مع دولة المواطَنة العصريّة؟
  • ما هي الخطوات العمليّة التي نطرحها على باقي اللّبنانيّين في سبيل تحقيق هذا الهدف – أو غيره ربّما (ولو بالتّدريج المدروس، والذي وصفناهُ بالصّبور)؟
  • ما هي نظرتنا الحقيقيّة إلى النّظامَين الاقتصادي والمالي؟ هل عندنا بدائل نطرحها، أم أنّ علينا فقط السّير وراء مفاهيم وأنظمة وتقنيّات الآخرين؟

يمكننا أن نجاملَ بعضنا بعضاً لعشرينَ أو لخمسينَ سنة أخرى.. ولكن، إن استمرّينا في الهروب من هذه الأسئلة، ومن الإجابة عليها بشكل صريح وواضح وعلميّ (ليس فقط من خلال التّصاريح الرّسميّة والمجاملات البروتوكوليّة وما إلى ذلك): فنحن نخسر كثيراً، على مستوى الفرد-المواطن، وعلى مستوى فكرة المقاومة، وعلى مستوى صورتنا ومصداقيّتنا، وعلى مستوى مستقبل البلد ككلّ.

إنّ الدّفع المتواضع نحو ورشة كهذه لا ينبعُ إلّا من موقعٍ صادقٍ ومُخلصٍ. وهو مبنيٌّ على ملاحظات ومشاهدات شخصيّة وجماعيّة تدلّ في أعمّها الأغلب على أنّ تأخير ورشة صريحة وعلميّة كهذه ـ تدفع عملّياً باتّجاه انخراط فريق المقاومة في اصلاح مؤسّسات الدّولة اللّبنانيّة ككلّ ـ أصبح مضرّاً ومضرّا جدّاً، في الشّكل وفي المضمون.

لا ننكر بتاتاً الجهود الكبيرة التي يبذلها البعض في هذا الإطار، لا سيّما داخل بيئة حزب الله بالذّات: ومن الواضح أنّ هناك من يبحث ويفكّر ويحاول تقديم الطّروحات. ولكنّني أعتقد، بصدق:

  • أنّ هذه الجهود لم تنلْ بعدُ الأضواء الخضراء التّنظيميّة والسّياسيّة المطلوبة، وبالمستوى المطلوب، لكي تستطيع تقديم الأطر الفكريّة والمفاهيميّة في مواجهة الحملات والمطالبات من قبل البيئات الأخرى (الصّديقة وغير الصّديقة على السّواء)؛
  • أنّها لم تنلْ بعدُ التّغطيّة الإعلاميّة والتّواصليّة اللّازمة، لكي تصل الخلاصات والنّتائج والطّروحات والإجابات إلى مختلف نخب ومكوّنات المجتمع اللّبناني (أيضاً: الصّديقة وغير الصّديقة على السّواء).

هذا عداك عن كون أغلب هذه المبادرات المذكورة تكاد تكون محصورة داخل بيئة حزب الله بالذّات، كما سبق وأشرنا، والمطلوب أن تصبح جهوداً على مستوى البيئة الشّيعيّة ككلّ.

يمكننا أن نجاملَ بعضنا بعضاً لعشرينَ أو لخمسينَ سنة أخرى.. ولكن، إن استمرّينا في الهروب من هذه الأسئلة، ومن الإجابة عليها بشكل صريح وواضح وعلميّ؛ فنحن نخسر كثيراً، على مستوى الفرد-المواطن، وعلى مستوى فكرة المقاومة، وعلى مستوى صورتنا ومصداقيّتنا، وعلى مستوى مستقبل البلد ككلّ

لكن، لماذا إعادة تظهير “الطّرح الصّدري” وبالتّحديد؟

لأنّني، بصراحة، أعتقد أنّ الإمام المُغَيّب السّيد موسى الصّدر هو الذي:

(١) طرحَ الأسئلة الصّحيحة على البيئة الشّيعيّة، وبالشّكل الصّحيح، أي انطلاقاً من المباني العقائديّة والأيديولوجيّة والثّقافيّة التي يؤمن بها أغلب الشّيعة أنفسهم حول العالم إلى يومنا هذا؛

(٢) اقترحَ الإجابات الأكثر متانةً والأكثر ملاءمةً: مع الإطار العقائدي والإقليمي من جهة، ومع الظّرف اللّبناني من جهة ثانية.

وأيضاً، علينا ألّا ننسى واقعَ أنّ الأطراف المذكورة أعلاه لا زالت جميعها تدور ـ ولو نظريّاً ـ في فلك هذه الأسئلة والأجوبة معاً.. ولم تخرج – أو لم تستطع أصلاً الخروج – عنها أو منها.

لا يزال الطّرح الصّدري هو الأكثر مناسبةً للبيئة الشّيعيّة بوضعها الرّاهن.. ولكنّه لا يزال، أيضاً، الطّرحَ الأكثر اقناعاً لأغلب اللّبنانيّين (من شيعة ومن غيرهم). فلماذا؟

البداية: من الأسئلة الصّحيحة إلى الأجوبة الصّحيحة

 في المقال السّابق حول السّيد الصّدر، قمنا بعرضٍ يميلُ إلى النّزول من الأعمّ إلى الأخصّ (Top-down). أمّا هنا، فسنحاول اختصار الأسئلة والأجوبة الصّدريّة بالطّريقة المعاكسة تقريباً (Bottom-up)، ممّا يساعدنا ـ إن شاء الله ـ على تقريب المعنى والمقصد والمُراد.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": إسرائيل عاجزة عن كسر "المحور" لهذه الأسباب!

١/ إذا ما اقتنعنا بأنّ لبنان هو: وطننا العملي، والنّهائي، إلى أن يشاء الله غيرَ ذلك؛

٢/ وإذا ما اقتنعنا بأنّه علينا أن نكون مواطنين منتمين إلى هذا الكيان، ومنسجمين مع مكوّناته:

  • فكيفَ نبني عقليّة الفرد-المواطن اللّبناني في بيئتنا الشّيعيّة أوّلاً؟
  • وكيف ننخرط، كأفراد-مواطنين، في البيئة اللّبنانيّة ككلّ؟
  • وكيف نعمل مع باقي اللّبنانيّين على بناء دولةِ مواطَنَة معاصرة: تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أفرادها؟
  • وكيف نُصلح هذا النّظام وهذه المؤسّسات، ولو عبر خطوات تدريجيّة ومدروسة؟

أضف إلى ذلك:

  • كيف نقوم بما سبق، مع أخذٍ بالاعتبار لخصوصيّات التّركيبة اللّبنانيّة؟
  • وكيف نقوم به، دون التّخلّي عن مشروع مقاومة الكيان الصّهيوني؟
  • وكيف نقوم به، دون التّخلّي عن خياراتنا القوميّة العربيّة وخياراتنا الإقليميّة الكبرى؟

أضِف إليه:

  • كيف نقوم بكلّ ما سبق ـ حول المواطنة وإصلاح النّظام والمؤسّسات في لبنان ـ مع المحافظة على خلفيّتنا العقائديّة الشّيعيّة، وعلى انتمائنا إلى الخطّ الدّيني والتّاريخي لأهل بيت رسول الله (ص)؟
  • كيف نقوم به، مع المحافظة على بُعد عقيدتنا: الإسلامي والثّوري والعالمي معاً؟
  • كيف نقوم به، مع المحافظة على بُعد إيماننا: الإسلامي كما أشرنا.. ولكن أيضاً، العرفاني والكَوني؟

كما نرى، وكما رأينا سابقاً، فإنّ أهمّيّة الطّرح الصّدري تكمنُ في كون الإمام قد طرح كلّ هذه الأسئلة، وقد حاول الإجابة عليها بشكل صريح وشامل وصحيح. لم يهرب الإمام من صعوبة أيّ سؤالٍ من هذه الأسئلة، ولا انطلق من مبانٍ غير واقعيّة أو من سياقٍ مفاهيمي خارجٍ عن السّياق المفاهيمي: ١/ الإسلامي؛ ٢/ الشّيعي؛ ٣/ المقاوم.

وقد أدّت هذه القَفزة “النّظريّة” الصّدريّة في السّتّينيّات والسّبعينيّات من القرن الماضي إلى قفزة “حَرَكيّة” حاول الإمام من خلالها وضع طرحه ذاك موضعَ التّطبيق. وقد تحدّثنا أيضاً عن القفزة “الحَرَكيّة” في مقالنا السّابق المذكور، ورأينا كيف تجلّت القفزة هذه مثلاً من خلال تأسيس “كشّافة الرّسالة الإسلاميّة” و”حركة المحرومين” و”أفواج المقاومة اللّبنانيّة ـ أمل”، بالإضافة إلى الإطار الحركي-السّياسي العام وإلى الإطار التّربوي والثّقافي (داخل الطّائفة الشّيعيّة وخارجها).

 الهدف: متى تنطلق ورشة العمل هذه، وبشكل جدّي؟

بالطّبع، لا يُمكن الدّخول في ميدان الأزمة البنيويّة اللّبنانيّة الحاليّة من غير تجديدٍ للمفاهيم الصّدريّة هذه.. برغم المناسبة والمتانة الشّديدتَين نسبيّاً للإطار المفاهيمي الصّدري العام ـ حتّى بشكله الرّاهن ـ كما سبق وأشرنا.

على الأطراف الشّيعيّة الأساسيّة المذكورة آنفاً، برأيي المحبّ والمتواضع، أن تُطلق ورشة عملٍ جدّيّة في هذا الإطار. علينا، وبرأيي الشّخصي أيضاً، ألّا نتوقّف عند الخطابات السّياسيّة والإعلاميّة والحزبيّة العامّة، ولا عند بعض المبادرات الفرديّة لبعض الباحثين والمفكّرين هنا وهناك. وأرجو ألّا تتمّ الإجابة علينا من خلال إحالتنا إلى بعض الباحثين الأفراد أو بعض مراكز الدّراسات المتفرّقة ـ مع أهمّيتهم وأهمّيتها جميعاً ـ لأنّ المطلوب هو ورشة رسميّة وجدّيّة، تتجلّى من خلال أوراق بحثيّة علميّة (غير دعائيّة) ومن خلال خرائط طرق حزبيّة وسياسيّة رسميّة (ولو بشكل صبور وحكيم وبعيد الأمد).

الورشة المفاهيميّة-التّنظيميّة-السّياسيّة هذه أصبحت واجبةً علينا. هل من الحكمة أن نُبقيَ أنفسنا خارج إطار جهود إصلاح النّظام اللّبناني؟

أو: هل من الحكمة أن نُبقي أنفسنا في موضع الاتّهام إمّا بانعدام المشروع الحقيقي، أو بالتّسويف والتّمويه والتّعطيل؟

سبقَ وأشرتُ في مقالٍ سابقٍ إلى إيماني بأنّ الشّخصيّة القياديّة الوحيدة القادرة اليوم على إطلاق مشروع جريء (وحقيقي) كهذا.. هي شخصيّة سماحة السّيد حسن نصرالله. وأجدّد التّعبير الصّادق عن هذا الإيمان الصّادق والمتين. لكن، أضيف إليه قناعتي أيضاً: بأنّ ورشةَ عملٍ كهذه لا يمكن إلّا وأن تنالَ قبول وتشجيع رجلٍ محوريّ كرئيس حركة أمل الأستاذ نبيه برّي. ولا أظنّ أبداً أنّ هذا الأخير بعيدٌ عن هذه القناعة “الصّدريّة” حول مستقبل هذا البلد.. وبطبيعة الحال.

برأيي، علينا أن نُبيّن لأنفسنا وللآخرين، وبوضوح: كيف نرى مستقبل لبنان ومستقبل النّظام اللّبناني.

فهل يبدأُ العملُ الجدّيّ قريباً؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  إسرائيل في عقدها الثامن.. مصير الهنود الحمر!