العلاقة بين إردوغان وبوتين على مدى عشرين عاماً مرّت بتقلبات كثيرة، وتحكم فيها عموماً ميل الرئيس التركي إلى الإستدارة شرقاً في سنوات حكمه الأولى عندما سُدّت في وجهه أبواب الإتحاد الأوروبي، فوجد تعويضاً في الصين وروسيا. تعزز هذا الإتجاه التركي في السنوات الأخيرة مع التدخل الروسي العسكري في سوريا وتفهم بوتين لأهمية الدور التركي في “خفض التصعيد” كونه داعماً أساسياً لجزء كبير من فصائل المعارضة السورية المسلحة، إلى أن تبلور التنسيق الروسي-التركي في ما بات يعرف بـ”منصة أستانا” التي شكلت مرجعية موازية لمرجعية جنيف في ما يتعلق بالنزاع السوري.
نجم عن “منصة أستانا” هدوء على الأرض في مناطق الشمال السوري، بعدما كانت عاملاً رئيسياً في “المصالحات” في بقية المحافظات السورية. وأدى تضارب المصالح التركية-الأميركية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا إلى تعميق العلاقات الإقتصادية بين أنقرة وموسكو. السيّاح الروس مورد إقتصادي مهم لتركيا، التي تعتمد أيضاً بشكل رئيسي على الغاز والنفط الروسيين. وصفقة صواريخ “إس-400” الروسية اعتبرت نقلة في العلاقات التركية-الروسية من جهة، ومن جهة ثانية عبّرت عن مدى الإغتراب التركي عن الولايات المتحدة برغم إنضواء أنقرة في حلف شمال الأطلسي، وكون الجيش التركي يعد بعد ثاني أكبر جيش في الحلف.
العلاقات التركية-الأوروبية، إتسمت بالإضطراب والمناوشات بسبب هجرة اللاجئين السوريين عام 2015، أو بسبب ما بدأت الدول الأوروبية تراه تدخلاً من جانب إردوغان في الإنتخابات الوطنية في عدد من هذه الدول التي توجد فيها جاليات كبيرة من أصل تركي، وخصوصاً في ألمانيا. بدوره، لم يكن الإتحاد الأوروبي متساهلاً في توجيه الإنتقادات لإردوغان بسبب سجله على صعيد حقوق الإنسان، وتحديداً سجن عدد كبير من الصحافيين المعارضين.
وجد إردوغان أن الإستمرار في مناكفة الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، سيكون مكلفاً جداً من الناحية الإقتصادية. فكانت المقايضة الكبرى مع أميركا: القبول بالسويد عضواً في حلف شمال الأطلسي، في مقابل إنتشال تركيا من مأزقها الإقتصادي. وهذا وحده ليس كافياً من الناحية الأميركية إذا لم يترافق مع إبتعاد تركي عن بوتين
الإنقلاب.. والتباساته
بعد محاولة الإنقلاب في 15 تموز/يوليو 2016، كانت أول مكالمة دعم يتلقاها إردوغان، من بوتين، بينما كانت تساور الرئيس التركي الظنون في ما يتعلق بالموقف الأميركي. وزير خارجية الولايات المتحدة عامذاك جون كيري قال في أول تعليق على المحاولة الإنقلابية، إن ما يهم واشنطن إستمرار إلتزام تركيا بالمعاهدات الدولية. موقف ملتبس أغضب الرئيس التركي.
بعدما إنجلت الأمور وفشل الإنقلاب، إستمر تردي العلاقات التركية-الأميركية بسبب مطالبة إردوغان للولايات المتحدة بتسليم الداعية فتح الله غولن رئيس شبكة “خدمة” والحليف السابق للرئيس التركي الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية، بعدما حمّله إردوغان مسؤولية الوقوف خلف الإنقلاب.
وكلما ساءت العلاقة مع أميركا، إلتصق إردوغان أكثر بروسيا. وشكّل وقوف واشنطن في سوريا مع “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) التي تعتبر “وحدات حماية الشعب” الكردي، عمودها الفقري، نقطة خلاف أساسي بين أنقرة وواشنطن. إردوغان يعتبر أن “الوحدات” هي النسخة السورية من “حزب العمال الكردستاني” الذي يقاتل من أجل حكم ذاتي في جنوب شرق تركيا منذ 1984. ونفذ الجيش التركي ثلاثة توغلات في الأراضي السورية بحجة “محاربة الإرهاب”. في المقابل، تعتبر الولايات المتحدة، أن المقاتلين الأكراد السوريين، هم حليف أساسي في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
حرب أوكرانيا.. فسحة إردوغانية!
وبعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وقف إردوغان في الوسط أو هكذا أوحى لموسكو برغم أن المسيّرات التركية من طراز “بيرقدار” هي السلاح الأمضى الذي صدّ الهجوم المدرع الروسي عن أبواب كييف.
إتخذ إردوغان من الحرب منصة لتوسيع دوره الإقليمي والدولي، فمن ناحية لم يلتزم بالعقوبات الغربية على موسكو، وفي الوقت نفسه، أغلق مضائق البوسفور في وجه البحرية الروسية وكذلك في وجه طائرات النقل العسكرية الروسية المتوجهة إلى سوريا أو المنطلقة منها. وسعى إلى دور الوسيط وإستضافت تركيا جولتين من الحوار الروسي-الأوكراني في بدايات الحرب. إضطلع إردوغان بدور رئيسي في تظهير إتفاق الحبوب. وفي الجانب الآخر، حاول بوتين إغراء الرئيس التركي بمشاريع إقتصادية مهمة، مثل الوعد بتحويل تركيا إلى منصة للغاز الروسي بعد الحظر الذي فرضه الإتحاد الأوروبي على واردات الطاقة الروسية.
حتى الآن، طغى الإلتباس على الموقف التركي تحت مسمى الدور “المتوازن” في النزاع الأوكراني. لكن بالوصول إلى الإنتخابات الرئاسية وفوز إردوغان بولاية ثالثة في 28 أيار/مايو الماضي، كانت المحطة الثالثة في العلاقات التركية-الروسية.
فوز رئاسي.. ولكن!
صحيح أن إردوغان حصل على تفويض ثالث من الأتراك (52 في المئة في مقابل 48 في المئة لمرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو). لكن تركيا في وضع إقتصادي سيء للغاية بفعل السياسات التي إتبعها إردوغان نفسه. فبعد عام 2011، تدهورت علاقات تركيا بمصر وسوريا ودول الخليج العربي-بإستثناء قطر- عندما قرر إردوغان ركوب موجة ما سمي “الربيع العربي” ودعم وصول “الإخوان المسلمين” إلى السلطة في مصر وسوريا وتونس وليبيا. وبعد تعثر مشروع الإسلام السياسي، دفع إردوغان ثمن عزلته عن الإقليم. ومنذ ثلاث سنوات فقط بدأ في تغيير نهجه والإتجاه إلى المصالحة مع دول الخليج العربية والآن ينفتح على مصر ويبدي خطوات غير حاسمة في إتجاه سوريا.
الإقتصاد التركي ساء في السنوات الأخيرة، وزاده سوءاً تمسك إردوغان بخفض معدل الفائدة لمحاربة التضخم الغير مسبوق، بينما القاعدة الإقتصادية التقليدية تفترض رفع الفائدة للحد من التضخم، لكن إردوغان تشبث بموقفه وغيّر ثلاثة حكام للبنك المركزي في ثلاثة أعوام. وهاجر المستثمرون الأجانب، وتدنت الليرة التركية إلى مستويات قياسية في مقابل الدولار، ودخلت تركيا في مرحلة ركود إقتصادي، وتقلصت الإحتياطات من العملة الأجنبية إلى مستويات مرعبة، وإستعان إردوغان بودائع من السعودية والإمارات وقطر لتهدئة السوق. وبحسب صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية فقد بلغ العجز في الميزان التجاري التركي 37.7 مليار دولار في الربع الأول من العام الجاري. ومع الزيادات التي أقرها إردوغان على رواتب الموظفين في الأشهر التي سبقت الإنتخابات الرئاسية، زاد العجز في الموازنة وبدت تركيا متجهة إلى كارثة إقتصادية، على رغم مساعدات الصين وروسيا والدول الخليجية في السنوات الأخيرة. بيد أن كل هذه العلاجات لم تعد تجدي نفعاً مع إستفحال الأزمة الإقتصادية.
بداية التحول.. التركي
أمام الواقع الداخلي المزري، وجد إردوغان أن الإستمرار في مناكفة الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، سيكون مكلفاً جداً من الناحية الإقتصادية. فكانت المقايضة الكبرى مع أميركا: القبول بالسويد عضواً في حلف شمال الأطلسي، في مقابل إنتشال تركيا من مأزقها الإقتصادي. وهذا وحده ليس كافياً من الناحية الأميركية إذا لم يترافق مع إبتعاد تركي عن بوتين.
لم يتخلف إردوغان عن إرسال إشارة في هذا الصدد. لم يكن إتصاله ببوتين بعد محاولة تمرد مجموعة “فاغنر” العسكرية الخاصة بقيادة يفغيني بريغوجين في 24 حزيران/يونيو الماضي، بمستوى الإتصال الذي أجراه معه بوتين عقب المحاولة الإنقلابية في 15 تموز/يوليو 2016. كان الإتصال التركي أشبه برفع العتب. محطات التلفزة التركية الموالية لإردوغان كانت تسخر من الوضع الذي آل إليه بوتين. هذه ملاحظة وردت في الصحافة الغربية التي ترصد التحول التركي.
إنتهاك إتفاق “أسرى آزوف”
أما الإشارة الأساسية التي لا تخطئها عين حول الإستدارة التركية، فصدرت خلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإسطنبول في 7 تموز/يوليو الجاري، عندما عاد الأخير من الزيارة مصطحباً معه خمسة من قادة كتيبة “آزوف” الذين يقضي إتفاق السماح لهم بالإنسحاب أحياء من معمل آزوفستال في مدينة ماريوبول الأوكرانية العام الماضي، بتسليمهم إلى تركيا على أن تحتفظ بهم إلى حين إنتهاء الحرب. الكرملين إكتفي ببيان أشار فيه إلى “إنتهاك” تركيا للإتفاق في شأن الأسرى، لكن لهجة البيان عموماً كانت تُعبّر عن الإستياء. لم يكتفِ إردوغان بهذه الخطوة، بل سدد ضربة أخرى في إتجاه الكرملين،عندما قال ـ وزيلينسكي إلى جانبه ـ إنه يجب ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي!
قبل أشهر قليلة، وصف إردوغان السويد بأنها تؤوي “إرهابيين وأوغاد”. ووصف حكومتها بأنها “شر” بعد سماحها بحرق نسخة من المصحف. فجأة يظهر الرئيس التركي من لقاء مع رئيس الوزراء السويدي أولاف كريسترسون على هامش القمة الأطلسية في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، ليمتدح “المهارات التفاوضية” للأخير، ويعلن أن أنقرة وافقت على إنضمام السويد إلى الحلف.
يتسم الرد الروسي على خطوات إردوغان بالتريث والإستيعاب والحرص على عدم زيادة أعداد الخصوم في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها روسيا. وفي الميزان هل يلبي بوتين دعوة إردوغان لزيارة تركيا في آب/أغسطس المقبل؟ وهل تبقي روسيا على الدور التركي في إتفاق الحبوب في حال تجديده؟
وفي الوقت نفسه، عاد إردوغان ليطرق باب الإتحاد الأوروبي ويحرّك مفاوضات الإنضمام التي توقفت قبل أكثر من عشرة أعوام.
الإستدارة التركية تتجاوز صفقة الـ”إف-16″ التي وعد بها الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره التركي في مكالمة هاتفية إستمرت ساعة كاملة بينما كان بايدن في الطائرة الرئاسية، في طريقه من لندن إلى فيلنيوس للمشاركة في القمة الأطلسية.
ما بعد قمة فيلنيوس
إن المسألة تتعلق بكيفية إنقاذ الإقتصاد التركي. الفريق الإقتصادي الذي إختاره إردوغان بعد فوزه بالرئاسة نصحه بأن عودة الحياة إلى الإقتصاد التركي تمر بإصلاح العلاقات مع أميركا وأوروبا. وإستكمالاً لتجديد العلاقة مع أميركا ذهب إردوغان إلى بروكسيل قبل فيلنيوس وإلتقى رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، الذي أكد له أن رفع “الفيتو” عن إنضمام السويد يفسح المجال أمام العمل في “مجالات متعددة”.
وفي خضم التبدل الحاصل في العلاقات التركية-الغربية، جمّد إردوغان مسار التطبيع مع سوريا، في إشارة إسترضاء أخرى للولايات المتحدة، بينما عادت السخونة إلى خطوط التماس في الشمال السوري.
ثمة من يراهن على أن الموقف التركي ليس سوى تكتيك سياسي، وبأن إردوغان لن يتخلى عن علاقاته مع روسيا نهائياً، كي لا يخسر سياحها وغازها ونفطها.
حتى الآن، يتسم الرد الروسي على خطوات إردوغان بالتريث والإستيعاب والحرص على عدم زيادة أعداد الخصوم في مرحلة من أخطر المراحل التي تمر بها روسيا. وفي الميزان هل يلبي بوتين دعوة إردوغان لزيارة تركيا في آب/أغسطس المقبل؟ وهل تبقي روسيا على الدور التركي في إتفاق الحبوب في حال تجديده؟ يتعين الإنتظار.