غالباً ما كان التلازم بين الإعلام والحرب يصبّ في مصلحة الطرف الأقوى، الذي يجعل من الإعلام سلاحاً من أسلحته لتحقيق أهداف عدة: تبرير الدخول في الحرب، إقناع الرأي العام بشرعيتها، وتغطيتها. ولتحقيق هذه الأهداف لا بأس من الركون إلى الكذب، التضليل، الدعاية، بالإضافة طبعاً إلى إسكات من لا يمكن التأثير عليه سواء عبر الضغط عليه، أو عبر قتله. وعلى مرّ العقود تعدّدت استخدامات الإعلام في الحروب، كما أساليب التضليل والدعاية، ربطاً بالتطوّرات التقنية التي شهدها قطاع الإعلام.
لا يختلف الأمر في الحرب الأخيرة التي تشنّها “إسرائيل” على غزة، ردّاً على عملية عسكرية نفذّتها حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري. ومع إدراكنا أن هناك الكثير لقوله في هذا المجال، نقتصر في هذا المقال على تسجيل ست ملاحظات متعلقة بالأداء الإعلامي، ونحن ندرك أن كلّ واحدة منها تستحق دراسة منفصلة.
أولاً؛ سردية الاحتلال
تحتاج الحروب إلى مبرّر لكي تُشنّ. وعوض أن تكتفي “إسرائيل” لتبرير حربها التي تشنّها على قطاع غزة بالردّ على العملية العسكرية التي أطلقتها حركة “حماس” بعنوان “طوفان الأقصى”، اختارت الكذب لكي تمنع أحداً من إيقافها عن الجرائم التي سترتكبها بحق الشعب الفلسطيني في غزّة. فروّجت على لسان كبار قادتها لكذبة قيام حركة “حماس” بقطع رؤوس 40 طفلاً، ووضعت هذه الكذبة على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه. ومعروف أن الكذب دأب الإسرائيليين منذ نشروا في العالم مقولة “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، ليُبرّروا إقامة كيانهم على أرض فلسطين.
وإمعاناً في تبرير جرائمها، استمرّت في سرديتها القائمة منذ عقود على القول إنها لا تقاتل مقاومة مشروعة ضد الاحتلال، بل مجموعة من الإرهابيين. وللغاية، تراها لا تتوقف عن تشبيه الفصائل الفلسطينية المقاومة بمن اتفق العالم على وصمهم بالإرهاب. قبل عقدين من الزمن، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون يُشبّه رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات بزعيم تنظيم “القاعدة”، أسامة بن لادن، وتصريحه شهير في هذا الإطار، إذ قال للأميركي في العام 2001: “ياسر عرفات هو بن لادن إسرائيل”. بعدها بأشهر كانت قوات الإحتلال تجتاح الضفة الغربية في العملية العسكرية التي أطلقت عليها تسمية “السور الواقي”. اليوم، انتقل الأمر إلى تشبيه قوى المقاومة بتنظيم “داعش” الإرهابي الذي يقطع الرؤوس، وبالتالي يصبح كلّ ما تفعله “إسرائيل” للقضاء عليها مباحاً، كما أباحت أميركا لنفسها احتلال أفغانستان والعراق بحجة الدفاع عن نفسها من “الإرهاب”.
قبل عقدين من الزمن شبّه الإسرائيليون الفلسطينيين بتنظيم “القاعدة” واليوم يشبهونهم بتنظيم “داعش”
ثانياً؛ انحياز الإعلام الغربي
تماشياً مع السردية الإسرائيلية، لم يتردّد الإعلام الغربي في وصف ما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر بـ”11 أيلول الإسرائيلي”. كما أن الرئيس الأميركي جو بادين وصف ما حدث بأنه “يُشكّل 15 ضعفاً لما حدث في 11 سبتمبر/أيلول”. وحده حسن النية يفهم أن هذا التشبيه هدفه الدلالة إلى ضخامة الحدث وخطورته، ربطاً بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. الرسالة الضمنية هي أنّ “إسرائيل” تتعرّض لهجوم إرهابي، وليس لمقاومة مشروعة ضد قوات احتلال لم توفّر أيّ نوع من الإجرام والسادية إلا ومارسته.. وبالتالي تصبح ردة فعلها مُبرّرة، كما فعلت الولايات المتحدة باحتلالها العراق وأفغانستان.
إلى التماهي مع السردية الإسرائيلية، هناك التضليل: الأمثلة أكثر من أن تحصى عن النظر بعين واحدة إلى ما يجري في هذه الحرب. ولولا فظاعة المجزرة المتمادية في غزة، لما التفت بعض العالم الغربي إلى عدم إمكانية تجاهل صور الأطفال الذين يُقتلون يومياً وتجاوز عددهم الألف وخمسمائة حتى تاريخه. وبرغم ذلك، تجد وسائل إعلامية تستغلّ صور أطفال غزة أنفسهم، لتثير شفقة العالم على أطفال إسرائيليين تم الادّعاء أنهم ذبحوا من دون أي دليل على ذلك.
انحياز الإعلام الغربي لا يقتصر على مضمون ما يبثه، بل على آراء العاملين لديه. يتعرّض عدد من الصحافيين المتعاطفين مع الفلسطينيين إلى التوقيف عن العمل، أو إلى التحقيق، لمجرد أنّهم عبروا عن آرائهم المتضامنة مع فلسطين أو استنكروا جريمة قتل ارتكبتها قوات الاحتلال. كما برز الانحياز في التعامل مع قتل الصحافيين عمداً من قبل الجيش الإسرائيلي والذين ترتفع أعدادهم يوماً بعد يوم، ولم يكن آخرهم مصوّر وكالة “رويترز”، عصام عبدالله، الذي تتحفظ وكالته حتى الآن عن ذكر الجهة التي قتلته. وأبرز قرار الحكومة الإسرائيلية بإغلاق مكاتب “الجزيرة” ومصادرة معداتها في القدس والمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948 أن إسرائيل تريد حجب الصوت والصورة، وهو ما يُفسر أن أحد مطالبها هو منع استمرار بث هذه الفضائية العربية من قطاع غزة. وقال الصحافيون الناجون من فريق “الجزيرة” في جنوب لبنان بعدما استهدفت سيارة النقل المباشر خاصتهم إن مروحيات الجيش الإسرائيلي كانت تطاردهم على مدى يومين وتُطلق الصواريخ في محيطهم إلى أن حصل الإستهداف المباشر الذي أدى إلى استشهاد الزميل عصام عبدالله.
ثالثاً؛ مواقع التواصل.. سلطة قمع
منذ ولادتها، هلّل كثيرون لمواقع التواصل الإجتماعي. حتى أن البعض وصفها بالسلطة الخامسة التي ستراقب السلطات الأربع، بما فيها وسائل الإعلام التقليدية (السلطة الرابعة). وقد تكون هذه المنصات أدّت دور الرقابة أحياناً، من خلال الإضاءة على ما تتجاهله وسائل الإعلام الرئيسية خدمة لمصالحها، إلا أنّها وقعت هي نفسها في فخ خدمة المصالح نفسها. الأمثلة كثيرة، أحدثها ما فرضته إدارات هذه المنصات من حظر على كلّ ما يتعلق بالمنشورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وبفضح المجازر الإسرائيلية. ومن لا يمتثل من المنصات، تُهدّده المفوضية الأوروبية شخصياً، تحت حجة نشر “محتوى كاذب”. وغير بعيد عن إدارة المنصات، ينشط الإسرائيليون، والمتعاطفون معهم، في التبليغ عن أيّ منشور لا يعجبهم، وسريعاً ما تستجيب هذه المنصات لطلبات التبليغ وتوقف الحسابات أو تمحو المنشورات.
في المقابل، لا بدّ من الإضاءة على بعض الإيجابيات، مثل الدور الذي يقوم به ناشطون من مختلف الجنسيات في فضح الكذب الإسرائيلي، والانحياز الغربي إلى الطرف الإسرائيلي. كما الإشارة إلى أن الإعلام الإسرائيلي لم يعد قادراً على إخفاء وصول صواريخ المقاومة إلى الأراضي المحتلة، إذ تنتشر الفيديوهات التي يلتقطها إسرائيليون لوصول الصواريخ إلى أماكن سكنهم، ويبثونها على مواقع التواصل، موثقة قدرة المقاومة على الاستمرار في قصف عمق الأراضي المحتلة.
مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد تشكل سلطة بديلة بل أداة جدية من أدوات كمّ الأفواه والترويج للسردية الإسرائيلية
أمر ثالث يمكن التوقف عنده ويعدّ من مظاهر الحرب اللافتة للإنتباه، إذا أدرجنا تطبيقي “واتسآب” و”تلغرام” ضمن مواقع التواصل، هو هذا التدفق الكبير للمعلومات التي تصلنا. مشكلة هذا التدفق هي عدم إمكانية التحقق من المعلومات التي تصل، بالإضافة إلى أن الرغبة في إبقاء المجموعة ناشطة وحية، قد تدفع القيّمين على المجموعة إلى إرسال كلّ ما يقعون عليه حتى لو لم تكن له قيمة.
رابعاً؛ “مكافحة الأخبار الكاذبة”
وربطاً بموضوع مواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكن إلا التوقف عند مهمة “مكافحة الأخبار الكاذبة” التي يتولاها عدد من وسائل الإعلام الغربية. علّبت وسائل الإعلام هذه المهمة بـ”توصيف وظيفي” يقوم على التأكد من صحة الفيديوهات الأكثر انتشاراً، وتبيان زمن التصوير ومكانه، في حين أن الخبر الكاذب الأخطر هو في التصريحات التي تنقل عن ألسنة السياسيين. وما كذبة رؤوس الأطفال المقطوعة إلا خير مثال على ذلك، إذ خرجت مراسلة “سي إن إن” سارة سيدنر لتُبرّر تبنيها لهذا الخبر بالقول إنها نقلته عن رئيس الوزراء الإسرائيلي. فأيّ فائدة تُرجى من “مكافحة الأخبار الكاذبة”، التي تُرصد لها مبالغ كبيرة، إذا كانت لا تستطيع منع صحافي من تكرار أكاذيب يتفوّه بها السياسيون ليبرّروا جرائمهم؟ يكفي أن نتذكر أن الترويج لأكاذيب مماثلة يمكن أن يؤدي إلى احتلال دول، وأيّ كذبة أكبر من “أسلحة الدمار الشامل الموجودة في العراق”، التي نُشرت في العديد من التقارير الأميركية، وأكدّها وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول، لتبرير الحرب التي شنّتها أميركا على العراق واحتلاله في العام 2003؟
خامساً؛ الإعلام العربي واستضافة الشخصيات الإسرائيلية
ماذا عن الإعلام العربي، وفضائياته الأبرز؟
منذ بدء الحرب، وغالبية الجمهور العربي مسمّرة أمام شاشات التلفزة لمتابعة ما يجري في غزة، ما يؤكد على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى هؤلاء، وعلى عودة التلفزيون إلى صدارة الوسائل الإعلامية. بالطبع يمكن الحديث عن تفاوت في الأداء بين قناة تلفزيونية وأخرى، لأسباب منها ما يتعلق بالإمكانيات المادية، ومنها ما يتعلق بارتباطات هذه القوات وأجنداتها. ومن الإنصاف القول إنّ عدداً من هذه القنوات يقوم بعمل جبّار. لكن إذا كان غضّ النظر عن مصالح هذه القنوات وأجنداتها ممكناً في الظروف العادية، تصبح مساءلتها في ظلّ حرب مماثلة واجباً مهنياً. فالسؤال الأبرز الذي يجب أن تطرحه هذه القنوات على نفسها: ما هو دورنا؟ وما الذي ينتظره جمهورنا منا؟
ما جدوى استمرار بعض الفضائيات العربية في استضافة شخصيات إسرائيلية تُهدّد الفلسطينيين وتشتمهم؟
بمعنى آخر، إذا كانت هذه القنوات ترى أن الحرب قائمة على شعبها (الشعب الفلسطيني) فهذا يتطلّب منها أداء مختلفاً، أقلّه إبراز الرواية الفلسطينية، ودعم الصمود. وبالتالي، لا يحتاج المشاهد العربي إلى من ينقل إليه الرواية الإسرائيلية، بلغته، وعلى الشاشة التي يُشاهدها. بعض الفضائيات العربية، عوض أن تتصدى للدورين، تفتح الهواء لإطلاق التهديدات الإسرائيلية من على منابرها تحت حجة “المهنية”. والسؤال المطروح: لمَ الاستمرار في السماح لشخصيات إسرائيلية بالإطلالة على شاشات عربية، وتهديد الفلسطينيين ومن يدعمهم بالقتل والتهجير؟ لماذا السماح بشتمهم من على منبر عربي؟ الإسرائيلي أنشأ أكثر من منصة ناطقة بالعربية، فليذهب من يرغب في سماع هذا الرأي إليها.
سادساً؛ فيديوهات المقاومة
تبقى ملاحظة أخيرة، تخرج عن سياق كلّ الأداء الإعلامي الذي ذكر أعلاه، وهي الفيديوهات التي تنشرها الحركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
نُدرك جميعاً، أن الكلمة في الحرب هي للميدان. ولو أن الكذب ينفع وحده، لكانت قضية فلسطين قد انتهت منذ عقود بفعل قوة الدعاية الصهيونية في العالم. وفي الميدان، رجال التفتوا إلى أهمية الدعاية، ودورها في رفع معنويات الشعب من جهة، وفي توهين جبهة قوات الاحتلال من جهة ثانية. إلا أن الدعاية التي قرّرت فصائل المقاومة اعتمادها لا تقوم على الكذب، بل على الصدق، وهذا مكمن قوتها. هي دعاية تحكي عن أعمال المقاومين التي ينجزونها فعلاً، مدركين حجم تأثيرها في معركتهم لتحرير أرضهم.
تقوم فصائل المقاومة بممارسة دعاية إعلامية لكنها تختلف عن الدعاية الصهيونية بصدقها
منذ الإعلان عن عملية “طوفان الأقصى”، والفيديوهات التي توزّعها الفصائل المقاومة لا تتوقف. كلّ يوم تقريباً ينتشر فيديو عن عمليات السابع من تشرين الأول/أكتوبر، مؤدياً وظيفتين أساسيتين: الأولى، تأكيد ما قامت به المقاومة من عمليات بحيث لا يمكن تكذيبها. والثانية، شنّ حرب نفسية من خلال إظهار قدرات المقاومة واستعداداتها لأي ردّ، وتحطيم صورة الجيش الأقوى في المنطقة، أو “الجيش الذي لا يقهر”. رأينا صوراً لجنرالات وجنود في الجيش الإسرائيلي لم يعد يُمكن أن تمحى من الأذهان. وبرغم مرور تسعة أيام على الحرب التدميرية التي تشنّها “إسرائيل” على غزة، لا يزال “الإعلام العسكري” قادراً على تصوير مشاهد جديدة، كان آخرها للتأكيد على استمرار انطلاق عشرات الصواريخ من غزة باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. إذا كان الإعلام والحرب متلازمان، فلا شيء يمنع أن يكون الإعلام صادقاً في خدمة قضية عادلة.