يستمر التهديد والوعيد بتنفيذ اجتياح بري واسع لقطاع غزة منذ تنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر. احتاج الإسرائيليون، ومعهم؛ وربما قبلهم الأميركيون والغرب كله؛ ساعات لإستيعاب الصدمة. ثم، وعلى الفور، بدأ الإسرائيليون يُجهّزون المجنزرات الثقيلة والدبابات المصفحة التي وصلت من أميركا خلال الـ48 ساعة الأولى. واليوم، هناك أكثر من 300 ألف جندي إسرائيلي يرابطون على طول الحدود مع القطاع برغم الإحباط الشديد الذي يسيطر عليهم، فقد أقنعتهم حكومتهم بأنها “المعركة الكبرى” ومن دونها لا يمكن تحقيق أهداف الحرب: إستعادة الهيبة والردع وثقة الجمهور وقطع رأس “حماس”. العمليات العسكرية لا تهدأ (جواً وبراً وبحراً) وتحصد على مدار الساعة مئات الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين (نحو 7000 شهيد وشهيدة، وآلاف الجرحى أكثر من نصفهم من الأطفال.. وعدَّاد آلة القتل مستمر).
إخراج الأسرى أولاً
يوم الثلاثاء الماضي، حصل موقع Axios على معلومات خاصة تُفيد أن إسرائيل مستعدة لتأجيل الغزو البري لبضعة أيام للسماح بإجراء محادثات حول إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الأسرى الذين تحتجزهم “حماس” (وحركة الجهاد الإسلامي) في غزة. وصرّح مسؤولان إسرائيليان كبيران لـ “Axios” أن الإدارة الأميركية هي التي نصحت إسرائيل بالتأجيل “على أمل كسب بعض الوقت”، وأن الإسرائيليين مستعدون للقيام بأشياء في المقابل “ذا اقترحت “حماس” حزمة كبيرة للتفاوض”.
من بين الأسرى الـ212 الذين تحتجزهم “حماس” (أُطلق منهم 4 حتى الآن) هناك عشرة أميركيين. ويقول الفرنسيون إن هناك أسرى من 17 جنسية (معظمهم من أصحاب الجنسية المزدوجة ومن العسكريين). وتعترف إسرائيل بأنه من المحتمل أن يكون بعض الرهائن قد قُتلوا في الغارات الجوية التي تقوم بشنها على القطاع. ويتخوف الإسرائيليون والأميركيون من أن يصبح التوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن مستحيلاً بعد تنفيذ الغزو البري. ويعمل ستيفن غيلين، نائب المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الرهائن، الموجود في تل أبيب منذ الأسبوع الأول من “طوفان الأقصى”، من أجل التوصل إلى “تسوية” بالتنسيق مع وسطاء قطريين ومصريين.
ومع ذلك، حتى لو تم التوصل إلى صفقة بخصوص الأسرى، فإن الجيش الإسرائيلي لن يتخلى عن خططه لإجتياح غزة. و”التأجيل” الذي يطلبه الأميركيون ليس فقط من أجل إخراج أكبر عدد من الأسرى، “فهم يريدون أيضاً مزيداً من الوقت لتثبيط الجماعات المدعومة من إيران والاستعداد لصد أي هجمات مرتقبة على المصالح الأميركية في المنطقة وذلك بمجرد قيام إسرائيل بتحريك قواتها بالكامل إلى غزة”، بحسب Axios.
إنها معركة “نكون أو لا نكون” بالنسبة للإسرائيليين كما للأميركيين. فلن يكون لأي مسؤول إسرائيلي “مصداقية” إن قبل بالعودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل “طوفان الأقصى”، أو حتى اكتفى بتحقيق مكاسب هامشية ضد “حماس”. وما يهم أميركا أولاً هو الحفاظ على وجود الكيان الصهيوني، بوصفه ركيزة للمصالح الأميركية والغربية في المنطقة.
كارثة لإسرائيل
لم يعد السؤال هو ما إذا كانت إسرائيل سترسل جيشها إلى غزة في عملية برية أم لا، بل متى تبدأ العملية؟ وهل تبدأ من الشمال نحو الوسط، أم تبدأ من الوسط نحو الشمال؟ وإلى أي مدى ستتوغل قوات الإحتلال في القطاع؟ وإلى متى ستبقى هناك؟ وما الذي ستواجهه وبأي كلفة؟ وهل يمكن أن يتحرك الرأي العام الغربي على وقع المجازر اليومية، وماذا سيكون دور حلفاء “حماس” في المنطقة؟
التوصل إلى صفقة بخصوص الأسرى لن يلغي قرار غزو قطاع غزة.. إنه معركة “نكون أو لا نكون” بالنسبة للإسرائيليين كما للأميركيين
خلال آخر هجوم إسرائيلي كبير على غزة، في العام 2014، سقط أكثر من 70 جندياً و6 مدنيين إسرائيليين وأكثر من 2000 مدني فلسطيني، على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي توغل بعمق بضعة أمتار فقط في القطاع. وكانت العملية رداً على هجمات صاروخية تم اعتراضها إلى حد كبير بواسطة نظام “القبة الحديدية”.
لكن حسابات اليوم مختلفة إلى حد كبير. فعملية “طوفان الأقصى” كانت أكثر فتكاً: أكثر من 1300 إسرائيلي سقطوا في يوم واحد، وسقطت معهم خرافة قوة الردع وهيبة إسرائيل، وهذه من أسوأ خسائرها في تاريخها في يوم واحد.
يتلخص الهدف العسكري المباشر لإسرائيل الآن في سحق وتدمير “حماس” أو على الأقل إصابتها بـ”شلل مميت”. ولتحقيق ذلك، سوف تسعى إلى قتل أو أسر قادة الحركة، السياسيين والعسكريين، وتدمير مخابئ الأسلحة والبنية الأساسية خاصتهم، لا سيما شبكة الأنفاق التي يبلغ طولها 500 كيلومتر مربع وبعمق يصل أحياناً إلى حوالي المائة متر. هذه الأهداف تتطلب، على الأقل، احتلالاً مؤقتاً، فـ”حماس” ببساطة راسخة في كل جزء من القطاع، بحيث لا يمكن استئصالها لا بالقنابل والغارات ولا بالغزو البري.
من أجل الاستيلاء على غزة، ستحتاج القوات الإسرائيلية لاستخدام القوة النارية الساحقة. وسيتعين عليها الانخراط في حرب شوارع غير مسبوقة، والقتال من منزل إلى منزل في بيئة معادية حتى آخر نفس. بيئة أبناؤها مستعدون وملتزمون بجعل الغُزاة يدفعون ثمن كل بوصة. تبلغ مساحة القطاع 360 كيلومتر مربع، وعدد سكانه نحو 2.3 مليون فلسطيني (7000 شخص لكل كيلومترمربع)، يعيشون في أحياء أغلبها عبارة عن أزقة ضيقة وساحات ومبانٍ خرسانية ذات ارتفاعات مختلفة. وهو مشهد يعرفه مقاتلو الفصائل الفلسطينية عن كثب، وسوف يستخدمون هذه الجغرافيا الصعبة للإيقاع بالقوات الغازية وإبطائها. كما سيستخدمون مهاراتهم في حرب الأنفاق لخداع العدو وشن هجمات ضده من اتجاهات غير متوقعة.
و”حماس” لن تقاتل وحدها. سينضم إليها مقاتلون من جماعات أخرى، مثل “حركة الجهاد الإسلامي”، وكذلك مدنيون (تعداد هؤلاء يتجاوز الخمسين ألفاً حسب مصادر فلسطينية). سيواجه الغُزاة نيران القناصة من كل صوب، والعبوات الناسفة والمفجرين الانتحاريين والصواريخ المضادة للدبابات والقذائف الصاروخية والطائرات الإنتحارية المُسيَّرة. سيكون تقدمهم بطيئاً، وسيتتطلب قتالاً شرساً من دون غطاء جوي (لا مجال للطيران الحربي أثناء حرب الشوارع).. وكل هذا سيتسبب في استشهاد أعداد هائلة من المدنيين الفلسطينيين (أضعاف مضاعفة عن الذين استشهدوا حتى الآن).
ولا ننسى أن الفصائل الفلسطينية تملك المبادرة في هذه الحرب. لقد فاجأت إسرائيل بعملية “طوفان الأقصى”، وهي بالتأكيد تتوقع رداً مدمراً. فقواتها معبأة ومستعدة تحت الأرض وفوقها بشكل جيد. صحيح أن إسرائيل تتمتع بقدرات عسكرية وبشرية واستخباراتية هائلة، ولديها جواسيس كُثر، لكن فشلها في توقع “طوفان الأقصى” يشير إلى أن قدراتها الاستخباراتية في القطاع قد لا تكون قوية كما تدعي، وهذا يزيد من احتمالات وقوع أخطاء مميتة من طرفها.
وما يزيد من صعوبة التنبؤ بنتائج الغزو المرتقب هو عدم اليقين بشأن قدرات الفلسطينيين. التخطيط الجيد لـ”طوفان الأقصى” تضمن السرّية والخداع العملياتي والابتكار التكتيكي، ما يشير إلى أن فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية باتت اليوم أكثر موهبة وقوة مما كان يُعتقد.
من جهة ثانية، إذا حققت إسرائيل نصراً عسكرياً فهذا يعني أن عليها أن تدير المنطقة في المستقبل المنظور (إدارة مدنية). بعبارة أخرى، سيكون لزاماً عليها أن تحكم شعباً لن يتوانى عن شن حرب عصابات ضد جنودها. أضف إلى ذلك أن الدمار الهائل الذي سيخلفه القتال الطاحن والطويل والبطيء سيشكل اختباراً للدعم الدولي الذي لن يكون مُستداماً.
أميركا أكثر المتضررين
على الجانب الأميركي، كانت رسالة “التضامن المطلق، وتقديم كل ما يلزم” التي أعلنها الرئيس الأميركي جو بايدن من تل أبيب، في 18 تشرين الأول/أكتوبر، موجهة إلى إسرائيل. أعطى بايدن “الضوء الأخضر” لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يحثها على التريث وتجنب تكرار “أخطاء” أميركا السابقة. وهذا ما قصده عندما قال: “بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، كنا غاضبين.. وبينما سعينا إلى تحقيق العدالة وحصلنا عليها، ارتكبنا أخطاء كثيرة أيضاً”، في إشارة إلى ما آلت إليه الأمور في كل من أفغانستان والعراق باسم “الحرب على الإرهاب”.
هناك قلق حقيقي بين المسؤولين الأميركيين بشأن التداعيات السياسية والإقتصادية المرتقبة للخطط التي تنوي إسرائيل تنفيذها، لقناعتهم بأن بلادهم ستكون أكثر المتضررين من توسع الحرب. وهم يحاولون ثني إسرائيل عن التورط في قتال دموي من منزل إلى منزل مثل الذي تورطت فيه القوات الأميركية في الفلوجة والموصل وغيرهما.
كان النهج الذي اتبعته إدارة جو بايدن تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو الدفع نحو نوع من “السلام الإقتصادي”، عبر ضخ مستمر للتمويل الخليجي إلى الأراضي المحتلة وتوسيع “اتفاقات أبراهام” لتطبيع العلاقات، وهذا لن يغير الوضع السياسي الراهن. لكن بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر تبدو الإدارة مترددة في التوسط لوقف إطلاق النار برغم إدراكها أن المشاعر المؤيدة لإسرائيل يمكن أن تتغير بسرعة، وأن الدعم الأميركي اللامحدود سيتبخر عندما تطغى عليه صور الضحايا والمعاناة الفلسطينية. هناك أيضاً خوف حقيقي من أنه كلما كان الهجوم على غزة أكثر وحشية، كلما زادت فرص أن يؤدي إلى صراع أوسع في المنطقة وتورط دول أخرى، وبالتالي تصبح القواعد العسكرية والقوات الأميركية المتواجدة في المنطقة عرضة لمخاطر حقيقية. فالتموضع الحالي في المنطقة ونشر الأنظمة الدفاعية يبقى محدود الفعالية بالنظر إلى جغرافية محور المقاومة في الإقليم.
أضف إلى ذلك أن الدفاع الصارخ عن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية يحدث في وقت تسعى فيه أميركا للحصول على دعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا. فالجيش الإسرائيلي يدمر غزة ويقتل الأطفال والشيوخ والعُزل بأسلحة أميركية متطورة، “ما يعني أن الاحتجاجات والإدانات الدولية؛ التي ستتبع أخبار الخسائر الجسيمة في صفوف الفلسطينيين؛ ستوجه ضد الولايات المتحدة قبل إسرائيل، وستفرض ضغوطاً عليهما لوقف عملياتهما العسكرية”، بحسب مارتن إنديك، عضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركية.
إن الغزو الوشيك لغزة سيهدد المصالح الأميركية الأساسية في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، كما سيهدد المنافسة القائمة مع الصين على الوضع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فالتصعيد يفتح فرصاً محتملة أمام بكين لتحقيق تقدم على واشنطن في سباقهما حول من يقود النظام العالمي، خصوصاً وأن أميركا الآن تحت وطأة مشاكل سياسية واقتصادية كبيرة وخطيرة.
انتفاضة في الضفة
منذ سنوات والجيش الإسرائيلي يواجه اضطرابات خطيرة في الضفة الغربية. فالمواجهات بين الفلسطينيين من جهة والجنود والمستوطنين الإسرائيليين من جهة ثانية تتصاعد يوماً بعد يوم وتشهد مفاجآت كبيرة لناحية قدرات الفلسطينيين على التصدي وتوجيه ضربات. كما أن المدن والبلدات اليهودية العربية المختلطة ليست أكثر هدوءاً.
ومع التطورات الخطيرة في غزة، والحملات الأمنية التي تشنها القوات الإسرائيلية ضد فلسطينيي الضفة، وتزايد الهجمات التي يشنها المستوطنون تحت حماية مباشرة من الجيش والشرطة، تبدو التوقعات قاتمة وتقود إلى استنتاج لا مفر منه وهو أن احتمالات اندلاع انتفاضة ثالثة باتت اليوم أعلى مما كانت عليه قبل سنوات، لا سيما وأن فرص التوصل إلى حل تفاوضي قد ولَّت، كما يبدو.
يحدث ذلك فيما حكومة بنيامين نتنياهو تواجه أسوأ وأصعب اختبار لمسألة بقائها. فالاحتجاجات التي شهدها الشارع الإسرائيلي ضدها على مدار عام كامل، وإن هدأت الآن، ستعود أشد مما كانت عليه، وستأخذ منحى أكثر عنفاً واستقطاباً بعد إضافة تهمة جديدة للحكومة: الفشل في حماية مواطنيها.
إن إدارة حرب واسعة في غزة، وفي الوقت نفسه إخماد انتفاضة ثالثة في الضفة وإحتواء عصيان مدني في إسرائيل، يعني أن الكيان الصهيوني وقع في كماشة رباعية الأسنان (مع إضافة جبهة الشمال حيث يشكل حزب الله التهديد الأكبر). فالقطاع في النهاية معزول عن المستوطنات بسياج أمني و”منظومة ردع”. وهو منطقة محاصرة ومسيطر عليها من البر والجو والبحر. أما المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية فتتداخل بشكل فسيفسائي مع المستوطنات والمناطق الإسرائيلية. ومعارك جنين ونابلس، إبان الانتفاضة الثانية، لا يزال يُسمع صداها حتى الآن، وكذلك صدى الهزيمة التي مُني بها “أقوى جيش في الشرق الأوسط” في حرب تموز/يوليو 2006 في جنوب لبنان، وقبلها مرارة الإنسحاب المذل من هناك في عام 2000.
“كش ملك”.. ملخص الوضع في فلسطين المحتلة.. فـ”الملك”؛ وإن كان ما يزال يلعب؛ لكنه مات سريرياً في الطوفان الذي هدر يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.