زادت وتيرةُ العنف والحرب والصراع، بكيفية لا مثيل لها تقريباً، ليس بين البلدان العربية نفسها فحسب، خلافاً لما جرت العادة خلال العقود الماضية، من صراعات عربية ـ عربية ممتدة[1]؛ ولا بينها وبين إسرائيل، إذ لم تحدث مواجهات كبيرة خلال عدة عقود، باستثناء حرب تموز/يوليو 2006، والتي صُنِّفَت على أنها حرب بين حزب الله (وهو من الفواعل من غير الدول) وبين إسرائيل، وصولاً إلى حدث غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، الذي يعد مواجهة بين حركة جهادية في قطاع غزة وبين إسرائيل، وإنما على مستوى المجتمع والدولة في عدد من البلدان العربية.
الواقع أن أكثر العنف والصراع على مستوى المجتمع والدولة، أحياناً ما يكون عابراً للمجتمع والدولة نفسيهما، من خلال شبكات جهادية وشبكات دعم إقليمية ودولية النشاط والإسناد. وثمة كلام كثير عن تورط مباشر وغير مباشر لدول ومنظمات وشبكات حول العالم في كل توتر وصراع قائم في المنطقة العربية. ولو أن هذا النص لن يذهب بعيداً في تحليل سياسي مباشر لما يحدث، بل يُركز على تحليل ثقافي وآراء عدد من المثقفين العرب.
وهكذا، أصبح الناس في عدد من المجتمعات والبلدان العربيّة، في ثنائيات حدّية وفسطاطيّة: موالون ــ معارضون، شبيحة ــ ثوار، وطنيون ــ خونة، نواصب ـ روافض، مقيمون ــ مهاجرون، إلخ. ولو أن ثمَّة مناطق أو شرائح اجتماعية، وحتى مجتمعات ودول تقف “بين – بين” أو “في منزلة بين المنزلتين”، إن أمكن التعبير، ومنها ما عالج ذلك بـ”التخلّي” أو “الاستسلام للواقع”، أو “ترك الجمل بما حمل”.
الكثير مما حدث من ثورات واحتجاجات، ولاحقاً حروب، كان مدفوعاً بالرغبة في التغيير وإصلاح الأحوال، وكشف عن همَّة كبيرة لدى الإنسان العربيّ، وفي الاجتماع العربيّ. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن
يتحدث الشاعر والمفكر السوري أدونيس مثلاً عن أحوال العرب اليوم، وهنا اقتباس مطول من كلام له، يقول فيه: “أن تكتب عمّا يحدث في البلدان العربيّة ـ العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، مصر ــ ليس أن تصف أو تسردَ. وليس أن تتأوّهَ على خراب العمران وقتل البشر. ليس أن تُصفِّق للصديق وتلعن العدوّ. أن تكتب هنا هو أن تُهيّئ المناخ الثّقافيّ الإنسانيّ لانتشال الحياة من براثن الظّلمات التي تلتهمها. هو أن تضع هذا العالم في عريِه الكامل، أمام الحقيقة، وإنسانيّة الإنسان، وفي انحدار الأسس والقيَم التي ينتمي إليها، أو ينهض عليها، في رفضٍ جذريٍّ، وعلى نحْوٍ شاملٍ وكامل”[2].
يضيف أدونيس: “لكي تُحسِّن أيُّها العربيّ قراءة الخراب الكونيّ، فإنّ عليك أن تبدأ بقراءة خرابك الشّخصيّ، الداخليّ. فُرِض عليّ أن أشيع باسمي أنا «الربيع العربيّ» ثقافةً يبدو فيها الإنسان أنّه يُقيم في بيتٍ اسمه الخراب، على أرض اسمها العَدَم”. ويختم بالقول: إنَّ “التّيه هو الوطن الذي يعيش فيه العربيّ، اليوم”.[3]
يقول الكاتب المغربي محمد سبيلا إن “الربيع العربيّ بقدر ما أتاح الفرصة لتقديم مشروع التحديث السياسيّ في شقّه المرتبط بمسار الدمقرطة في العالم العربيّ، بقدر ما أظهر العوائق الداخليّة والخارجيّة. سنكون سُذَّجاً إذا ما اعتبرنا بأنّ التاريخ كله بشائر وكله خير، وأنّ الآخر يريد لنا الخير ويريد لنا التقدم”[4].
لكن، هل يحمل “الربيع العربيّ” وِزرَ كلّ ذلك؟ لا شك أنَّ الحدث العربيّ في “لحظاته البدئيّة”، وخاصَّة في تونس 2010، ومصر 2011، وغيرها، مَثَّلَ “فرصة تاريخيّة”، أو بشرى بتغير الأحوال، ولكنه انتهى – بفعل عوامل عديدة – إلى كارثة.
قد يكون حجم الإحباط والخيبة اللاحقة، مُعادلاً لحجم الآمال والتوقعات، وربما أكبر. وهذا يُبرّر أو يُفسَّر أيضاً حجم الألم البادي في كتابات كثيرة، سبق لها أن احتفت بـ”الربيع العربيّ” وَعَدَّته “لحظة هيجليّة” في تاريخ المنطقة والعالم[5].
يقول المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي: “الربيع العربيّ لا يُعتبر مفهوماً بل استعارة من الجغرافيا والمناخ، وتقليداً لما حدث في أوروبا الشرقية يوم خرجت شعوبها من عصر الجليد إلى الربيع”، ويضيف “أن ما جرى غرسه في المجتمعات العربيّة لعقود طويلة شَكّل حفراً غير قابلة للردم بمثل هذه الصورة التي كنَّا نتصورها، ولذلك نحن نعيش خيبة أمل جديدة”[6].
وإذا كان مسار الاحتجاجات والثورات “أجهض” من ذاته أو نتيجة قابليات داخليّة، أو بفعل إكراهات وتدخلات من خارجه، فهذا لا ينفي أنَّه كان واقعاً له ما يبرره ويشرعنه[7]. وأنَّ العربيّ “يُحبُّ الحياة ما استطاع إليها سبيلا”، بتعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وأنَّه جدير بأن يكون حرّاً وليس مستباحاً. وهذا باب فيه كلام كثير.
عودة إلى أدونيس، يقول: “كان شاعرٌ عربيّ قديم يمازح أحد أصحابه، قائلاً: “أبو حَفْصٍ دخلتُ عليه يوماً، فغدّاني برائحة الطّعامِ”. وقد يصحّ في «ربيعنا» أن نقول عنه، لا مزاحاً بل جدّيّاً: لم نَذُقْ منه بعد، على هول ما أذاقَنا حتى اليوم، غير “الرّائحة”. لكن في هذه «الرائحة» ما يرسم خطاطة أوّليّة لدائرة التحوُّلات الكبرى في القرن الحاديّ والعشرين، لا في عالمنا العربيّ وحده، وإنّما في العالم كلّه”[8].
إذا كان مسار الاحتجاجات والثورات “أجهض” من ذاته أو نتيجة قابليات داخليّة، أو بفعل إكراهات وتدخلات من خارجه، فهذا لا ينفي أنَّه كان واقعاً له ما يبرره ويشرعنه وأنَّ العربيّ “يُحبُّ الحياة ما استطاع إليها سبيلا”، بتعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش
عودة ثانية إلى محمد سبيلا يقول: “عندما نقول تعثرات التاريخ، أو أنَّ الربيع العربيّ يُمثّل شكلاً من أشكال تعثرات التاريخ، فإنَّنا نقصد بذلك تداخل الرؤى والمصالح والفاعلين، بحيث أنَّ ذلك التطور الطبيعي التلقائي الخطّي المتصاعد نحو التقدم لم يعد وارداً، وأصبحنا أمام خطّ تطور لولبي أو متشابك حسب المصالح والإرادات والتمويلات، وهذا ما يدعم الفكرة التي قدّمناها حول تقييم حدث الربيع العربيّ، ولو أنَّنا نُقدّم حكماً جزئياً، لكن الحكم النهائي الحاسم يُقدّمه التاريخ نفسه بعد أن يمضي”[9].
مرَّة أخرى، يجب ألا نحاكم الحدث العربيّ بـ”ما وعد به”، ولم يمكنه تحقيقه، أو بـ”ما آل إليه” فحسب، ولو أن هذا ما يحدث عادة، وإنما بـ”ما كشف عنه” و”أحال إليه” أيضاً. ذلك أنَّ الكثير مما حدث من ثورات واحتجاجات، ولاحقاً حروب، كان مدفوعاً بالرغبة في التغيير وإصلاح الأحوال، وكشف عن همَّة كبيرة لدى الإنسان العربيّ، وفي الاجتماع العربيّ. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن.
وتبدو أحوال العرب اليوم أهوالاً مستمرة بلا انقطاع تقريباً، حتى أن عدداً كبيراً من الدول العربية مصنف في عداد الدول الفاشلة أو المهددة بالفشل، حسب تقديرات عالمية. ولا يُغيّر من ذلك وجود مجتمعات وبلدان ليس فيها أزمات أو اضطرابات وحروباً بل تبدو مستقرة وآمنة، ذلك أن العالم العربي كله في مهب الريح، ومن الصعب أن يحقق بلد الأمن والاستقرار بمعزل عن المجتمعات والبلدان الأخرى.
ختاماً؛ من المهم أن نقرأ واقع العرب اليوم بأكبر قدر ممكن من الموضوعيّة، وأقل قدر من الأحكام المسبقة، مع قدر ولو كان يسيراً من التفاؤل، وهذه مسألة شاقَّة من دون شك!
[1] يعتمد النص في جانب منه على ما ود في كتاب للكاتب بعنوان: تدبير السياسة: العرب وأسئلة السياسة والثورة والدولة، (دمشق-الشارقة: دار الفرقد للنشر، 2023).
[2] أدونيس، “إذاً، ما وراءك، أيُّها الرّبيعُ”؟، الحياة، (7 تموز/يوليو 2016).
[3] المصدر نفسه.
[4] محمد سبيلا، “الربيع العربيّ بدأ لغزاً تاريخيّاً، وشوّش على التحديث”، حوار: بلال التليدي، عربيّ 21، (1 شباط/فبراير 2019).
[5] انظر مثلاً: هاشم صالح، الانتفاضات العربيّة على ضوء فلسفة التاريخ، (بيروت: دار الساقي، 2013).
[6] “جورج طرابيشي، حان الوقت لإعادة النظر بمقولة “الربيع العربيّ”، القدس العربيّ، (8 نيسان/أبريل 2014).
[7] انظر مثلاً: فواز جرجس (تحرير)، الشرق الأوسط الجديد: الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربيّ، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2016).
[8] أدونيس، “إذاً، ما وراءك، أيُّها الرّبيعُ؟”، ورد ذكره سابقاً.
[9] محمد سبيلا، “الربيع العربيّ بدأ لغزا تاريخيّاً، وشوّش عل التحديث“، ورد ذكره سابقاً.