“فورين أفيرز”: غزة تُعلّق التطبيع الإسرائيلي-السعودي ولا تُلغيه

منى فرحمنى فرح11/11/2023
الحرب الإسرائيلية على غزة "تُجمد" مفاوضات التطبيع بين السعودية وإسرائيل إلى حين، لكن لا/ ولن تُلغيها. ذلك لأن الأسباب والأهداف التي أوجدت هذا المسار باقية. وبمجرد تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة "أكثر مرونة" سيعود الطرفان إلى طاولة المفاوضات، حتى قبل أن تنتهي أزمة غزة، بحسب تقرير لـ"فورين أفيرز"(*).

تضع الحرب في غزة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، في موقف صعب، على الأقل على المدى القصير. فهو يتوق إلى الإستقرار الإقليمي لكي يحقق رؤيته “2030” الخاصة بتنويع اقتصاد بلاده وتقليل الإعتماد على النفط. لكن السعودية تتعرض لضغوط أميركية وأوروبية من أجل أن تلعب دوراً قيادياً في القطاع ما بعد حركة “حماس”، وفي الوقت نفسه، تطالبها جهات محلية وإقليمية بوجوب دعم ومساندة الفلسطينيين في محنتهم.

ليس لدى السعودية القدرة ولا الرغبة في نشر قوات في غزة بعد الحرب، كما أنها لا تريد أن تتحمل أعباء إعادة إعمار القطاع. في الوقت نفسه، لم تبادر لإستخدام أي من الأدوات المتاحة لديها للضغط على إسرائيل أو أميركا، مثل خفض إنتاج النفط أو وقف صادراته. وبرغم أن الصفقة الإسرائيلية- السعودية غير مطروحة على الطاولة في الوقت الحالي، إلا أن الحوافز التي دفعت الرياض للتفكير في تطبيع العلاقات والاعتراف بإسرائيل لم تختفِ، وأهمها أن أهداف محمد بن سلمان الاقتصادية الطموحة لا يمكن تحقيقها إلا في شرق أوسط مستقر وفي ظل علاقات قوية مع أميركا. وسوف تشكل هذه الأجندة طويلة المدى مسار تعاطيه مع الأزمة القائمة حالياً في المنطقة.

خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الوراء

قبل عملية “طوفان الأقصى”، أكدت الإدارة الأميركية أنها خطت خطوات ملحوظة في جهودها للتوسط في اعتراف السعودية بإسرائيل. ومحمد بن سلمان أكد لشبكة “فوكس نيوز” أن “كل يوم نحقق تقدماً في المفاوضات ونقترب أكثر من التطبيع”. حصل ذلك برغم وجود عقبات كبيرة تتعلق بالمصالح المتباينة للأطراف الثلاثة: فالسعوديون يطالبون إسرائيل بإلتزامات ملموسة لتحسين وضع السلطة الفلسطينية، ليس أقلها إستئناف المفاوضات الخاصة بحل الدولتين. ونظراً للتركيبة اليمينية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية، فإن مثل هذه الخطوات غير مرجحة. كذلك يطالب السعوديون واشنطن بضمانات أمنية رسمية؛ تشبه ما يقدمه حلف “الناتو” لأعضائه؛ والمساعدة في بناء برنامج نووي مدني سعودي لا يخضع للشروط المفروضة على الشركاء الآخرين.

لكن القضية الفلسطينية ستشكل دائماً عقبة. فبرغم أن المحرمات في دول الخليج ضد العلاقات مع إسرائيل قد تراجعت في السنوات الأخيرة، ما تزال الجماهير العربية تحتضن القضية الفلسطينية. ويجد الزعماء العرب أنفسهم مرغمين على أن يتظاهروا بأنهم متفقون مع شعوبهم في هذا الخصوص على الأقل.

قبل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، اشترطت السعودية على إسرائيل إتخاذ قرارات جوهرية بشأن القضية الفلسطينية كشرط أساسي للتطبيع. وفي آب/أغسطس 2023، وبينما كانت مفاوضات التطبيع تُحرز تقدماً، عيَّنت الرياض أول سفير لها في رام الله، في مبادرة فسّرها كثيرون على أنها “ضغط” من أجل انتزاع ضمانات إسرائيلية لصالح الفلسطينيين. ولتحقيق التقارب “المنشود” مع الرياض، ستحتاج إسرائيل إلى القيام بأكثر مما فعلت في الفترة التي سبقت “اتفاقات أبراهام” وتطبيع العلاقات مع كل البحرين والمغرب والسودان والإمارات، عندما وافقت على التخلي عن خطط لضم 30% من أراضي الضفة الغربية، والتراجع عن قرار توسيع سيادتها على الأراضي التي تحتلها حالياً؛ وهي خطوة كان من شأنها أن تقضي على إحتمال تطبيق حل الدولتين نهائياً.

هذه الخطوات المتواضعة لن تكون كافية بعد الآن. فالحرب الإسرائيلية المتواصلة على غزة منذ أكثر من شهر، والخسائر الفادحة التي تتسبب بها في أرواح وممتلكات المدنيين كل يوم قد رفعت سقف الرهان (…).

لا يمكن تحقيق أهداف بن سلمان الاقتصادية الطموحة للسعودية إلا في شرق أوسط مستقر وفي ظل علاقات قوية مع أميركا

إن استعداد السعودية لإتمام صفقة التطبيع مع إسرائيل يعكس تحولاً واسعاً في سياسة البلاد الخارجية. عندما وصل محمد بن سلمان إلى السلطة، مع صعود والده إلى العرش في العام 2015، وضع البلاد على مسار طموح للتغيير الاقتصادي، وبدأ يلقي بثقل المملكة في المنطقة، غالباً بهدف مواجهة إيران. وبالتحالف مع الإمارات، شنَّ حرباً ضد الحوثيين في اليمن، وفرض حصاراً على قطر (بحجة دعمها للجماعات الإسلامية السنية، بما في ذلك حركة “حماس”). وعندما زار سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني آنذاك، الرياض في خريف العام 2017، أجبره على الاستقالة من منصبه، على أمل أن يؤدي ذلك إلى افتعال أزمة سياسية في لبنان تنعكس سلباً على حزب الله (…). كذلك صعّد لهجته تجاه إيران، وهدّدها قائلاً “لن ننتظر أن تكون المعركة في السعودية.. سنعمل على أن تكون على أرضهم”. وبعد مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول نشبت أزمة بين واشنطن والرياض.

كل ذلك أدَّى إلى نتائج عكسية في نواحٍ عديدة: لقد فشل ولي العهد في إلحاق الضرر بأعدائه، وفي الوقت نفسه جعل مؤيديه الدوليين ينفرون منه. فالرئيس الأميركي جو بايدن، على سبيل المثال، وعد في خطاب حملته الانتخابية، في عام 2020، بجعل الرياض “منبوذة” داخل المجتمع الدولي. اضطرت الرياض لتغيير نهجها والتأكيد على الحوار والسعي لتحقيق الاستقرار في الإقليم: جرى وقف لإطلاق النار في اليمن، انتهت المقاطعة التي قادتها ضد قطر، تواصلت مع الصين للتوسط في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران. كل هذا تم باسم برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أطلقه محمد بن سلمان: “رؤية 2030″، بهدف تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على صادرات النفط، وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتحقيق التكامل الإقليمي والتنمية الاقتصادية. وفي هذا السياق، بدأت الوساطة الأميركية بين إسرائيل والسعودية.

الإبقاء على مسافة

لطالما خشي السعوديون، وعارضوا، المكاسب السياسية التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين في كل من مصر وتونس وأماكن أخرى خلال فترة “انتفاضات الربيع العربي” (…). في الوقت نفسه، لا يمكن القول إن السعوديين يقفون على الحياد تجاه ما يجري الآن في فلسطين المحتلة، أو أنهم يواصلون التفاوض مع إسرائيل. لدى الرياض مصلحة في وقف الحرب وإحراز تقدم نحو تسوية سلمية للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، لكن ليس لديها سوى القليل من الأدوات لتحقيق ذلك في الوقت الحالي.

إقرأ على موقع 180  سوريا صينية.. في صياغات شرق أوسطية جديدة

من الاقتراحات التي تقدم بها وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن ترسل السعودية قوات عسكرية وإدارية إلى غزة ما بعد الحرب، وتمويل إعادة إعمار القطاع (بدأت بالفعل مناقشات دبلوماسية حول الموضوع). لكن الرياض ترفض أن يُنظر إليها على أنها الجهة المسؤولة عن تنظيف الفوضى الإسرائيلية. وإذا ما رغبت في المساهمة في تمويل إدارة انتقالية توافق عليها الأمم المتحدة لتولي إدارة القطاع ما بعد الحرب، فسيكون ذلك على شكل فرص إستثمار وليس تحويلات مادية (كما جرى مع مصر). وسيكون ذلك أيضاً مشروطاً بأن تقدم أميركا ضمانات لتحقيق مكاسب دبلوماسية “إضافية” غير التي طلبتها مقابل التطبيع مع إسرائيل (…).

المكاسب قبل السياسة

يُحذّر البنك الدولي ووكالة الطاقة الدولية وجهات ممولة غربية عدّة من أن “أزمة نفط” تلوح في الأفق تحاكي صدمة عامي 1973-1974، عندما خفّضت السعودية، وغيرها من الدول العربية المنتجة للنفط، الإنتاج وفرضت حظراً على واشنطن لمعاقبتها على دعمها لإسرائيل في حرب أكتوبر 1973، ما تسبب بإرتفاع أسعار النفط أربع مرات.

هذه المخاوف مبالغ فيها. وهناك سوء فهم لما حدث في عام 1973. فعلى النقيض من كل ما يُقال، لم يكن لـ”الحصار النفطي” تأثير يُذكر. شركات النفط الكبرى، وبكل بساطة، أعادت توجيه الإمدادات من مصادر أخرى، مثل أميركا الجنوبية وغرب إفريقيا وإيران. كان نشر الهلع بين المستهلكين بهدف التلاعب بالأسعار والدفع نحو الخصخصة وراء زحمة الطوابير أمام محطات الوقود وليس النقص في كميات الوقود على المستوى الوطني. أسعار النفط ارتفعت عالمياً لأن خفض الإنتاج أقلق الأسواق، برغم أن إجمالي إمدادات النفط العالمية لم تتأثر كثيراً. التوازن بين العرض والطلب العالميين أبقى الأسعار مرتفعة لسنوات، قبل أن تتسبب الثورة الإيرانية (1979) بصدمة أسعار ثانية.

يستطيع من يطاردهم شبح “الحصار” اليوم أن يشعروا بالارتياح لأن الظروف الآن تختلف كثيراً عن العام 1973. يومها كانت السعودية متحالفة بشكل وثيق مع مصر وسوريا (العدوين الرئيسيين لإسرائيل في حرب 1973)، بينما هي ليست حليفة لـ”حماس”. وكان السعوديون أيضاً على استعداد لخوض مخاطر كبيرة من أجل دعم الرئيس المصري أنور السادات، الذي أنهى عداء بلاده للرياض، بينما هم لا يظهرون أي تضامن مع “حماس”.

العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة وضعت المفاوضات الإسرائيلية – السعودية غير المباشرة على “الجليد”، لكن هذا لا يعني أن العوامل أو الأسباب التي أوجدت تلك المفاوضات من أساسها لم تعد موجودة

كذلك القلق من خفض الإنتاج غير مفهوم. فالسعوديون خفّضوا الإنتاج بالفعل منذ أواخر عام 2022 بنحو مليوني برميل يومياً، بهدف رفع الأسعار. ولم يكن لهذه الخطوة تأثير يُذكر: الأسعار تتراوح حالياً بين 80 إلى 85 دولاراً للبرميل، وهو أقل بكثير من 100 دولار للبرميل أي السعر الذي كان متوقعاً خلال الصيف الماضي. والمزيد من التخفيض لن يفيد الرياض بشيء. على العكس، يمكن أن تُنَفّر المستهلكين منها؛ ليس فقط في أميركا ولكن أيضاً في الصين. والأهم من ذلك، أن لدى محمد بن سلمان مصلحة في أن يُنظر إليه شخصياً على أنه “شريك” اقتصادي يُمكن الاعتماد عليه، وليس عاملاً مُعطلاً يلوّح بـ”سلاح النفط”. وهو بالفعل ملتزم بهذا الهدف حتى وسط الاضطرابات الحالية: ففي أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وبرغم الأوضاع المروعة في غزة، عُقد في الرياض المؤتمر السنوي لـ”مبادرة مستقبل الاستثمار” وحضرته شخصيات بارزة من جميع أنحاء العالم.

اللعبة الطويلة

أزمة غزة سوف تنتهي، كما تنتهي كل الأزمات. ومن المرجح أن يستغرق ذلك أشهراً وليس أسابيع، ما يعني أن كثيراً من الجهود الدبلوماسية في الشرق الأوسط ستكون معلقة حتى إشعار آخر. العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة وضعت المفاوضات الإسرائيلية – السعودية غير المباشرة على “الجليد”، لكن هذا لا يعني أن العوامل أو الأسباب التي أوجدت تلك المفاوضات من أساسها لم تعد موجودة. لدى إسرائيل رغبة حقيقية وقوية في إقامة علاقات وثيقة ومباشرة مع السعودية. في المقابل، يتطلع السعوديون للإستفادة من الاقتصاد الإسرائيلي الديناميكي، كما فعلت وتفعل الإمارات منذ توقيع “اتفاقات أبراهام”. أضف إلى ذلك أن البلدين يتفقان على أن إيران “تهديدٌ إقليميٌ”(…). وبمجرد أن تتشكل حكومة إسرائيلية جديدة “أكثر مرونة” سيعود الطرفان إلى طاولة المفاوضات، حتى قبل أن تنتهي الحرب في غزة (…).

في هذا السياق، من المهم أن نتذكر أن كل اتفاق عربي مع إسرائيل كان في جوهره اتفاقاً عربياً مع الولايات المتحدة: معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (1979) فتحت الباب أمام المساعدات الأميركية لمصر (العسكرية وغير العسكرية). اتفاقية السلام الإسرائيلية الأردنية (1994) أعادت الأردن إلى حظوة واشنطن بعد دعمها لصدام حسين في غزوه الكويت عام 1990. اتفاقيات أبراهام” (2020-2021) تضمنت اعتراف واشنطن بأحقية المغرب بالصحراء الغربية، ورفعت السودان من لائحة الإرهاب، ومنحت الإمارات حق شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 (تم تعليق الصفقة لاحقاً من قبل إدارة بايدن). هذا النوع من الفوائد جذّاب بالنسبة للسعودية، بغض النظر عمَّا يحدث الآن في إسرائيل وغزة.

إن العودة في نهاية المطاف إلى المفاوضات الإسرائيلية – السعودية ستعني أيضاً العودة إلى المفاوضات الأميركية – السعودية بشأن قائمة رغبات الرياض: ضمانات أمنية وإمتلاك برنامج نووي سلمي بدون قيود. عندها من المهم بالنسبة لواشنطن أن تُفاضل بين جائزة التطبيع الإسرائيلي – السعودي وتكلفة الالتزامات العسكرية الأميركية الجديدة والمخاطر المرتقبة من انتشار أسلحة نووية في المنطقة (…).

(*) غريغوري غوز الثالث، خبير في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات الدولية، ورئيس جامعة “جون إتش. ليندسي 44”.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  إيران ما بعد "النووي".. حليفة "الفقراء" أم "الأغنياء"؟