كان رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو قد سبقه إلى هذا التلميح قبل ثماني سنوات. بل تجاوز التلميح إلى تصريحٍ فجّ يومها، حيث قال في المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في القدس عام 2015 بأن هتلر كان يريد طرد اليهود من أوروبا، غير أن الحاج أمين الحسيني أقنعه بإزالتهم من الوجود عبر إحراقهم. وقد أظهر نتنياهو بذلك إستعداداً لتبرئة الزعيم النازي لمصلحة إدانة الفلسطينيين!
اجترار صورة هتلر لا تأتي من فراغ. تماماً كما اجترار صورة “داعش”. إنّها الدعاية. الأسلوب الأنجع لصناعة الإجماع وإدارته في عصر الديموقراطية، والطريقة البديلة عن استخدام القوة والعنف لأجل السيطرة على الرأي العام كما هو الحال في الدول الشمولية. وهذا البديل يُستعمل في مناخٍ كامل من “الحرّيّة”، ومن الإثارة والتشويق!
ليست إسرائيل طفل أميركا المُدلّل وحسب. إنها مرآتها المصّغّرة. وجهها الآخر الذي يعرّفها على موقعها ومصالحها أكثر، بل على طرق تشكّل الدّاخل فيها كذلك. وليست أميركا داعمة إسرائيل وحسب، بل هي وعيها ولاوعيها معاً.
وأميركياً، كما إسرائيلياً، يعتبر الأسلوب الدعائي أحد أبرز دعائم الديموقراطية. إنه الثورة في “فن الديموقراطية” على حد تعبير والتر ليبمان، عميد الصحافيين الأميركيين سابقاً وأهم محللي السياسة الخارجية والمحلية الذي انخرط في لجان الدعاية في أميركا. من خلال هذا الفن، يمكن جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يُحبّذها بالأساس، أو يتحول بسهولة من موقفٍ إلى آخر بدون الشعور بأن تغييراً ما قد حدث. أثبت ذلك نجاعته في أكثر من مناسبةٍ دلّلت وأكّدت على أنّ معنى الديموقراطية في أميركا تحديداً هو أن تمنع العامة من إدارة شؤونهم وإدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظلّ تحت السيطرة. مجموعة قليلة من النخبة المتخصصة والرجال المسؤولين، تدرك المصالح العامة، هي المنوطة بأن تُحلّل وتُنفذ وتصنع القرارات وتُدير الأمور في النظم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية في البلاد، فيما البقية الغالبة هم مجرد قطعان “يجب أن نحمي أنفسنا من وقع أقدامهم وزئيرهم” على حد تعبير ليبمان نفسه. وظيفة “القطيع” أن يبقى مشاهداً لا مشاركاً في الفعل السياسي، ووظيفة النخبة أن تصنع إجماع القطيع على ما تراه مصلحة عامة.
نجحت “لجنة كريل” للدعاية الحكومية خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين من مسالمين، إلى مواطنين تتملكهم هستيريا الحرب والرغبة في “إنقاذ العالم” من كل ما هو ألماني. تم هذا عبر إثارة المشاعر القومية المتطرفة، واستخدام وسائل غير محدودة فيها قدر كبير من التزييف
عام 1916، انتخب الرئيس الأميركي وودرو ويلسون وفق برنامج انتخابي بعنوان “سلام بدون نصر”. كان مزاج المواطنين حينها رافضاً لفكرة الانخراط في حرب أوروبية في منتصف الحرب العالمية الأولى. كان على إدارة ويلسون، في المقابل، التزامات تجاه الحرب. آنذاك، نجحت “لجنة كريل” للدعاية الحكومية خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين من مسالمين، إلى مواطنين تتملكهم هستيريا الحرب والرغبة في “إنقاذ العالم” من كل ما هو ألماني. تم هذا عبر إثارة المشاعر القومية المتطرفة، واستخدام وسائل غير محدودة فيها قدر كبير من التزييف.
وبعد أن وضعت الحرب الأولى أوزارها، وُظّف ذات التكتيك الدعائي لإثارة الهستيريا ضد الرعب الشيوعي أو ما أطلقوا على تسميته “الذعر الأحمر”. حدث ذلك لاحقاً مع الوحش الإرهابي. فكرة خلق الوحش وتعظيم تهديده ترسخّت بوصفها أبرز دعائم الدعاية وتصنيع الإجماع، لكونها تكرس فكرة الحفاظ على المصلحة العليا والهوية الوطنية، وتحمي مما يُطلِق عليه النخب تسمية “أزمة الديموقراطية”، والتي تعني في ما تعنيه نشوء معارضات تشارك في العملية السياسية وترفع صفة التبلّد والطاعة عن الجمهور. هذا أكثر ما يخافون منه. إحدى تجليات أزمة الديموقراطية مثلاً كان ما وصفوه بـ”أعراض فيتنام”. مصطلح بدأ ظهوره في السبعينيات الماضية، وعِرِّف بكونه المخاوف “المرضيّة” ضد استخدام القوة العسكرية. وأما وسمها بالمرضيّة، فلأن من شأنها أن تضع حدوداً للمغامرات على صعيد السياسة الخارجية، لذلك من الضروري تلقين الناس مبدأ “احترام القيم العسكرية”. ومن أجل ذلك، وظّفوا دعاية الدفاع عن النفس بأعلى توظيفاتها. أذاعت نخبة كيندي مثلاً وقتها أن مهاجمة جنوب فيتنام بالقنابل هي في إطار دفاعهم عن جنوب فيتنام ضد الفيتناميين أنفسهم. سُمّي هذا “بالدفاع ضد العدوان الداخلي”.
“سيستم” من الدعاية متقن ومعقّد، بُنيت عليه السياسة الأميركية لأجل إدارة الرأي العام وفقاً لمصالح النخب الحاكمة، وصدّرته إلى أعوانها، كان من شأنه أن يرسم العديد من الوقائع السياسية طيلة سنوات مضت. وهو نظامٌ تستمر النخب الأميركية والاسرائيلية في اتباعه، لولا أنّ شيئاً ما تغيّر في الآونة الأخيرة.
أن يُظهر الرّأي العام في أميركا، ببعضه، هذا المشهد غير المسبوق من المعارضة للحرب على غزة، والدعم الأميركي لها، فهذا يعني أمراً واحداً: هذا “الفن الديموقراطي” بدأ يهتز بالفعل. بدأ يفقد أثره. إنه ضربة في الصّميم لعمق العقيدة الدعائية وتوظيفاتها. ضرب لفكرة أعراض فيتنام المرضيّة. قلبٌ لصورة الديموقراطية القائمة على قسمين: قلة من النخب وكثرةٌ من القطيع. ظهر ذلك ما قبل حرب غزة. منذ مظاهرات I can’t breathe. لكنه الطوفان. الحدث الكاشف والهزّة الضاربة في العمق الأميركي، لا الإسرائيلي وحسب.. وإنّما الأحداث تسلسلٌ وتراكم نقاط.
رفعُ صورة الحاج أمين الحسيني، كما كل محاولات إثارة الجلبة، لم تعد صالحة في صُنعة التزييف وتصنيع الإجماع. لم يعد ثمة إجماع. أدرك الأميركيون ذلك. كل خطابات مسؤوليهم حول الهدنة وضرورتها الإنسانية والكلام المنمق حول إبعاد المدنيين ليس سوى فعل رضوخٍ لحالات المعارضة المستجدة والقوية. رضوخ لما يسمونه هم بـ”أزمة الديموقراطية”. اعترافٌ بالأزمة. وترقّبٌ لتداعياتها.
خلق الوحوش، التذكير بها، تعظيم تهديدها، والترويج لفكرة الدفاع عن النفس، وإن كانت سياسة نجحت ولما تزل في إدارة الإجماع في الغرب، لكنها، بفعل “الطوفان”، وبفعل خروج وسائل التواصل الاجتماعي عن سيطرة نخب السياسة ورجال الأعمال، أصيبت في خدشٍ كبير، له أن يلقي بأثره على المجتمع والسياسة في أميركا.. وعلى مرآتها إسرائيل. ليس أمامنا سوى المراقبة والترقب.