“دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة اليوم (18 كانون الأول/ديسمبر 2023) يومها الثالث والسبعين. وقد بدأت في إثر الهجوم الذي قامت به حركة حماس في المنطقة الجنوبيّة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وتوقفت مدة أسبوع بين 24 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت والفاتح من كانون الأول/ديسمبر الحالي من أجل تنفيذ صفقات تبادل أسرى.
وما ينبغي ملاحظته هو أن ثمة تركيزاً في الأيام القليلة الفائتة من جانب أبرز المراسلين والمحللين الإسرائيليين، السياسيين منهم والعسكريين، على ما تم الوصول إليه من نتائج لهذه الحرب حتى الآن بمقايستها مع ما وضعته الحكومة الإسرائيلية لها من أهداف (لعل أبرزها القضاء على مقدرات حماس العسكرية والسلطوية، وإطلاق الأسرى والمخطوفين، وأضيف إليهما هدف متعلق بمستقبل قطاع غزة في ما يوصف بأنه “اليوم التالي للحرب” فحواه كما جاء على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن يكون قطاع غزة منطقة منزوعة السلاح وأن تكون المسؤولية عن الأمن فيه بيد إسرائيل). وهذه المقايسة تهدف، من بين أمور أخرى، إلى أن تشي بقدرة أو عدم قدرة إسرائيل على أن تكون الجهة الحاسمة في ما يتعلق بمواصفات “اليوم التالي”، مع الأخذ في الاعتبار أن كل ما يجري التخطيط له يمكن أن يفشل بسبب تلك النتائج.
وأول ما يصادفنا في هذا التركيز أن نظرة أغلب المحللين العسكريين إلى قدرة إسرائيل، من خلال جيشها الذي يُنعت بأنه “جيش لا يقهر”، على تحقيق تلك الأهداف أصبحت محكومة بالشكّ الكبير الأقرب إلى اليقين، كما يكتب كل من المحللين والمراسلين العسكريين لصحف يمكن اعتبارها ممالئة للحرب على غرار “يسرائيل هيوم” و”معاريف” و”يديعوت أحرونوت”، وهم يوآف ليمور وطال ليف رام ورون بن يشاي ويوآف زيتون على التوالي.
في هذه المساهمة سأستخدم أسلوب إجمال ما ورد بأقلام هؤلاء والذي من شأنه أن يؤمّن منظوراً يمكن أن نبني عليه بعض الرؤى المرتبطة بمآلات هذه الحرب. وبالوسع أن نجمل ما كتبه هؤلاء (وغيرهم طبعاً) في النقاط التالية:
(1) أثبتت وقائع نهاية الأسبوع الماضي أنه ما كان هناك أي مكان للتصريحات المبالغ فيها التي أسمعت في الأيام الفائتة، بما في ذلك في بعض استوديوهات قنوات التلفزة، وأوحت بأن الانتصار على حركة حماس قريب.
(2) لا شك في أن استسلام مئات الناشطين الفلسطينيين في القطاع- وفقاً لما يدعيه الجيش الإسرائيلي- هو مُعطى مهم، لكنه لا يحسم معركة عسكرية كتلك الدائرة في غزة. كما أن المساس الحادّ بكتائب حماس في شمال القطاع وفي مدينة غزة الذي قام به الجيش الإسرائيلي حتى الآن لا يحمل بشرى اقتراب الحسم القريب للمعركة ضد حماس في القطاع.
(3) بعد المرحلة الأولى من الحرب، فإن القتال غيّر طابعه وبات يتسم بملامح حرب الأنصار التي يكون الخطر الأكبر الماثل أمام جنود الجيش الإسرائيلي فيها هو من العبوات الناسفة كما حدث في نهاية الأسبوع الفائت في 3 أحداث على الأقل- اثنان في خانيونس والثالث في جباليا. ويبرز هذا الطابع صورة المقاوِم الفلسطيني الذي يفجّر العبوات الناسفة ويشتبك مع الجنود الإسرائيليين من المسافة صفر.
(4) إن مجرّد حقيقة أن مقاتلي وحدة “شاييطت 13” (وحدة كوماندوس بحرية تابعة لسلاح البحر الإسرائيلي) نشطت في الأيام الأخيرة في حي الرمال (في شمال القطاع) والذي يتواجد فيه الجيش الإسرائيلي منذ فترة طويلة، تشير بشكل لا يقبل التأويل إلى أن هناك ظاهرة استمرار القتال حتى في المناطق التي أعلن (من طرف مسؤولي الجيش) أنها أمست خاضعة إلى سيطرة عملياتية لقوات الجيش الإسرائيلي وهي تجري بطرق ووسائل مختلفة عما كانت عليه عند بدء الحرب، من جانب حماس.
هناك إجماع في وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن البيت الأبيض لم يحدّد تاريخاً لانتهاء الحرب، بحسب ما قيل لـ”أعضاء كابينيت الحرب” الأسبوع الماضي، خلال الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان إلى إسرائيل، إلا إن الحديث في الجيش يدور حول شهر كانون الثاني/يناير المقبل، و”الطموح الإسرائيلي” هو نهاية الشهر (المقبل) على الأقل
(5) المعارك غير المتوقفة في شمال القطاع، وآلاف المقاتلين وقادة حماس الذين يتواجدون في جنوب القطاع في مدن وأحياء رفح ودير البلح ودرج التفاح والنصيرات والبريج التي لم يدخل إليها الجيش الإسرائيلي بعد، والكشوف الجديدة التي أعلنها الجيش الإسرائيلي في الأيام الأخيرة وتشكل جانباً بسيطاً من قدرة حماس الاستراتيجية وبالأساس وسائل القتال التي لا تنتهي في أرجاء القطاع، تؤدي إلى أن يفهموا في الجيش الإسرائيلي ما يلي: إنهاء الحرب ما زال بعيداً شهوراً كثيرة، وأي إعلان قريب بشأن هزيمة حماس وطبعاً القضاء عليها لا يمت بأي صلة إلى الواقع، وهو بمثابة وهم.
(6) تنضاف إلى هذا كله أمور كثيرة، أعتقد أن أهمها ما أورده المحلل السياسي لصحيفة “يديعوت أحرونوت” نداف إيال على لسان أحد أعضاء “كابينيت الحرب” الإسرائيلي وفحواه أنه لا توجد بعد إجابة ونظرية قتالية للتعامل مع الأنفاق، مشيراً إلى أنه “ما دام لا يوجد حلّ بعد، فنحن في مشكلة”. وقال عضو “كابينيت” آخر: “سيكون هناك مزيج من الطرق، لكن لا علم لنا متى سيحدث هذا”. ووفقاً لما كتب إيال، على مدار الأعوام اهتموا في إسرائيل بالأنفاق الهجومية، تلك التي يخرج منها المقاومون ويطلقون النار، أو ينفّذون عمليات خطف، أو يتسللون إلى أراضي إسرائيل. والأنفاق الهجومية أقيمت أيضاً في داخل القطاع، بهدف مهاجمة قوات الجيش الإسرائيلي التي تناور وقتلها. إلا إن الأنفاق الجدية أكثر، تلك المخصصة لقيادات حركة حماس والمخطوفين، مختلفة، وهي استراتيجية، بحسب وصف الجيش لها والمصطلح المستعمل. وبموجب ما يؤكد الجيش، فإنها أكبر وأعمق بكثير، وتشمل مصعداً، وغرفاً حقيقية، وأجهزة اتصالات، وهي ليست “مُجرّد حفرة مظلمة” قد يبدو من السهل تدميرها ومنع استخدامها.
***
كانت هناك نقطة مهمة أخرى أثارت مزيداً من الاهتمام الأسبوع الفائت، مرتبطة بموقف الولايات المتحدة، حيث لمحت وسائل إعلام كثيرة إلى أنها بدأت تجاهر بتبرمها من تجاهل الحكومة الإسرائيلية دعوات واشنطن إلى محاولة تقليل عدد الضحايا المدنيين في القطاع. كما تكرّرت التقديرات بأن ثمة ساعة نهاية أيضاً وضعتها الولايات المتحدة، ليس لهدف القضاء على مقدرات حماس العسكرية والسلطوية، فهذه المسألة يمكن أن تحتاج إلى أشهر وربما أكثر، بل ساعة تعلن نهاية مرحلة الحرب البرية المكثفة، التي بدأت إسرائيل بها في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وهناك إجماع في وسائل الإعلام الإسرائيلية على أن البيت الأبيض لم يحدّد تاريخاً، بحسب ما قيل لـ”أعضاء كابينيت الحرب” الأسبوع الماضي، خلال الزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان إلى إسرائيل، إلا إن الحديث في الجيش يدور حول شهر كانون الثاني/يناير المقبل، و”الطموح الإسرائيلي” هو نهاية الشهر (المقبل) على الأقل. وفيما يتعلّق بالجيش وحده، يتعيّن عليه حتى نهاية هذه الساعة أن يسيطر بشكل مطلق على شمال القطاع (وبحسب تأكيد أغلب المحللين الإسرائيليين برهنت أحداث الأسبوع الماضي على أن هذا أمر صعب ودامٍ) وأن يحقّق إنجازات استثنائية في خانيونس، وأن يحاول الوصول إلى نقاط جنوباً أيضاً.
في هذه الأثناء ما زال الرئيس الأميركي جو بايدن يعرب عن تأييده المطلق لإسرائيل ويترجم هذا التأييد إلى مساعدات غير مسبوقة على أكثر من صعيد، سياسي ومالي وعسكري.
وقبل عدة أيام قام بايدن بالإضاءة التقليدية لشمعدان عيد الأنوار العبري (الحانوكا) في البيت الأبيض وقال للمشتركين في هذه المراسم إنه “من دون وجود إسرائيل وبقائها، لن يشعر أي يهودي في العالم بالأمن”، وكرّر أنه “لا ينبغي أن تكون يهوديّاً لكي تكون صهيونياً، وأنا صهيوني”. ولدى التطرّق إلى الحرب في غزة أكد بايدن أن المساعدات العسكرية لإسرائيل ستستمر حتى يتم القضاء على حركة حماس وأنه سيواصل بذل جهوده القصوى من أجل إطلاق سراح جميع الأسرى والمخطوفين.
ولا شك في أن هذه الحرب انطوت، في ما انطوت عليه، على إثبات تبعية إسرائيل للولايات المتحدة، ومثلما كتب محلل الشؤون الأمنية والاستخباراتية يوسي ميلمان، إذا كان لدى أحد في الحكومة الإسرائيلية، ومن الجمهور العريض، أي شك في تبعية إسرائيل شبه المطلقة للولايات المتحدة، فإن ما يقوم به الحوثيون (اليمن)، الذين يصعّدون ساحة البحر الأحمر في كل يوم يمر، يؤكد هذا الأمر أكثر من الحرب في غزة، وأكثر من المواجهة العسكريّة مع حزب الله في لبنان.
***
بإيجاز يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على غزة بمحوريها السالفين، ناهيك عن محاور أخرى لا بُدّ من تناولها في سياق لاحق، تضعنا أمام عملية تتضمن الكثير من الدلالات التي تصبح بمثابة مدونة قادرة على صوغ صورة جليّة نستطيع عبرها أن نحلّل إسرائيل، بالأساس في صيرورتها الراهنة.
(*) المصدر: “مدار“