عن غزة وتأليه الحرب.. وأولئك الذين لا يُهزمون

مرّت الساعات الست من موسكو إلى القاهرة بسرعة، فالشابان الجالسان بجانبي عند مخرج الطوارئ في الطائرة شعرا بحاجة ملحة لمشاركتي قصتهما خصوصاً وأنهما يُغادران روسيا نهائياً.

أحمد، طويل، هزيل البنية، شديد السمرة، تبدو على وجهه علامات حزن وتعب. من عائلة مصرية متواضعة. يعود إلى القاهرة بعد أربع سنوات قضاها في كلية الطب في قازان (تتارستان) بعد أن رسب في مادة أو مادتين ورفضت الجامعة إعادة تسجيله، فحزم حقيبة السفر الزرقاء التي جاء بها من مصر ومعها خيبة جديدة، وها هو يعود الى أهله محاولاً اقناعي والأرجح إقناع نفسه، بأنها مشيئة الله وإرادته.

أما خلف، وهو ندٌّ لأحمد من صعيد مصر، من عرب الصعيد تحديداً، فقد أصرّ على أن يشرح لي بالتفصيل عن التقسيم الطبقي الصعيدي وما يجمع ويُفرّق “الهوارة” عن العرب، وعن عمليات تقديم الكفن المستمرة لإنهاء حالات الثأر، وعن الزواج والمحرمات في الصعيد والطبقية وتقسيم الأراضي الزراعية، ليخلص إلى قصته وكيف رفضت عائلة ابنة خالته أن تُزوّجه إياها على الرغم من محاولات ثلاث لأمه وأخته، ووساطة لجدّه لم تفلح كلها بأي نتيجة. بعدها، جاء بعدها إلى روسيا ليدرس الطب وهو يعود اليوم إلى الصعيد بعد أن رسب في السنة الرابعة.

منذ السنة الأولى في كلية الطب أصبح الجميع يناديه “الدكتور”، وفتح اللقب غير المستحق طريق الحب إلى قلب ابنة خالته ودرب الرضى إلى عقل والدها لكن “الدكتور” الذي رفضته الجامعة يعود الآن مكسور الخاطر إلى الصعيد المصري ليهتم بالأرض.. والأرض في الصعيد، كما في كل مكان، “نعمة”، يقول خلف، ويضيف إنها مشيئته تعالى.

لا أعرف ماذا حلّ بـ”الدكتور” خلف، هل تزوج ابنة خالته؟ لكن الوقت بين موسكو والقاهرة مرّ بسرعة وحطّت بنا الطائرة فتمنيت للدكاترة جميعاً التوفيق، وذهبت إلى فندق المطار لأُمضي فيه ليلة واحدة وانتقل بعدها إلى الزمالك وتحديداً إلى “فندق وبرج أم كلثوم” على النيل.

على عكس الصور المتداولة، وجدتُ أن الفندق المطل على النيل بات متهالكاً وقديماً، والأرجح أنه لم يعرف التحديث منذ أيام الست أم كلثوم، أبواب الغرف فيه تُسرّب الضوء من الخارج، وصوت الريح يتسلل عبر الشباك مع أصوات الناس والسيارات ليحرمك النوم أضف إلى ذلك الحركة المتواصلة أمام الفندق.. وهناك المطاعم في الطابق الأرضي التي استملكت الطريق فمدّت الطاولات ونشرتها بشكل عشوائي تستقبل الناس حتى ساعات الصباح.

لدى وصولي إلى الفندق، قالت موظفة الإستقبال إن الفندق ممتلئ وأن غالبية النزلاء سعوديون وفيه عدد كبير من الفلسطينيين جاؤوا من غزة.

دخل طفلان المصعد معي، وقالا إنهما يسكنان الطابق العاشر، فلسطينيان من غزة، سألتهما كيف تركا غزة؟ فقال أحدهما، ويبدو الأكبر سناً، إنهما لم يتركا غزة إنما جاءا مؤقتاً إلى القاهرة. لم يفهم هذا الطفل سؤالي ولم أسأله أكثر.

***

خلال وجودي في القاهرة (في الثلث الأخير من تشرين الثاني/نوفمبر 2023)، أعلن عن وقف إطلاق نار مؤقت في غزة واتفق الجانبان على تبادل عدد من الأسرى المدنيين من الأطفال والنساء والمسنين والسماح بإدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر. أردت التوجه إلى رفح، فقيل لي إن الأمر يتطلب أياماً من الإنتظار خصوصاً للأجانب الذين يتوجب عليهم الحصول على إذن خاص من الإستخبارات وأيضاً من الجيش المصري.

بقيتُ في الفندق وحصل أن التقيت أم أحمد من عائلة عبد الحميد من فلسطين وعائلة ثانية من آل عوض الله وأخبروني عن يومياتهم في غزة وعن أصوات القصف والدوامة التي أخذت بطريقها آلاف المدنيين وعن عائلات أبيدت وأخرى نجا منها طفل يتيم، وعن صديق أحمد الذي قتل في غارة وعن أخته التي فقدت بصرها واحترق جسمها كاملاً وتحملت أياماً قبل أن يتم نقلها إلى مستشفى ميداني في رفح، حتى الوجع يدوم أكثر من اللازم هناك.

سألتهم عن أمكنة أعرفها في غزة، مدينة البحر التي تشبه مدن الساحل اللبناني على المتوسط، وعن المرفأ والصيادين والفندق الذي نزلت فيه مرات في العامين 2009 و2012 يوم كنتُ أغطي أحداث الحرب هناك، وعن الكنيسة وأماكن أخرى، فضلاً عن صدقاء لم أعد أعرف عنهم وعن عائلاتهم شيئاً منذ بدء الحرب.

استمعت إلى عائلات مجتمعة في الفندق، فتكونت لديّ عشرات الروايات حول الموت والدمار والمناطق التي سُوّيت بالأرض والأصوات التي لا تفارق آذان الهاربين من الجحيم.. والضجيج والطائرات بطيار ومن دون طيار والصراخ والموت اليومي المستعجل.

في اليوم التالي باكرتُ الشمس أمشي على ضفاف النيل، ولدى عودتي وجدت ثلاث سيارات أمام الفندق تحمل العفش والحقائب ورأيت أم أحمد ووليد وأحمد وفدى وعائلة أخرى لم أقابلها يُغادرون، إلى أين؟ سألتهم. أجابوا: إلى غزة.. فالهدنة قد لا تطول وهي فرصة لنعود إلى أرضنا وكرامتنا. غمزتُ أم أحمد بحسرة، وقلت لها: كرامتكم محفوظة، ولكن ماذا عن أولادكم؟ كرمال الأولاد طيب؟

“كرمال الأولاد راجعين.. وكرمال ما نترك أرضنا وديارنا، نحنا ما منتركش أرضنا.. خلينا يا خالتي نرجع على غزة”.

“خالتي” كلمة تختصر نصف حنان الأرض.

***

قبل أيام من زيارة القاهرة، زرتُ متحف تيتياكوف في موسكو. هناك استوقفتني لوحة “تأليه الحرب” لفاسيلي فريشتشاغين يرسم فيها بروعة واقعية كومة من الجماجم وعليها آثار رصاص أو ضرب سيوف تمثل عبثية الحرب وقسوتها وتختصر غرور القتل رسمها عام 1871، ونقش عليها الكلمات التالية: “إهداء إلى جميع الفاتحين العظماء في الماضي والحاضر والمستقبل”.

اللوحة التي رُسمت من أكثر من مائة وخمسين سنة أقرب ما تكون إلى عبثية حرب غزة وقسوتها. جيشٌ يُؤلّه الحرب ويُكدّس الجماجم ثم يدور حولها ليقتات من بقايا جثثها. فوق الجماجم في اللوحة تدور الغربان باحثة عن بقية حياة.

عن هذه اللوحة كتب الناقد الروسي المعروف فلاديمير ستاسوف: “في هذه اللوحة شيء أغلى وأرفع من القيمة الفنية للرسّام، فيها الشعور العميق للمؤرخ الذي يحاكم الإنسانية”.

***

في عصرنا الحالي كتب روبرت فيسك يصف الحرب قائلاً: “الحرب لا تتعلق بالنصر أو بالهزيمة، بل بالموت والقتل، إنها تمثل الفشل التام للروح الإنسانية”.

لا يمكنني النظر إلى ما يحصل في غزة من خارج هاتين “اللوحتين”، وقد تنقلت خلال ما يقرب من عشرين سنة بين غالبية الدول التي عرفت نزاعات وحروباً دموية وغطّيتُ أحداثها من العراق إلى سوريا فليبيا ومالي واليمن وغزة وأفغانستان وميانمار وغيرها.. وغالباً ما صادفت في تلك الدول أشخاصاً أغلى ما عندهم أرضهم وكرامتهم.

إقرأ على موقع 180  تحديات وفرص "الأمن القومي الإسرائيلي".. تقييد قوة حزب الله!

وأنا أودع تلك العائلات الغزاوية العائدة إلى أرضها بكرامتها، شدّ وليد على يدي وقال: “ادعيلنا الله يوفقنا”، وأرفقت أم أحمد تحية الوداع الأخيرة بعبارة: “ادعيلنا خالتي”.

ودّعتهم ووقفتُ ألوّح لهم إلى أن غابت السيارة فوق الجسر.

بقيت مكاني عاجزاً عن الحركة، استرجعت آخر مرة كنت فيها في غزة سنة 2012. حينذاك، سافرت من القاهرة إلى رفح في مهمة لتغطية الحرب، وصلت إلى رفح عند منتصف الليل ورحت أنتظر إذن الدخول، ورفضت الدعوات المتكررة للدخول عبر الأنفاق أو عبر مطار اللد، وكان زملائي قد سبقوني بيوم واحد عبر المطار وبقيت أنتظر عند المعبر إلى أن جاء الضوء الأخضر من القاهرة.

كانت الحرب متواصلة في غزة منذ أيام وتوقفت بعد أن قتلت إسرائيل 167 فلسطينياً في غارات جوية مماثلة لتلك التي تشنها اليوم. توقف القصف يومها بعد ثمانية أيام وبقيتُ أكثر من عشرين يوماً في مدينة البحر.

لم تفاجئني هذه الجولة من الحرب على غزة وقد حضرتُ قبلها جولتين بالعنف ذاته، وما عدا الأعداد التي تزيد في كل مرة فالمشاهد تتكرر: الحصار والقتل والقهر والتشريد والإذلال، والقتال والصواريخ والصمت القاتل، والتأييد الأميركي وشبه الصمت العالمي الرسمي القاتل، وبيانات الاستنكار والقلق الذي تبديه منظمات دولية غربية فقدت معنى وجودها أساساً. كلها مشاهد تتكرر.

حتى نبش القبور من أجل اغراقها بالمزيد من القتل والدم ليس جديداً وتدمير المنازل، قتل المدنيين العمد، استهداف المستشفيات وخنق الناس، حصارهم، تهديدهم، تجويعهم، الفراغ، السكوت بين صاروخين، وصوت الحجارة التي تسقط مع الشظايا كالمطر حين تتحسس رأسك لتتأكد أنك لم تمت، كل هذا لم يتغير.

لم يتغير أيضاً ما قدّمه الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب مرة جديدة وهي صورة مجردة للإنسان الآلة، الانسان المتوحش، كأن التاريخ لم يحصل، صورة عن همجية الإنسان المجردة.

الأبرز في واقعية الصورة لمن يحب الفن المجرد هو أن العالم يتفرج بصمت، كأنها لوحة فريشتشاغين في متحف تيتياكوف.

***

بعد زيارتي في العام 2015 إلى معسكر أوشفيتس بيركناو في بولندا شاهدت عن كثب تلك المأساة البشرية التي تعرّض لها اليهود في أوروبا وقرأتُ في الموقع شهادات وتواريخ توثق ما حصل وشاهدت أفلاماً عن مسؤولين أو إدارات محلية أوروبية إما التزمت الصمت وإما شاركت في إرسال اليهود إلى المعسكرات وقتلهم وإبادة أعداد منهم. هذا التاريخ الحاضر عبر عشرات آلاف النظارات والمقتنيات الخاصة والثياب الذين تركها هؤلاء وعبر الصور والأفلام، وعبر الشعور الذي يقبض القلب ويثقله بين جدران المعسكر، يلاحق الذين ساهموا في المحرقة والإبادة حتى بعد وفاتهم، وقد وضعت سلاسل حول قبور بعض القتلة بعد أن أصدر التاريخ حكمه المبرم فيهم.

أولاد هؤلاء أو من بقي منهم وأحفادهم في أوروبا يتفرجون اليوم على غزة ويشاهدون جنوداً يعبثون بمقتنيات أطفال غزة ويركبون دراجاتهم بعد أن قتلوهم، هل يحاول أحفاد النازيين شن الحملات الشرسة لمحو تاريخهم في القتل والتواطؤ والصاقه بالفلسطينيين؟

في زمن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وآلات القتل المتطورة والجندي المجهز أفضل تجهيز، يمكن لإسرائيل وجيشها وطائراتها الحربية أميركية الصنع أن تقتل مرة جديدة أكثر من عشرين الفاً وتقطع إرباً أطفالاً ونساءً وتهدم بيوتاً، ويمكن لإحساس الغرب بذنب قتل اليهود تاريخياً وتوظيف اليهود والإسرائيليين لهذا التاريخ في ابتزاز دائم ومتواصل أن يسهم في قتل بضعة آلاف وأن يُبيد المزيد من العائلات الغزاوية والفلسطينية، ويمكن للمدرعات أن تجرف كما تفعل الآن، البنية التحتية في الضفة الغربية، وتواصل قتل الأطفال والشبان في جنين والتنكيل بعائلات الاسرى وهدم بيوتهم، ويمكن للمستوطنين الوقحين، أن ينتهكوا ويهاجموا الفلسطينيين في أرضهم ويقتلوا ويحتلوا ويستوطنوا، لكن التاريخ يسجل وسيكتب ويرسم ويحكي عن تلك الشهوة وعن هذا القتل العمد وعن هذا الجنون الاستعراضي المريض.

***

خلال السنوات الاثنتي عشرة من عمر الرايخ الثالث (1933-1945)، ارتكب المسؤولون والمنظمات النازية عمليات إذلال علنية في ألمانيا والدول التي يحتلها النازيون وجعلوا اليهود أهدافاً للإذلال وكان الرجال اليهود يحلقون لحاهم بالقوة ويتعرضون للعقاب الجسدي ويُصوّرون عراة راكعين.

كان لهذا الإذلال العلني ثلاث وظائف أساسية: أولاً؛ زيادة معاناة الضحايا. ثانياً؛ تذكير الشعب الألماني بالمخاطر المترتبة على معارضة الحزب النازي، وثالثاً؛ التمهيد لقبول الجريمة عبر خلق مسافة بين النازيين وضحاياهم ما يسهّل ارتكاب أعمال عنف وقتل.

 في عام 1971، سألت الصحفية البريطانية جيتا سيريني، قائد معسكر بيركناو أوشفيتس فرانز ستانجل عن الغرض من إذلال الضحايا: “لماذا؟ إذا كانوا سيقتلونهم على أي حال، فما المغزى من كل ذلك الذل؟ لماذا القسوة”؟ أجابها ستانجل: “لتكييف أولئك الذين اضطروا إلى مشاهدة ذلك بصمت، إلى القبول ودعم السياسات لكي يتمكن النازيون من الاستمرار بالقيام بما فعلوه”.

لا حاجة للتشبيه، فالتاريخ لا يعيد نفسه، وحدهم أولئك الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم تكراره.

قتل أحمد عبد الحميد في العاشر من يناير/كانون الثاني وتشرّدت العائلة في أرضها بحثاً عن خيمة غارقة بالمياه.

في مواجهة الموت اليومي الذي جاء قبل أوانه سيعود الفلسطينيون.. سيعودون هكذا بكل بساطة: “كرمال الأولاد وكرمال كرامتنا وما نترك أرضنا”، هؤلاء لا يهزموا، لن يهزموا.

يبقى لنا نحن، أن نعيش مع تاريخنا، وأن نُحضر سردية محكمة لنُخبرها إلى أولادنا أننا شهدنا محاولة إبادة الفلسطينيين بطريقة وحشية، وشاركنا في حصارهم وقتلهم وذبحهم واهانتهم وتجويع أطفالهم وتهجيرهم وسرقة أرضهم واقتلاع زيتونهم، ولم نفعل شيئاً.

Print Friendly, PDF & Email
شادي شلالا

صحافي وكاتب عربي مقيم في موسكو

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هلْ "مُحمَّدٌ".. شخصيّةٌ كونيّةٌ أيضاً؟ (2/2)